أصداء

عجيب امرك أيتها الشعوب العربية!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

نعم عجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك تتنكرين لمسئولياتك التاريخية في هذه الحقبة الحاسمة من الزمان، وعجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك تأبين مواجهة التحديات التي قد تحدد مصيرك بين الأمم. نعم عجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك لا تتخلين عن مظاهر التخلف والانحطاط التي تشوهك صورتك التي كانت يوماً جميلة وزاهية، وعجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك تصمتين على وضعك الأعوج الذي وضعك في قاع المجتمع الدولي. ونعم عجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك دون غيرك من شعوب العالم ترفضين الحرية وترحبين بالقهر والقمع الكبت، وعجيب امرك لانك كسولة لا تسعين لنفض غبار الماضي السحيق سعياً وراء حاضر جيد ومستقبل مشرق. نعم عجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك ترفضين تماماً من يتحداك بالمنطق والعقل، وعجيب أمرك أيتها الشعوب العربية لأنك تتعامين عن الحقائق وتكرهين من يسعى لتفتيحك على واقع الأمور.

لم تكن ردود الأفعال المتشنجة التي صدرت اعتراضاً على محاكمة دكتاتور العراق السابق صدام حسين منطقية أو مقبولة. فهذا الطاغية تسبب في جراح لا تندمل و ألام بلا حدود ليس فقد لشعبه ولكن لشعوب المنطقة بكاملها. ومن ثم فقد كان قرار الأعدام الذي أصدرته المحكمة الوطنية العراقية الحرة بحق الطاغية في السادس من نوفمبر الجاري متوقعاً على نطاق واسع، بل وربما عادلاً في نظر غالبية العراقيين وجل دول الجوار وعدد من دول العالم، لان الدستور العراقي الجديد لم يمنع أحكام الإعدام. ولكن الجهابذة من أصحاب الحناجر الثورية المزعجة في هذه البقعة المريضة من العالم رأوا في خلاص العراقيين من صدام حسين اعتداء على العروبة وانتهاك للوطنية وإجتثاث للبعثية وغيرها من الشعارات الرنانة الجوفاء التي لا تغني ولا تثمن من جوع. لقد كشفت ردود الأفعال التي غاب عنها الوعي السليم وانتفى عنها الضمير الإنساني عن شخصية عربية سيكوباتية تبرر المجازر، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاعتداء على الحريات التي صدرت عن صدام والتي لا تزال تصدر عن حزبه وحلفائه من التنظيمات الإرهابية التي تقتل في العراقيين ليل نهار.

لم تكتف ردود الأفعال الممسوخة التي صدرت في بعض المدن العراقية السنية وعدد من الدول العربية بجرح مشاعر مئات الألوف من العراقيين وغير العراقيين ممن عانوا الأمرين من ظلم وغطرسة نظام صدام حسين ولكنها عكست أيضاً عدة مظاهر سلبية للعقلية التي تسيطر وتكاد تخنق الشخصية العربية. كان المظهر الأول هو تغليب العقلية الطائفية على العقلية الوطنية في صورة مؤسفة تنم عن الحقد والكراهية للأخر، ويبرز محنة العقل العربي الذي يفتقد للموضوعية والنزاهة والاعتدال والتسامح، ويضع مصلحة الطائفة الصغيرة فوق مصلحة الوطن ومقدرات الامة. لقد تركزت معظم المظاهرات الرافضة للحكم بإعدام صدام حسين في مدن ودول يشكل فيها المسلمون السنة أغلبية لا تخطئها العين. وإذا كان حزن السنة العراقيين بسبب طمعهم في استمرار سيطرتهم على زمام الأمور في العراق على حساب العراقيين الشيعة والأكرد وغيرهم من الطوائف العراقية، فإن حزن السنة في الدول العربية الأخرى جاء بسبب التنافس الكبير الذي تشهده العراق ومنطقة الخليج بين الطائفتين المسلمتين السنية والشيعية، ومن ثم فقد كان حزن العرب السنة بسبب الخوف من تصاعد النفوذ الشيعي الإيراني داخل العراق وفي منطقتي الخليج والشرق الأوسط.

