أصداء

الحروب الهلالية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في كتابه "الحروب الصليبية كما راها العرب" يذكر الكاتب اللبناني أمين معلوف قصة ذات دلالات رواها ابن الأثير اذبان فترة الحملات الصليبية على المشرق فيقول:"ويروي ابن الأثير أن الفرنج بعد سقوط القدس لبسوا السواد، وذهبوا إلى ماوراء البحار في بلاد الفرنج يطوفون بها جميعا ويستنجدون أهلها (ولاسيما رومية الكبرى) ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوروا المسيح عليه السلام وجعلوا صورة عربي، والعربي يضربه. وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح وقالوا لهم: (هذا المسيح يضربه نبي المسلمين وقد جرحه وقتله) فعظم ذلك على الفرنج فحشروا وحشدوا حتى النساء". لاشك في أن هذه القصة التي ذكرها (أمين معلوف) في كتابه تعكس حالة مشابهة يعيشها العالم الإسلامي اليوم، وأظنني أستطيع الجزم بأن القارىء الحصيف قد وصل لنتيجة مفادها بأن تلكم القصة التي ذكرها معلوف لاتختلف بأي حال من الأحوال عن الأحداث التي حصلت مؤخرا نتيجة نشر إحدى الصحف الدنماركية لرسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد (ص)، كما أن الاستغلال السياسي لتلك الوقائع التي حدثت في القرون الوسطى من قبل الصليبيين لايتباين عن نظيره الذي استخدم من قبل "الهلاليين" في الأمة الإسلامية لتمرير مشاريعهم الظلامية والعبثية. فعلى الرغم من حقيقة الإساءة للنبي الأكرم (ص) في الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت في الصحيفة الدنماركية، فإن سوء الإستغلال الذي حصل من قبل بعض الأصوليين لهذه الأحداث من أجل "تجييش" الجماهير المسلمة خلف أهدافهم الساعية لتقسيم العالم إلى "فسطاطين"متمايزين قد برز واضحا جليا.. خير دليل على هذا التوجه ماذكره الزعيم الأصولي (ناصر العمر) في محاضرة له بعنوان (أحداث الدنمارك وبشائر الإنتصار) حيث يشير للنتائج "الخيرة" لهذه الأحداث ومنها حسب رأيه: "إظهار اليهود والنصارى على حقيقتهم، في وقت كثر فيه الكلام عن تسامحهم ودعوى التقارب والتعايش معهم"!!!. لاريب في أن ماذكره العمر يعبر وبصورة عميقة عن الأهداف التي سعى لها الأصوليون من وراء الحملة المناهضة للرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص)..إلا أنه يثير التساؤلات أيضا عن العوامل التي تدفع الجماهير البسيطة للإنقياد وراء "الهلاليين" فيمايسعون إليه من أهداف.. من الضروري هنا استذكار ماأشار إليه السيد "سعيد عبد الفتاح عاشور" في "تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى" ًص89-90 وذلك للفت الانتباه للشبه الشديد بين الحملة الصليبية الماضية ونظيرتها "الهلالية" الحالية..يقول الأستاذ سعيد:"كان الناس العاديون في أوروبا يعيشون في أوضاع مزرية من الفقر وتكرر المجاعات والأوبئة التي فتكت بعشرات الالاف..ففي عام 1094 انتشر الطاعون فقلت الأقوات في الوقت الذي ازدادت أعداد السكان." إذن، وكما أن الإنفجار السكاني، وازدياد معدلات الجوع والبطالة، وسيطرة الكنيسة "البابوية" على مقدرات الحياة في أوروبا قد دفعت الأوروبيين في فترة زمنية مظلمة من تاريخهم للإنخراط في حملة همجية اجرامية، هدفها الظاهر استعادة بيت المقدس والحفاظ على "الصليب" المسيحي، وهدفها الباطن "تصدير" المشكلات الداخلية العميقة التي تعيشها أوروبا نحو "عدو" خارجي يسهل حشد الصفوف ضده، فإن نفس تلكم العوامل قد دفعت "هلاليي" هذه الأمة إلى تجييش الجيوش وحشد الحشود سعيا لإستثارة الجماهير البسيطة ودفعها للإنخراط في أزمات خارجية "تلهيها" عن الكوارث الداخلية التي تعيشها، وتضمن لأولائكم "الهلاليين" السيطرة على مقاليد هذه الجماهير وسوقها وراء أهدافهم ورغباتهم..


