إستذكارات عن حرب الخليج الثانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فصل لم يكتمل بعد وسبقته فصول
أخرجت قبيـّـل ثوان ٍ،
من دولاب ضياعي،
زيّ الكاكي..
فإنبثقت ذاكرة الحرب،
أراها..
تتدفق مثل نوافير نبيذ أحمر..
وشممّت دقائق
رائحة العشب خليطا بالبارود..
راحت أيام المدني..
ياجان !!
مكثت فوق اللوري مايناهز الساعة.. حتى وصل الى مخفر الشرطة أحد ضباط الركن.. كان برتبة مقدم .. وجهه مدهون بسخام القنابل ودخان آبار النفط المشتعلة وقد شد ساعده الأيسر بخرقة معتمه يبدو أن الدم نشف عليها منذ وقت طويل.. دلف الى المبنى متعبا.. وبعد نصف ساعة خرج ذلك الضابط المكفهر الوجه بعد أن أزيل السخام عن سحنته السمراء بصحبة العقيد وصاحب اللوري، وهنا صعدت نظرات العقيد نحوي مبتسما وقذف لي سيجارة وهو يقول بصوت شابه اليأس.. دخن هذه السيجارة ولن تردد من إطفائها بعين السائق لو هددك بالنزول من الشاحنة...بينما صعد الضابط الجريح الى مقصورة السائق ولا أدري كيف وجد فسحة للجلوس بين غرماء السائق.. وأنطلق لوري الطماطة.. وأنا أبصر الكثير من العجلات المحترقة على جانبي الشارع من جراء قصف الطائرات، حتى أن صاحبنا السائق إضطر الى الوقوف أكثر من مرة بسبب الطائرات المغيرة، كل هذا القصف يحدث من الأمريكان مع أن وقف إطلاق النار ساري المفعول على ما أظن.. فلقد سمعت أحد أفراد الشرطة يرقص فرحا عند مخفر الشرطة.. وهو يردد (الريس ) قرر الإنسحاب من الكويت.. فرد عليه أحدهم.. مبروك راحت فلسطين وطنب الصغرى وأخياتها بالرجلين ؟؟ الواقع لم يكن رده بهذا الشكل بل اطلق صوتا من العيار الثقيل من فمه ( عفطة ) وقال منكسرا راحت فلسطين وجزر الأمارات جوّه الرجلين.. كانت كلمته الأخيرة شديدة الإحتجاج فضحكنا جميعا برغم أن قنابل الطائرات تتساقط على الجهة المقابلة من المخفر.. وسمعها العقيد.. أعني سمع كلمات الشرطي وهو يخرج علينا لكنه فضل الصمت فالذي يحدث أمامه لا يمكن أن يفرض به سلطته و بحذافيرها على أفراد شرطته وهو يرى قوافل الجنود الجرحى التي جاءت تتراكض تباعا الى مخفر الشرطة بحثا عن جرعة ماء أو كسرة خبز أو خرقة قديمة لشد جروحها النازفة.. بعضهم تسلق الشاحنة وجلسوا الى جنبي يتباكون من شدة الهلع وهم بدهشة كيف خرجوا من فم الجحيم.. بل أن أحدهم وضع عصير الطماطة على جرحه على أمل إنه يحمل بعض قطرات اليود.. لتعقيم جرحه النازف من خاصرته بشظية صغيرة.. وطوال الطريق كان يئن من جرحه ويقرأ سورا من القرآن.. ويردد الشهادة مع مرور كل طائرة فوق رؤوسنا الحالمة بالوصول الى منتجع آمن.. الذي أذكره قبل وصولنا الى الديوانية بدقائق صار ذلك الجندي الجريح يهلوس بالكلام وثمة ( وغف ) تجمع على فمه.. قلت لهم دعوه يموت بسلام.. إنها غرغرة الموت.. لكن الجريح هب من رقدته فجأة سرعان مافقد توازنه وطاح على صدر أحد الجنود بصمت مريع.. قال أحدهم لقد إستشهد.. وأجاب عليه آخر محتجا.. قابل نحن في التوجيه السياسي.. قل مات.. فأين منا الشهادة ونحن الغزاة.. عرفت أن هذا الأخير ذو نزعة دينية جلفة فقررت تجنبه بالوقت المتبقي من الطريق.. أخيرا وصلنا الديوانية مع غنيمة واحدة هي ذلك الجندي الذي فارق الحياة الجميلة بغفلة منا ومن الملائكة أيضا.. وهب الجنود للهبوط من لوري الطماطة.. بينما مكثت مع القتيل لأن ربلة ساقي لا تقوى على النزول والشاحنة متحركة.. وتوقف السائق.. ثم هبط من الشاحنة ودعاني بلطف للنزول.. وحين إقتربت منه هجم عليّ بالقبلات متأسفا على عمله الطائش الذي إرتكبه بحقي.. ربما ظل طوال الطريق يفكر.. بما فعله بي وهو يرى حطام السيارات المشتعلة والجنود المتراكضين في دجى الليل آملين الوصول الى ملاذ آمن.. ظل يعتذر ودعاني الى تمضية باقي ساعات الليل في بيته.. إلا أني إعتذرت بشهامة جندي رأى الويل والضيم قبل أيام وقلت له.. هناك من يستحق الضيافة غيري.. ؟
أجابني مندهشا.. من..؟؟ أنا حاضر..
أجبته ودمعي يختنق في مسارب روحي.. هناك على الطمامة من فقد الروح بالطريق..
شهق ماذا تقول ؟؟.. قلت له مبتعدا.. لك الخيار أن ترمي به على الرصيف.. فمن المؤكد سيجمع غدا صباحا مع أكوام القمامة.. بالطبع لم يكن ردي كذلك بل كان هكذا.. عمي أكو واحد مات بنص الطريق.. أجابني.. شلون.. أنته شتكول.. أجبته.. ذبه على الرصيف وباجر تاخذه عمال البلدية وهمه يجمعون الأوساخ.. نعم هذا ماقلته بالضبط.. وإنصرفت عنه مع حشود من الجنود التي كانت تغذي الخطى الى كراج الديوانية.. وصلت الكراج.. لم تكن هناك سيارات.. بل كان هناك المئات.. مئات.. ليس بمئات أقول أكثر.. من الجنود الذين إزدحمت بهم الشوارع... لا أدري هل كانوا يشبهونني أو أنا الذي كنت أشبه حزنهم وقلقهم.. وتفرقنا كل تحت نجمة وبقيت أتنقل بين الجنود أبحث عمّن جاء من ( بصيّة ) تلك المنطقة التي أعرف أن أخي زهير ظل يقاتل فيها،، الأحاديث كثيرة من الجنود هناك من أخبرني أن إنزالا أمريكيا نفذ على فرق المشاة التي في تلك المنطقة.. وهناك من يقول إنها إنسحبت بناء على الأوامر لكن الخسائر فادحة بأفرادها.. وهناك من قال أن جميع الجنود في تلك المنطقة الآن يشربون الشاي بالسعودية كأسرى.. لا أدري لماذا شعرت بالأطمئنان لهذا الرأي. لا عليّ بكل ذلك.. لا بد أن أصل الى البيت.. إستطعت أن أشتري( لفة عروك) وأستطعت أيضا أن أشرب الشاي.. آه يالها من مصادفة أن أجد أخي( زهير) بين هؤلاء الجنود.. بقيت لساعات افتش بين الوجوه الباكية المغبره عنه ولكن ليس له أثر.. فجأة إشتعلت السماء بنيران المقاومات.. لقد قصفت الطائرات مكانا لا يبعد كثيرا عن مكان وجودنا.. عرفت فيما بعد أنه مركز الإتصالات.. وتوقفت شاحنة حمل طويلة.. كان سائقها أردنيا عرفت ذلك من لهجته.. ظل يصيح بغداد.. بغداد.. ومع الجنود الذين صعدوا وجدت نفسي بينهم بعد أن فقدت الأمل بالوصول الي بيت صديقي الشاعر كزار حنتوش صعلوك هذه المدينة دون منازع.. لا أتذكر الأجرة التي دفعتها لأني بصراحة لم أدفع أية أجرة.. أذكر أن الشاحنة الطويلة بعد أن تكدس فيها الجنود إنطلقت بنا الى بغداد.. وحين أطلّ الصباح كنت أسير بمفردي في الباب الشرقي.. سحبت خطواتي الى فندق أضواء الخليج.. كان التعب قد تملـّك جسدي تماما وبفتور سألت عن ( جان ) فأجابني صاحب الفندق إنه مازال نائما.. دخلت غرفته.. كان ( جان ) يغط بنوم عميق منكفئاعلى وجهه.. دنوت منه وقبّـلت صلعته المجذومة بهدوء.. ثم دخنت سيجارة إبتعتها من مرآب الديوانية.. دخنت بلذة أنسان إنتصر على الموت ببراعة... بينما كانت ذكريات الأيام الخوالي تحاول نسف لحظات المتعة التي أعيشها الآن وتجتهد بمخيلتي لتبديد لحظات السعادة التي كنت أعيشها في تلك الدقائق الصباحية وأنا مستلق مثل أي إنسان بديع على سرير لا يشم من الحرب.. سوى دخان سيجارته.. يالها من روعة.. قفزت على( جان) وأخذت أهزّ جسده الشبحي..
bull;إستيقظ أيها الوشق البري..
bull;ها شكو ( قالها بدلال عجوز ) شكو.. صدام مات..
bull;عاد صديقك حسن النواب سالما من الحرب..
ظل هامدا لدقيقة أو أكثر.. ثم فرك عينيه المتعبتين ونهض وقبّـلني بحرارة ماعهدتها لدى جان.. ثم قال فرحا..
bull;الحمد لله على السلامة.. هسه الساعة بيش..
bull;انا متعب.. هلا ّ أمهلتني ساعة للنوم ثم نذهب لنادي الأدباء سوية..
لم يصدر منه أي جواب حينها إستلقيت مثل أمير على الفراش وعاد ( جان ) يضع رأسه بين ذراعيه ساحبا ساقيه الى بطنه بنومة أشبه بوضع الجنين في رحم أمه... ثم قال بفرح سري.. وهو يفتح عينيه مرة أخرى ليتأكد من وجودي حقا فلربما ظن أنه مازال يعيش بتهويمة السكر.. إبتسم وأهداني قبلة بالهواء وقال مستسلما لفرحه..
bull;أو.. كي. اليوم نشعل الكون بإتحاد الأدباء..كله من وره هذا العار.. ثم غفى..
الوغف: لعاب يتجمع على فم الأنسان قبل أن يفارق الحياة.
شاعر عراقي مقيم في أستراليا.