شيخ المعماريين محمد مكية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
متى نكرّم علماءنا ونحتفي بهم؟
(ما أنْ سكتتْ شهرزادُ عن الكلام المباح حتى ايقظ البصرَ بألفِ صورة وصورة)
لا أريد الدخول الى رحاب هذا الصرح الشامخ من باب العمارة التي ابدع فيها وتعامل مع مفرداتها، كما يتعامل الشاعر المبدع مع مفرداته اللغوية، لأني لست معماريّا. لكني وجدت فيه عمارة انسانية تمنحك ظلاً وارفاً ونوافذ تأخذك الى الدهشة، فليالي بغداد ادركها الصباح وسكتت عن الكلام المباح فأنطق فيها شيخ المعماريين لغة العيون فصارت الف صورة وصورة، وكل صورة تحكي لك الف عشق وعشق لبغداد، فمحلة ( صبابيغ الآل ) واحدة من مراكز العشق لبغداد، فكما أن جلال الدين الرومي مازال في منعطف جادة واحدة من مدن العشق السبع، فكذلك ما تزال ذاكرة شيخ المعماريين تطوف في منعطف محلة ( صبابيغ الآل )، تلامس جدرانها وتسترجع صدى احاديث العشية في مقهى الطرف او دواوين بيوتاتها، وتحس اوجاع اهلها. ويدب خيط الذاكرة فيأخذك الى ( سوق الغزل ) فتتشابك الذكريات كتشابك الغزل، والذي يزيد من متعة الذكريات هي أنها تنساب على لسان المعمار محمد مكية، حيث عاشها ويعيشها بكل حواسه و وجدانه. وبعينه اللمّاحة تلمّس نسيج المدينة بكل تفاصيلها، ومع امتداد التفاصيل تمتد الحواس لتتماهى مع اصوات الباعة وصدى المآذن واجراس الكنائس وظلال الشناشيل البغدادية المثقلة باسرار البيوت وزغب طيور السنونو( السند والهند ) كما يسميها اهلنا في العراق، وتندفع احاسيسه قبل حواسه صوب زفير معبد التوابل وقبلة البهارات والعطور ( سوق الشورجة ) بطقوسه البغدادية العتيدة، فذاكرته ما تزال مضمّخة بتلك الروائح التي تقول اشياء كثيرة عن بغداد وتاريخ بيوتها، ولم توفر عين الدكتور مكية الازياء والملابس البغدادية، لقد كان لها حضور مميز لديه، فهي التي تخبر عن لابسيها وتشكل جزأ مهما من هويتهم، وكان مع مقولة ( أرني ماذا تلبس اقل لك من انت ) فكان يستعين بشكل ونوعية الملابس لقراءة تاريخ الشعوب، لذلك تجد مكتبته غنية بالمصادر الراقية التي تهتم بالأزياء والملابس وتاريخها، فملابس اهل بغداد لها دلالاتها ومعانيها لديه، فللتجار لباسهم وللمشايخ و( الاسطوات ) زيهم، و قارئ المقام يتميز بما يلبس وهكذا باقي الناس. وبهذه الإلفة والحميمية عاش الدكتور مكية مع باقي مفردات المحلة والمدينة، يستنطقها ويصغي اليها، حتى( الرحى ) المنزلية لطحن الحبوب والهاون وهو يسحن ( الهيل ) و( الدارسين ) يشكلان حيزاً من لوحة الفلكلور البغدادي في ذاكرته مع الحناء والملبس والشموع المسافرات على ظهر دجلة من اجل الحضور.
عندما يخرج الدكتور مكية من بغداد فانك لا تجده إلاّ في عاصمته الاخرى، الكوفة، وعلى ذكرها في يوم طلب مني أن أصور بعض لوحات خط كوفي، وما أن تحدثت معه حول بعض تفاصيلها حتى شعرت بان الحديث عن الخط الكوفي صار كبساط الريح، فوجدت نفسي في حاضرة الكوفة بتأريخها وحضارتها وعلمائها ودورها الريادي في الحضارة الانسانية، ولشدة حبه للكوفة واعجابه بماضيها وعظمة دورها الحضاري وكونه مسكوناً بها اراد ان يعيد لها ذلك الدور او بعضه من خلال المشروع العملاق الذي تبنّاه، وهو ( جامعة الكوفة )، هذا المشروع الذي عمل له بكل طاقته وباصرار لا يعرف الملل او التراجع، وبقي الهاجس الذي لا يفارقه، فالكوفة مدت جذورها في اعماقه لتتشابك مع جذور النخلة التي عشقها عشق حضارة سومر واهوار الجنوب.
تحية إجلال وإكبار وتقدير للاستاذ الكبيروالمعماري الفنان الدكتور محمد مكية، منّ الله عليه بالشفاء ومدّ في عمره الكريم ونفعنا بافكاره الرائدة.
حسين السكافي
لندن