وعلى ضوء هذا التوجه، يصبح من الممكن فهم مغزى التصريحات التي أدلى بها الشيخ القرضاوي لجريدة "الشرق الأوسط" تعليقا على الأحداث الناجمة عن نشر الرسوم الكاريكاتورية.. ينقل (مشاري الذايدي) في مقاله في الشرق الأوسط بتاريخ (3 مارس2006) عن الشيخ القرضاوي تعليقه على أحداث الرسوم فيقول:"مؤكدا (أي الشيخ القرضاوي) حاجة الأمة إلى منبهات تنبهها من الركود، وأن ماحدث هو محرك للامة".. إذن، فالرسوم الكاريكاتورية المسيئة، وإن كانت مسيئة بموضوعها، فإنها ليست كذلك إذا ماتم "استغلالها" من قبل "الهلاليين" لرص الصفوف وإشعال حرب عالمية جديدة تحرر الأراضي الإسلامية المغتصبة من تيمور الشرقية وإلى الأندلس، وتضمن استعادة بيت المقدس معززا مكرما.

واذا كانت هذه الحملة "الهلالية" الجديدة تحمل أجندة تستهدف "العدو" الخارجي، فإنها لاتغفل "العدو" الداخلي المتامر والذي يسعى لهدم النظام الأصولي "الشمولي" الذي يحلم به الاصوليون. فلنعد للتاريخ من جديد ولنر الطريقة التي تصرف بها الصليبيون مع الطوائف المسيحية الأخرى. يشير أمين معلوف في كتابه (الحروب الصليبية كما راها العرب)ص78 لكيفية تعامل الصليبيين مع المسيحيين من أتباع المذاهب المسيحية الأخرى فيقول: "وحتى إخوانهم في الدين أنفسهم لم يوفروهم، وكان من أول ما اتخذوه من تدابير (أي في القدس بعد احتلالها) أنهم طردوا من كنيسة القيامة جميع الكهنة من الطقس الشرقي-روما وجيورجيين وأرمنيين وأقباطا وسريانا- الذين كانوا يقيمون القداديس معا تبعا لمذهب كان جميع الفاتحين قد احترموه حتى ذلك الحين". وتفسر موسوعة ويكيبيديا الالكترونية ذلك بقولها فيما معناه أن البابوية قد رأت في السيطرة على الأرض المقدسة دعما كبيرا لنفوذها، كما رأت أيضا في السيطرة على الكنيسة الشرقية بالقسطنطينية وسيلة لإعادة توحيد الكنيسة تحت ظلال البابوية. هذا التوجه الذي تبناه الصليبيون والذي كانوا يسعون بمقتضاه لتوحيد الكنيسة المسيحية لايختلف كثيرا عن النفس الذي يتحدث به "الهلاليون" الأصوليون في أيامنا هذه.. يذكر موقع (المسلم) للزعيم الأصولي (ناصر بن سليمان العمر) كلاما لافتا في هذا الصدد اذ يذكر في موضوع بعنوان "الشيعة يتحدون لقتل المسلمين السنة في العراق" بتاريخ 24/1/1427 مايلي:"وليس بعيدا من الإنفجار، يقف الموساد الإسرائيلي الذي بات متوغلا في الكثير من مراكز صنع القرار الشيعي ومكاتب المراجع الشيعية الكبيرة، وهو ماأكده جواد الخالصي، أحد قادة المدرسة الخالصية الشيعية في العراق، لموقع (المسلم) في حوار أجري معه مؤخرا، أشار فيه إلى أن بعض من يساهم في صنع القرار داخل الحوزات والمرجعيات الشيعية من العناصر المندسة من الخارج،ومنهم الموساد". هنا يبرز مسعى الشيخ العمر للربط بين العدو الخارجي "الصهيوني" والعدو الداخلي "الشيعي" كمحاولة مشابهة للغاية لتلك التي قام بها الصليبيون للربط بين هدف تحرير بيت المقدس من العدو الخارجي "الإسلامي" في حينه وغرض توحيد الكنيسة المسيحية. ولاتتوقف مساعي "الهلاليين" الأصوليين لتوحيد "الكنيسة" الإسلامية عند التحريض على الشيعة، كما فعل العمر، أو قتلهم، كمافعل ويفعل تنظيم القاعدة في العراق وأفغانستان، بل تمتد لتشمل الأقليات الأخرى كالمسيحيين والبهائيين والفرق الصوفية المختلفة.. وتجدر الإشارة هنا للدور الذي لعبه الدكتور زغلول النجار في تهييج المشاعر ضد المسيحيين أثناء أحداث الإسكندرية وتحذيراته من خطر الوجود البهائي في مصر، وللإعتداءات الدموية ضد الفرق الصوفية في باكستان وهو ما أشار له الكاتب السعودي د.جمال خاشقجي في مقالته بجريدة (الوطن) السعودية بتاريخ 18 أبريل 2006.

انسجاما مع هذا السياق والتوجه الأصولي المدمر، تأتي الفتاوى الصادرة من منظري التيار "الهلالي" لتسبغ المشروعية على الأعمال الهمجية التي يقوم بها هذا التيار، فغسل أدمغة الشبان والمراهقين بالوعود بجنات النعيم والتمتع بالحور العين وامتلاك أنهار الخمر،والتي هي حقائق قرانية لاشك بها وإن كانت تستخدم لغير غرضها، لاتختلف كثيرا عن شبيهاتها التي كانت تصدر من قبل "بابوات" القرون الوسطى أثناء الحملات الصليبية.. تذكر مجلة (النبأ) في العدد (45) صفر 1421ه ايار2000 بعضا من التوصيات البابوية التي صدرت في ذلك الحين والتي تماثل لحد مذهل دعوات "الهلاليين" في وقتنا الحاضر فتقول:" أما القرارات التي أصدرها المجمع الكنسي الذي عقد في (كليرمونت) في العام 1095 فقد لخصت المشروع الذي قدمه البابا (أوربان) الثاني ودعا فيه إلى قيام الحملة الصليبية الأولى على النحو التالي: (أن كل من يرحل إلى بيت المقدس بدافع التقوى والورع وبهدف تحرير كنيسة الرب وليس بغية الحصول على المجد والمال فإنه يستطيع بهذه الرحلة أن يكفر عن ذنوبه واثامه كافة)" اذن، فكما وجد الصليبيون البابا (أوربان الثاني) ليسبغ المشروعية على حملتهم، فإن "الهلاليين" الأصوليين يملكون من "الأوربانات" الأصولية الشيء الكثير. فبدءا بناصر العمر وعبد الصبور شاهين، مرورا بعمر بكري ورموز تنظيم القاعدة، وانتهاء بزغلول النجار وغيره، يشكل زعماء "الهلاليين" الأصوليين حزاما ايديولوجيا يغطي العالم الإسلامي ويقوده إلى صراع مدمر مع الحضارات الأخرى، وذلك بالانسجام الكامل مع التطبيق العسكري لهذه الايديولوجيا المتكاملة والتي يتكفل بها تنظيم القاعدة.

اذن، فالتاريخ يعيد نفسه وإن بمسميات مختلفة وتحت عناوين مغايرة.. يبدل جلده "الصليبي" باخر "هلالي"، يبكي صليبيوه بيت المقدس بنفس الحرقة التي يقسم بها "هلاليوه" على استرداده، يضطهد فيه صليبيوه ابناء دينهم تماما كما يهين فيه "هلاليوه" أقلياتهم. يلوح به صليبيوه بصكوك الغفران وغسل الاثام، بالطريقة نفسها التي يتغنى بها "هلاليوه" بالفردوس وجنات النعيم.

ولعل العزاء، ان كان لنا من عزاء، أن هذا التاريخ ليس في أي حال من الأحوال بأكثر من وصف للماضي. ولذا، فإن قساوسة هذا التاريخ ورهبانه وبابواته، تماما كشيوخه وفقهائه وعمائمه ليسوا إلا متاع هذا الماضي الغابر. فبربرية الحروب الصليبية قد خلفت من ورائها بعد اندثارها بشائر الحرية والتنمية، والتي شملت عموم القارة الأوروبية.. وبالمثل، فإن ظلام "الحروب الهلالية" سيتبدد، عاجلا أم اجلا، عند بزوغ "صبح" الديموقراطية والإصلاح الديني بالعالم الإسلامي، وهذا الصبح قادم لامحالة، شاء ذلك "هلاليو" هذه الأمة أم لم يشاءوا، إن موعدهم الصبح، أو ليس الصبح بقريب؟؟

الدكتور أٌبي بن عبد المحسن الخنيزي

(كاتب سعودي).
البريد الإلكتروني:
oubay2000@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف