القاهرة كمان وكمان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما أصعب الكتابة.. إنها طرق على أبواب المعنى، بقبضة الكلمات.. محاولة لهز قضبان الذات السجينة بين جدران اللغة.. هراء؟؟ لست بحاجة لهذه الفذلكات، فالكتابة عن القاهرة ليست معجزة أجترحها..بوسعي أن أفتح أية موسوعة وأقتبس ما أشاء، عن هذه المدينة، التي بدأت فسطاطا ( معسكرا ) لإبل العرب، وأصبحت فسطاطا لسيارات الأجرة والأمن المركزي..بإمكاني أن ألقي نظرة سياحية على مباني ( وسط القاهرة ) وأتخيّل الزمن الليبرالي والباشوات والطرابيش، وكل ما تلاشى وراء النقاب والحجاب، أو تشقق كأحذية المصلين البالية.أستطيع أن أتذكر عبدالوهاب، والنيل والأضواء، والمسحة الأرستقراطية لقاهرة الأربعينيات، وأنسى ضجيج السيارات، والباعة، وزعيق كاسيتات الدعاة، والعوادم الخانقة.. تذكرت.. ياللصدفة !! لقد زرت القاهرة في نفس الفترة الشبحية، التي مرت على أوروبا عام 1582..آنذاك توقف التاريخ فجأة!! نام الناس ليلة 4 أوكتوبر( تقويم يولياني) واستيقظوا صبيحة 15 أوكتوبر..كل ما حصل أثناء نومهم، ان البابا غريغور الثامن، قام بنزع عشر أوراق من الروزنامة دفعة واحدة ( فيما سميّ بالإصلاح الغريغورياني للتقويم) يا لغرابة الصدف!! قلت في نفسي، ربما يكون السفر هو هروب في الزمن الشبحي من لامعنى إلى آخر...لا.. لا..القاهرة مدينة تأسر الحواس؟؟ هراء!!..أقول ذلك لأني كنت مدججا باليورو، الذي أطلقه كالصقر ليفترس الجنيه المرتعش..أجل كنت هناك لأروي زهرة النرجس العطشى، التي كادت تموت في الغربة الباردة...لا لن أكتب شيئا!! فالقاهرة، هي القاهرة..أم الدنيا، خالة الدنيا، ضرتها ليس مهما، سأكتب عن شيئ آخر ألم بي وهز كياني:
ميدان طلعت حرب، أشبه بروما فكل الطرق تؤدي إليه..هناك كنت أتسمر قليلا أمام مكتبتي مدبولي، والشروق ثم أبدأ رحلتي التي تحط أحيانا بالقرب من الحسين..أما طريق العودة إلى الفندق، فيلزمه حاسة الإهتداء عند الطيور، ولكوني فقدتها منذ ملايين السنين.. كنت مضطرا لتكرار نفس الجملة بدون كلل: شارع محمد فريد لوسمحت؟ شارع محمد فريد من فضلك..أحيانا يصبح هذا السؤال مقدمة للدخول في مقدمة ابن خلدون، والإبحار في التاريخ والإجتماع البشري..فالفضول على مايبدو مهنة الناس جميعا( وليس مهنتي وحدي )..أما الحادثة الجلل التي أرويها، فقد بدأت فصولها في منطقة العتبة. ( وما أدراك ما العتبة )مكان يحتشد فيه خلق كثير، وآلاف من العربات والأكشاك والباعة..قبيل الإفطار ترتفع عصبية الناس وعجلتهم وضيق نفسهم، واستطيع القول( وأنا بكامل قواي العقلية ) بأن الكثافة البشرية في العتبة تساوي كثافة الحجيج عند رمي الجمرات..هناك وسط ذلك الحشد الجماهيري، داهمتني حاجة ملحة لمرافق صحية ( بالعربي: تواليت) ثمرة أينعت وحان قطافها، بعد يوم من التسكع، والتسلل إلى بعض المقاهي( المفتوحة أثناء رمضان على خجل)، وبتعدد زيارات التدخين تعددت كؤوس الشاي التي تجرعت..أصبت باحتقان رهيب.. في ريفنا الشامي نسمي العملية ( تطيير الماء ) والدلالة جاءت على مايبدو من عادة التبول على الهواء مباشرة، في براري الله الواسعة..وتسمى بالفصحى ( الإستنجاء )وقد تركت لنا المدوّنات العربية شروطا مهمة للإستنجاء ( خصوصا التغوّط ) حيث ألح البعض على ضرورة استخدام حجر( طاهر، أملس، قالع ) واستمر هذا التقليد إلى أن أجاز المذهب الحنفي استخدام الماء في التنظيف ( لذا أطلق العرب على صنبور الماء اسم الحنفية )..وعودة إلى المصيبة التي كنت فيها، فالسؤال وسط تلك الجموع عن تواليت كان يبعث على الإبتسام والشفقة بآن معا.. بعض المحال المفتوحة وأصحاب المطاعم الصغيرة، المنهمكة في إعداد وجبة للصائمين، أشاروا إلى محطة بنزين قريبة، سلمت أمري ومشيت لكن مقاومتي بدأت تتهاوى..فكرت لحظة..أأفعلها على تفسي ثم أبكي كطفل فقد أمه في الزحام ؟؟ وصلت..يا إلهي ماذا أفعل.. فمحطة البنزين الموعودة، لاتحوي مكانا لهذا الترف الإمبراطوري..أشرت إلى سيارة تاكسي...وتمنيت لو أنه يطير فوق السيارات، كي أصل الفندق وأدخل بيت الراحة على راحتي...غير ممكن... فالإزدحام شديد ومرور سيارة من ثقب الإبرة أهون من مرورها في الشارع..قفزت من التاكسي بعد أن فقدت الأمل..في تلك اللحظة المصيرية من تاريخي، وبينما كنت كالمتشبث بغصن كاد ينكسر، لمحت علامة لمحطة المترو( رمسيس)! هرولت مسرعا، وهبطت الأدراج، وسألت شرطيا ( يرتدي ثياب بيضاء كالملائكة )..أجاب هنالك تواليت مخصص للموظفين، يقع في الممرات التي يسلكها المسافرون إلى الجيزة.. إنما توجب عليّ شراء تذكرة للمترو، كي يتسنى لي فتح البوابة الآلية ( التي تشبة العتلة )...قفزت باتجاه شباك التذاكر..لكن سوء حظي، وقف لي بالمرصاد( كالعادة )..جموع غفيرة سبقتني إلى الشباك وأخذت تتدافع بالمناكب..قلت : لا حل ولا عزاء...أتوكل على الله وأبول على نفسي..لا.. لا.. عيب ( تذكرت للحال أغنية أشد بها أزري تقول: صح يا رجال أيوا صح..حنا للضيف والسيف والخيل والويل )عدت إلى شرطي آخر، ابتسم لي برقة، رجوته أن يفتح البوابة، باستخدام سلطته وحنكته وإنسانيته، وبعض جنيهاتي...أخيرا اجتزت المنعطف التاريخي قبل أن يتبلل سروالي.... (هل صدّقتم أنه لم يتبلل؟)
نادر قريط
كاتب سوري..فيينا