المظهر الثاني الذي عكسته ردود الأفعال العربية المعترضة على محاكمة صدام حسين هو تغليب العقلية الدكتاتورية على العقلية الديمقراطية في مشهد مؤلم يكشف بوضوح مدى تخلف الشخصية العربية ومدى الفالق الحضاري الذي يفصل بين العالم المتقدم من حولنا والعالم الرجعى الذي نعيش فيه. من المثير للدهشة وجود عدد كبير من السياسيين المعارضين والمثقفين العرب الرافضين لفكرة التخلص من حقبة الدكتاتور السابق. الغريب أن هؤلاء السياسيين والمثقفين العرب كثيراً ما يتشدقون بشعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في بلدانهم التي تخضع لنظم سياسية قمعية لا تقل بئساً عن نظام صدام حسين السابق. لست أدري كيف يجرؤ هؤلاء على مواجهة شعوبهم، ولكن من المؤكد أن تأييدهم اللامحدود الذي قدموه لصدام حسين طوال فترة حكمه وبعد تنحيته يعد دليلاًً عميقاً على زيف شعاراتهم المتمسحة بالديمقراطية. وفي هذا الصدد لست أجد في وجود القوات الامريكية في العراق الذي يتخذه البعض مبرراً لرفض محاكمة صدام حسين، لأنه لم يكن من الممكن السكوت عن إجرام صدام وعن تقديمه للعدالة بعدما تمكن العراقيون من الإمساك به، هذا فضلاً عن أنه لا ينبغي لأحد أن ينسى أن غباء سياسات صدام جسين كان السبب الرئيسي في مجيء الأمريكيين للعراق.

كان تغليب العقلية المؤامراتية على العقلية الموضوعية هو المظهر اللاموضوعي الثالث الذي عكسته ردود الأفعال المعارضة لمحاكمة صدام حسين. فقد سارع الرافضون بكيل الاتهامات لهيئة المحكمة الوطنية العراقية، وللحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطياً، وللمواطنين الشيعة والأكراد الذين احتفلوا بسقوط الطاغية، وللكتاب العرب الذين رحبوا بذهاب صدام عن حكم العراق بغير عودة. لم تقتصر الاتهامات هنا على ذلك وإنما امتدتلتشمل توجيه الاتهامات للأمريكيين بتخريب العراق وتقسيمه وفرض حالة من الفوضى وإشعال الحرب الأهلية بين الطوائف العراقية المختلفة. لست هنا في موقف الدفاع عن الامريكيين الذين أخطأوا كثيراً ولا زالوا يخطئون، ولكن المهم هنا هو أن المقصود به، في اتهام الامريكيين بالتسبب في حالة الانهيار الأمني التي يشهدها العراق، هو عدم تحميل المسئولية للمجرمين الحقيقيين الذين ينحرون المئات من الشعب العراقي يومياً.

لا يساورني الشك في أن من مصلحة الأمريكيين إحلال السلام والديمقراطية في العراق، ربما ليس حباً في العراق، ولكن سعياً لإظهار نجاحها محلياً وإقليمياً وعالمياً. لقد خسر الأمريكيون كثيراً من أبنائهم وسمعتهم بسبب الأوضاع المتدهورة في العراق حتى بات شبح فشل مهمة "تحرير العراق" يلاحق الامريكيين كما حدث في فيتنام. لقد وضعت الولايات المتحدة آمالاً عريضة على مهمتها في العراق، وتمثلت هذه الأمال في تفريخ المزيد من النظم الديمقراطية في الشرق الأوسط، لذا كان ولا زال نجاح المهمة يشكل أولوية لدى صناع القرار في واشنطن. لذلك فإن براءة الولايات المتحدة من دماء العراقيين التي تسيل يومياً تكاد تكون مؤكدة. من الثابت أن تحالفاً بين المتأسلمين الإرهابيين أعداء تعددية وحرية الشعب العراقي، والبعثيين والقوميين أعداء النجاح الامريكي في العراق قد تشكل للعبث بحاضر ومستقبل العراق، دون أن يملك أحد من مؤيدي الدكتاتور السابق الشجاعة للاعتراف بهذا التحالف الخطير. لقد تمكنت العقلية المؤامراتية من عدد كبير من السياسيين والمفكرين والمثقفين والمواطنين العرب فاختفت العقلية الموضوعية وأصبحت الثرثرة بالمؤامرات على الشعوب العربية التشخيص الوحيد لكوارثنا الداخلية ومحننا التي نسببها نحن لأنفسنا.

لقد كان عزل صدام حسين من الحكم حلماً لطالما تمناه جميع المنصفين والأحرار ليس فقط في العراق ولكن في مناطق كثيرة من العالم المتحضر. ولقد كان عزل صدام عملاً إيجابياً يستوجب الثناء لكل من ساهم تحقيقه من شهداء عراقيين وغير عراقيين ممن سالت دماؤهم على أرض العراق خلال الثلاثين عاماً الماضية. لقد ضحى مئات الألوف بأنفسهم حين حكم صدام العراق، ولا يزال مئات الألوف يضحون بالغالي والنفيس على أيدي الإرهابيي المتأسلمين الذين يعبثون فساداً في العراق حالياً. ورغم معارضتي الشخصية الشديدة لأحكام الإعدام بصفة عامة، إلا أنني لست أرى سبباً واحداً يدعو أصحاب الحناجر الصاخبة لاعتبار صدام حسين شهيداً للإمبريالية الأمريكية كما يزعمون، فتاريخ هذا الطاغية يشهد دون لبس على دمويته وإجرامه. لقد كان من الممكن القبول بهذه الأصوات إذا ما كانت دعواهم بسبب معارضتهم لاحكام الإعدام احتراماً لمباديء حقوق الانسان، ولكن ذلك لم يحدث. فلقد كانت الاعتراضات على تقديم صدام للمحاكمة باعتباره بطلاً قومياً تحدى، باطلاً، القوة الأعظم في العالم.

أن رفض محاكمة صدام على ماضيه الأسود هو صك غفران لكل دكتاتور، وهو يفتح الباب لتبرير الأعمال الإرهابية التي ترتكب بحق الشعب العراقي هذه الأيام. لقد كان أولى بالعراقيين الرافضين لمحاكمة صدام أن يعملوا لوقف حمامات الدم التي يغرق بها العراق وان ينعموا بصفحة جديدة من الحرية والشفافية والاستقلال بعد مغادرة قوات التحالف. ولقد كان بالأولى بالحناجر الشاذة أن ترفض إجرام صدام وإرهاب المتطرفين الذي يستمر في حصد الأرواح البريئة في العراق. ولقد كان أولى بالسياسيين والمثقفين العرب الرافضين لتقديم صدام حسين للعدالة أن يتسقوا من أنفسهم وشعاراتهم وأن يلتفتوا إلى تحرير بلادهم من وبلات الطغاة التي يحكمونها. لقد كان أولى بالرافضين لمحاكمة صدام حسين أن يتخلوا عن العقليات الطائفية والدكتاتورية والمؤامراتية لمواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه العراق حالياً. لن يكون هناك خيط نور في مستقبل الشعوب العربية إن لم تكن هناك عقليات وطنية صادقة وعقليات ديمقراطية واعية وعقليات موضوعية أمينة. ستبقى الشعوب العربية أسيرة التخلف تتقاذفها القوى الدولية الكبرى والمتوسطة وحتى الصغيرة إن لم يقدم كل طاغية إلى العدالة. وستبقى الشعوب العربية ضحية للقهر أن لم يكن هناك ضمير يميز بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل. فهل يسمع أصحاب الحناجر المؤذية؟

جوزيف بشارة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف