التعايش الإسلامي المسيحي في القدس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1- مقدمة:
إن القدس عاصمة روحية لكل مسيحي، كما هي لكل مسلم، دون أن نتنكر لبعض الحقوق الدينية لليهود، ولكن هذه الحقوق الدينية التي صانتها الدول العربية منذ أربعة عشر قرنا لا تترجم بالضرورة إلى حقوق سياسية، وفق قراءة يهودية ضيقة عنصرية للكتاب المقدس. وللقدس وجود روحي لكل أبناء إبراهيم ولها بعد اسكاتولوجي ( متعلق بالآخرة ويوم الحشر) لكل الموحدين. والقدس أور السلام وبيت المقدس وحاضنة الوحي والإسراء والقيامة. وفيها ذكر إبراهيم وملتقى أبنائه اليهود والمسيحيين والمسلمين، وبها مآذنهم وأجراسهم وقبابهم وتجمع بين أسوارها الذهبية سلمهم وحربهم، وآلامهم وآمالهم، وقبلتهم وحشرهم. وعندما نتكلم عن القدس لا بد أن تقفز إلى الذاكرة والواقع المستقبل، صورة المسيحي والمسلم معا. فالتعايش مطلوب ومقبول بينهما، بل هو قدر إلهي لهذه المساحة المقدسة، التي أنعم الله عليها بالرسالات السماوية التوحيدية، فطهرها واصطفاها على الأرضين.
" إن أهل مكة أدرى بشعابها "، وأهل القدس القاطنون بين مآذنها وأجراسها وتحت بنادق الاحتلال أدرى بما يدور في بيتهم الداخلي، ولذلك استعنت بالدرجة الأولى بمنشورات ومجلات وكتب فلسطينية، أهمها وثائق مجلة " اللقاء " المهتمة في الشأن الإسلامي المسيحي والحوار بين الأديان وبوثائق بطاركة الشرق الكاثوليك وكتابات الكنسيين الفلسطينيين والمهتمين بالقدس، لتقديم وجهة نظر مسيحية في العيش المشترك. أما الكلمات الواردة في العنوان، فهي كلمات فضفاضة، ولا بد منهجيا من تحديد معانيها ضمن السياق التاريخي والديني. والعنوان من أربع كلمات، اعلق عليها في سبيل التمهيد لطرح الموضوع.
2- التعايــــــــش:
كلمة التعايش لغويا هي اشتقاق من الفعل الثلاثي " عاش "، على وزن تفاعل. وفعل عاش تعني ضمنا أمرا فرديا يقوم به شخص ما. أما التعايش فتعني بالضرورة وجود شخصين في وضع تبادلي يقبلان بعضهما بعضا ويسيران معا. والتعايش تعني اكتشاف الأخر والقبول به، الاعتراف بوجوده وهويته وخصوصيته، تعظيم الجوامع واحترام الفوارق والتأكيد على الأرضية المشتركة. فعندما هبّت رياح الحضارة العربية من الجزيرة قلنا لها " نعم ". فبدأت من ذلك الوقت عملية تجسّد حضاري أخذت أشكالا متعددة في جميع المجالات. ولقد أدّى هذا التجسد الحضاري إلى تفاعل عميق مع بيئتنا العربية على المستوى الثقافي والإنساني واليومي. فالتعايش في معناه وبعده الإيجابي خيار لا رجعة عنه. ونرى فيه نحن المسيحيين العرب، بعدا لاهوتيا يؤكد على عيشنا من خلال هويتنا القومية وانتمائنا الديني في هذه البقعة من العالم، التي ننتمي إليها حسب إرادة الله في حياتنا. فالتعايش إذن هو جزء من مشيئة الله في حياتنا. ولكن قد يكون للتعايش معان سلبية منها: القبول بالخنوع، القبول بالواقع المتراكم من ذكريات التاريخ دون القدرة على تغيير الحاضر ورسم المستقبل، قبول الأقلية برأي الأكثرية في إطار سياسي شمولي وغيبي...الخ. ولكن التعايش كما نفهمه هو تعامل بين أنداد وأخوة وشركاء في الأرض والوطن، لا بين ضيف ومضيف.
3- لقــاء الإسـلام والمسيحيـة:
لم يكن أبدا الإسلام والمسيحية مجموعة من التعاليم الدينية المحضة. بل تجسد كل منهما في بيئات اجتماعية وإنسانية وجغرافية وثقافية متعددة. والتعايش الإسلامي المسيحي في القدس حالة فريدة من نوعها كون القدس هي ملتقى الأماكن المقدسة للديانتين وفيها ذاكرة الكتب المقدسة المادية للديانتين. وشكل المسيحيون والمسلمون الذاكرة التاريخية والإنسانية حول المكان والكتاب. والمسيحية والإسلام اليوم في القدس، هما حصيلة تجارب وتراكمات تاريخية، تمتد جذورها بين الوحي والسماء ويوم الحشر إلى هموم الحياة الدنيا بكل تفاصيلها. وقد تشكلت " النعم " التاريخية في ذاكرة التعايش تدريجيا مع العهدة العمرية بين الخليفة الفاروق والبطريرك صفرونيوس، ولكن نصوص العهدة العمرية متعددة، وأحيانا تبدو متناقضة! وقد تراكمت عليها خبرات واقع الإسلام والمسيحية في العيش معا. وهذا العيش لم يكن حلوا مطلقا أبدا، ولا مرا مطلقا أبدا. وللأمانة التاريخية لا يجوز ترميم التاريخ ورؤيته بما يناسب خطاب اليوم وحاجة الساعة الراهنة.
لقد مرّ الإسلام والمسلمون، والمسيحية والمسيحيون، في حضن هذه المنطقة العربية وفي فلسطين بالذات في حقب تاريخية متتالية لا مجال لذكر تفاصيلها هنا. وبلغ التاريخ الذروة، ثم بدأ عصر الأفول والانحدار. ولم يكن الوجود العربي طارئا بعد ظهور الإسلام، فقد سجله التاريخ على ارض فلسطين منذ فجر المسيحية في سفر أعمال الرسل، فصل 2: آية11. ولا شك أن هناك تباينا رئيسا في تطور الإسلام والمسيحية عبر العصور. فالمسيحية ظلت دينا، ولم تتحول إلى دولة، وإن صارت الكثير من الدول ذات غالبية مسيحية، وأثرت في الحضارة والتشريع. ولكن لم تصل المسيحية إلى الحكم بالمعنى الحرفي المطلق. وأما الإسلام فقد اندمج سريعا في الدنيا والسياسة وصار دولة، أو دينا له دولة. ولذلك فالتعايش قد تختلف معانيه: هل هو تعايش بين دين ودين أخر، أو بين مواطنين من دينين مختلفين، أو تعايش بين دين وكيان ( في الماضي، وقد يظهر في المستقبل) يحمل في آن واحد بعد الدين والدولة والدنيا، وقد اجتمعت في بوتقة واحدة. لا شك أن التاريخ غني بالخبرات، ولكن خبرات التاريخ وإن كانت ذات صبغة دينية ترتبط بالتراث الديني والكتب السماوية لا تعتبر خبرات مقدسة وقوالب جاهزة للاستعمال في الواقع الاجتماعي والسياسي. فالعقيدة لها قدسيتها في البعد الديني والعبادي المحض ولا تنسحب على التطبيقات السياسية والاقتصادية بالضرورة. فكما نشأ المسلم عبر العصور على ربط الدين بالدولة، نشأ المسيحي على الفصل: " أدوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ". وهاتان رؤيتان متباينتان، كالخطين المتوازيين، فهل يلتقيان؟ ولذلك لا بد من الاتفاق على الخبرات التاريخية وعلى صلاحيتها لعالم اليوم. " التاريخ هو عبء الموت History is a burden of death " كما يقول اللاهوتي فون بلتازار، إذا تحجر على مستوى الذاكرة لدى إنسان اليوم، وقد يغدو التاريخ ذاته أداة تطوير وتحرر إذا قبلنا بالمبدأ النقدي وإمكانية إيجاد صيغ تعايش تعتمد على ما قدمته الخبرة الإنسانية الشاملة، بما فيها الخبرات الدينية، في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة الكاملة.
4- القــــــــدس:
وللقدس معان عديدة في الجغرافيا والسياسة واللاهوت. فقدس اليوم وما بين الأسوار تحوي الأماكن المقدسة وتحمل خلفها ثقلا من التاريخ يزيد على خمسة آلاف عام. وحيز جغرافيتها المتواضع المحدود يضيق بالكم التاريخي العظيم المتراكم. وهناك القدس العربية التي نشأت حول الأسوار. والقدس الغربية التي هي مدينة يهودية حديثة. والقدس الكبرى التي ابتلعت مساحات شاسعة من الضفة الغربية وتمتد بين بيت لحم ورام الله، وبين مشارف اللطرون إلى شفا غور الأردن. وقد أحاطها الإسرائيليون بالمستعمرات، وربطها المحتلون بشبكة من البنية التحتية، تجعلها تبدو مدينة واحدة. وقد طمأن اليهود أنفسهم بأنها عاصمتهم إلى الأبد. وتحت الاحتلال تغيرت القدس من الناحية السكانية وغدا أصحابها غرباء بين جدرانها مقيدين بقوانين وتنظيمات هي اقرب إلى الفصل العنصري. أما القدس في اللاهوت والرمزية، فهي رأس الهرم الروحي والتاريخي لفلسطين وبلدان المنطقة. وعندما نتكلم عن التعايش في القدس لا نعني ما بين الأسوار، بل فلسطين التاريخية كلها، والدول المجاورة.
أما في البعد اللاهوتي، فقد شكلت القدس الأرضية صورة مسبقة للقدس السماوية رمز الآخرة والخلود ملكوت الله الأبدي. " ورأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله...هوذا بيت الله والناس يسكن معهم ويكونون له شعبا. والله معهم ويكون لهم إلها" ( رؤيا : 21، 1- 3 ). والقدس الجديدة السماوية هي قدس مفتوحة لكل البشر، هي ملكوت الله الذي لا يغلق في وجه إنسان. فإن كان الإنسان في دنياه عنصريا يستحوذ على مفاتيح الجنة لنفسه ويغلقها أمام غيره، ويجعل الجنة محجوزة لدين ما أو لطائفة من البشر، فإن القدس الجديدة السماوية هي لكل البشر ومفاتيحها بيد الله وبيد كل إنسان عمل خيرا وسعى إلى حب الله ورضوانه. فالقدس السماوية، لا تشبه القدس الأرضية، فالقدس السماوية مليئة بحب الله، وهي الله المحبة. أما القدس الأرضية، فتتقاطعها الحواجز والكراهية والخوف من الآخر والاستحواذ المبني على العرق والدين وهاجس الأمن... والقدس قبل 1967، كانت معقولة مقبولة، أما اليوم فقد هجرها الحب...ويجد الأنبياء أنفسهم فيها غرباء...
5- التعايش خيار إنساني استراتيجي وقدر الهي:
إن التعايش في المفهوم المسيحي العربي والفلسطيني بالذات لم يكن يوما ما من باب الرفاهية الخيالية أو الشطط الفكري، بل هو فصل لاهوتي رئيس تتراكم من حوله الخبرات الإنسانية لتحقيق إرادة الله بالنسبة لنا كعرب مسيحيين. ويعد نص بيان " الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة " لبطاركة الشرق الكاثوليك، نصا مرجعيا في دراسة علاقات التعايش الإسلامي المسيحي. وجاء في رسالة البطاركة الكاثوليك ما يلي:
" إن العيش المشترك بيننا على مدى قرون طويلة يشكل خبرة أساسية لا عودة عنها، وجزءا من مشيئة الله علينا وعليهم... إن عيشنا المشترك الذي يمتد على قرون طويلة يشكل، بالرغم من كل الصعوبات، الأرضية الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضرا ومستقبلا، في سبيل مجتمع متساو ومتكافئ لا يشعر فيه أحد أنه غريب أو منبوذ. إننا ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه وقد أسهم كل منا في صياغته انطلاقا من عبقريته الخاصة. إن قرابتنا الحضارية هي أرثنا التاريخي الذي نصر على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. إن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق فنخن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ".
( الحضور المسيحي في الشرق، شهادة ورسالة. رسالة راعوية مشتركة يوجهها بطاركة الشرق الكاثوليك إلى مؤمنيهم في شتى أماكن وجودهم. عيد الفصح 1992. ص: 43).
وعن العلاقات المسيحية الإسلامية، يعد مقال الأب رفيق خوري " مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية في فلسطين "، مرجعا مهما، وهو منشور في مجلة " اللقاء" ( العدد الثاني 1997). ويقسم الكاتب هذه العلاقات إلى ثلاثة مستويات:
6- الإطار التاريخي للعلاقات الإسلامية المسيحية في الشرق:
مما لا شك فيه أن الخبرة الفلسطينية والمقدسية في مجال العلاقات الإسلامية المسيحية تتسم بطابع خاص. ولكن هذه الخبرة تنتظم في إطار أوسع، هو الإطار العربي في مجمله. وأهم معالم هذه الخبرة ما يلي:
1- القرابة الحضارية:
إن المسيحيين والمسلمين في الشرق ينتمون إلى حوض حضاري واحد هو الحوض السامي الذي بقي بالرغم من تنوع تعبيراته اللغوية قاسما مشتركا أكيدا. ولعبت الجزيرة العربية دور الخزان البشري الكبير عبر موجات متعاقبة على تغذية هذا الحوض الحضاري. وتفسر هذه القرابة الحضارية، على الأقل جزئيا، التوتر المستمر بين المسيحيين المحليين والبيزنطيين، وحسن استقبال المسيحيين المحليين الفتوحات الإسلامية. وقد أنتجت القرابة الحضارية تعاونا ثقافيا بين المسيحيين والكيان الإسلامي الجديد، أسفر عن ازدهار العلوم والترجمة. ويمكن أن نضيف أن هذه الظاهرة تكررت في النهضة العربية في القرن التاسع عشر، حيث اسهم المسيحيون إسهاما أساسيا في إرث ثقافي يبقى جزءا عضويا لا يمكن تجاوزه في ثقافتنا العربية المعاصرة.
2- تعرب كنيسة الشرق:
تكونت كنيسة الشرق من أعراق متعددة وطقوس كنسية مختلفة. وتعود أصول الكثير من مسيحيي الشرق إلى القبائل العربية المسيحية ما قبل الإسلام، ولا سيما في الأردن وفلسطين. فيفخر الأردني والفلسطيني المسيحي بعروبته دوما، لانحداره من قبائل عربية قبل الإسلام. ولكن قد يفخر المسيحي العراقي والمصري واللبناني أحيانا بغير العروبة لانحداره من أصول آشورية وفرعونية وفينيقية ظهرت كدول وحضارات قبل الإسلام. وفي هذا السياق، ليس للمسيحي الأردني والفلسطيني لغة غير العربية، فهي لغته الأم. بينما لدى مسيحيي الشرق الأوسط " لغات أم " اقدم من العربية، كالآشورية والسريانية والقبطية، لا تزال هذه اللغات مستعملة أحيانا في الحياة اليومية وفي الصلوات.
وقد تسارعت عملية التعريب لتشمل كل مكونات المسيحية الشرقية منذ القرن السابع. وقد تبنى مسيحيو الشرق اللغة العربية بجانب لغاتهم الشرقية السامية القديمة في كافة مناحي الحياة اليومية والثقافية والعبادية. وبين القرن الثامن حتى الرابع عشر، ظهر ما يعرف بالأدب العربي المسيحي، الذي لا توليه الجامعات العربية اهتماما كبيرا، ولا تزال مخطوطاته تقبع في ظلمة المكتبات وارشيفات الأديرة والبطريركيات. ولا شك أن دراسته تعد ضرورية لاستكمال رسم معالم الصورة الثقافية العربية والإسلامية. ويعود الفضل في التعريف بهذا التراث العربي للعلامة الألماني جورج غراف الذي نشر بين سنة 1944 وسنة 1953 في اللغة الألمانية كتابه المشهور " تاريخ الأدب العربي المسيحي" وفي السنوات الأخيرة برز العلامة الأب سمير خليل العامل في الجامعات البابوية كداعية نشط وفاعل في التعريف في هذا الأدب وتحقيقه ونشره من خلال الدراسات الجامعية، ولا سيما في الجامعات الكاثوليكية والبابوية.
3- وحدة مسيحيي الشرق حول الثقافة العربية:
عانت مسيحية الشرق انقسامات وصراعات داخلية، كان سببها التنوع الثقافي واللغوي والصراعات السياسية. ولكن شكلت الحضارة العربية الإسلامية واللغة العربية عامل وحدة وتواصل بين الجماعات المسيحية، وإن كانت متنافرة أحيانا. فعلى الرغم من الخلافات اللاهوتية راح مسيحيو الشرق يتكلمون لغة واحدة هي العربية، وانتقلت المؤلفات اللاهوتية من جماعة إلى أخرى. فمثلت اللغة العربية الدور الذي قامت به اللغة اليونانية في العالم المسيحي القديم، والدور الوحدوي الذي لعبته اللغة اللاتينية في الغرب المسيحي في العصور الوسطى.
4- الحوار الإسلامي المسيحي:
لقد اتسمت بعض الكتابات الحوارية الإسلامية المسيحية بالجدل المسموم والعقيم، ولكنها تميزت أيضا بالروح الفروسية والدفاعية. وكان من وراء هذه الحوارات جوا رحبا منفتحا متلهفا للمعرفة ويستأنس المنطق ويبتعد عن التعصب. واشهر ما نشر من هذه الحوارات: " مجالس إبراهيم الطبراني " التي نشرها في دراسة نقدية المطران بولص مارقوتسو مطران الناصرة. والطبراني راهب عربي من طبرية من قبيلة قحطان، ومجادله هو الأمير عبد الرحمن الهاشمي وكان أميرا على القدس في القرن التاسع الميلادي. وهذا الجدل اللاهوتي هو جزء من التعايش الإسلامي المسيحية عبر العصور. وما تنظمه المؤسسات المختصة اليوم من مؤتمرات ولقاءات في الحوار الإسلامي المسيحي، يعد سيرا ومتابعة لخطى السلف الطيب الكريم عبر العصور.
5) صعوبات هذه الخبرة:
من السذاجة وغير الواقعية التستر على الصعوبات التي مرت في خبرة العلاقات الإسلامية المسيحية. فقد مرت هذه الخبرة في فترات عسيرة. فإن الأجواء المتسامحة التي تميزت بها القرون الأولى لم تتبع خطا مستقيما. ويكفي أن نعطي عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي مثلا على ذلك. وتعدد روايات ونصوص العهدة العمرية، تؤكد المد والجزر في العلاقات الإسلامية المسيحية بين العسر واليسر. فهناك رواية الطبري والبلاذري والطرطوشي وسعيد بن بطريق. وتقدم العهود العمرية معلومات متناقضة أحيانا وخصوصا المتأخرة منها زمنيا، فبعضها ينسب إلى عمر شروطا مذلة على نصارى القدس وأخرى تمنح النصارى مكانة ممتازة في حمى الإسلام. والتفسير المنطقي لتعدد العهود العمرية عظمة عمر في نظر المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فنسبت إليه عهودا في مختلف الحقب التاريخية لتثبيت حق ما أو تكريس واقع قائم.
7-الحـالـــة الفلسطينيـــة:
نتوقف عند بعض العلامات البارزة للخبرة الفسلطينية التي ترتبط بواقع التعايش الإسلامي المسيحي في القدس، وهي:
1-موقع فلسطين الاستراتيجي والديني:
من الناحية الاستراتيجية تقع فلسطين بين ثلاث قارات، ومثل هذا الموقع يجعل فلسطين نقطة لقاء. وهذا اللقاء التراكمي عبر التاريخ لم يكن دوما سلميا، ولكنه أتاح الاختلاط بين الشعوب والثقافات والديانات، مخلفا وراءه أثرا لا يمحى على ملامح المجتمع الفلسطيني. أما العامل الديني، فتشكل من كون القدس وفلسطين عموما أرضا مقدسة للديانات التوحيدية الثلاثة، مما يدمغ الأرض المقدسة بطابع خاص حول علاقة الإنسان بالمكان والذاكرة الدينية والتاريخية، ويشكل نمطا خاصا من العلاقات بين مواطنين من أديان مختلفة تجمعهم ارض واحدة. وفي هذا السياق التاريخي الديني فإن الخطاب القائل بان فلسطين أرضا إسلامية ووقفا إسلاميا يخرج منطقيا عن المحتوى التاريخي للقدس ويشوه الصورة الكلية الجامعة للقدس. أما القول إن فلسطين والقدس في قلبها، ارض عربية اقرب إلى الحقيقة التاريخية. وجاء في وثيقة الاستقلال الفلسطينية التي أعلنت في الجزائر سنة 1988: " على ارض الرسالات السماوية إلى البشر، على ارض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني مطعما بسلالات الحضارة وتعدد الثقافات مستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني".
2- التعرّب المتقدم لفلسطين والقضية الفلسطينية:
إن مسيحيي فلسطين يعون وعيا عميقا وعفويا بأنهم عرب وفلسطينيون، فالعروبة هوية مقبولة ومستوعبة من غير إشكاليات. ومن هذا المنطلق يمكن أن نلاحظ أن المسيحيين الفلسطينيين لم يفكروا قط بكيان سياسي منفصل، كما حدث في أجزاء أخرى من العالم العربي، فقد ظهرت بعض التيارات الانفصالية عبر الماضي في لبنان ومصر والعراق والسودان، ولم يكتب لها النجاح، أما في المستقبل فنتمنى لها الإخفاق الذريع. كما باءت بالفشل محاولات الاحتلال لاسعار الفتن الطائفية. وهذا هو الإطار الذي يجب أن نفهم فيه أيضا الانتقادات التي وجهت إلى الكوتا، أي نسبة المسيحيين في المجلس التشريعي، التي خصصت للمسيحيين في الانتخابات الفلسطينية الأولى. ولعل الكوتا هي حل مؤقت للشعوب النامية في المجال الديمقراطي، والتي قد لا يرى بعض مواطنيها الحدود بوضوح بين الانتماء القومي والديني! والنضال تحت الاحتلال وحّــد الفلسطينيين، ولكن الذاكرة الفلسطينية أيضا لا تزال ترزح تحت عبء التاريخ: الحروب الصليبية، تدخل القوى الأجنبية، الاستعمار، الحمايات، نظام الذمة، ضغوطات الأكثرية، عقدة الأقلية والطائفية والرؤية الإسلامية الاستحواذية للتاريخ...الخ.
8- رؤيــــة مستقبليــــة:
ما هي الحدود بين الأماني والحقيقة؟ وخاصة وأننا في مجال مسار إنساني في التاريخ، كثيرا ما يتخطانا ويفوتنا، ولكن الأمل رهان، ومع هذا الرهان نستمر في تفكيرنا ووجودنا المشترك. والأمل لا ينطلق من فراغ، إنما تعززه مجموعة من المعطيات.
1- مستقبل واعد محفوف بالمخاطر:
إن الشروط الموضوعية لمستقبل واعد في مجال التعايش الإسلامي المسيحي تعززه إرادة الطرفين في أن يعطوا امتدادا إيجابيا للخبرة التاريخية في العيش معا. ولكن هذا المستقبل محفوف بالمخاطر، وأهمها:
أ) تحدي عدم الاستقرار: إن العالم الذي نعيش فيه يمر من أزمة إلى أزمة، تضعه في حالة عدم استقرار على جميع الأصعدة. إن العلاقات الإسلامية المسيحية لا يمكن سلخها عن هذا الحراك الواسع الذي يخترق المجتمع. فإن الخطر الكامن في مثل هذا الوضع المتأزم هو التطرف الذي لا يشكل المناخ الصحي لتطوير مشروع مجتمعي يستجيب لحاجات المجتمع ويتيح رؤية سليمة للعلاقات الإسلامية المسيحية. أما وضع الاحتلال القائم فيعد حجر عثرة في تطوير علاقات اجتماعية سليمة في فلسطين. فما زال الشعب ورئيسه تحت الحصار. وجاء في كلمة البطريرك ميشيل الصباح في مؤتمر المسيحيين العرب، الذي عقد في عمان تحت الرعاية الملكية السامية في 11/2/2002:
" وما زالت الدماء تسيل بغزارة، تستصرخ من يوقفها. والعدل هو الذي يوقفها. والحق العربي والفلسطيني هو الذي يوقفها وهو الذي يزيل العذر الذي يحاول أن يبرر استمرار سفك الدماء، أي الأمن الإسرائيلي. لأن الأمن الإسرائيلي له باب واحد وسياج واحد. لا هو في الأسلحة ولا هو في تأييد العالم له. بل هو في العدل إذا تحقق، وإذا المظالم توقفت. فتصير القلوب الصديقة، وهي فقط، باب الأمن وسياجه المنيع. إن مهمتنا ككنائس مسيحية هي أن نقف إلى جانب كل مظلوم وفقير، إلى جانب كل مظلوم يطالب بأرضه وحريته، لنكون صوتا وحمى له، مهما طالت المحنة وتنوعت. ومهمتنا هي أن نبقي الأمل حيا في نفوس الناس حتى يحق الحق."
ب) تحدي الغيرية: يحتل الخطاب حول الغيرية متسعا متزايدا في التفكير المعاصر، فإن الفئات البشرية في العالم كله تعي أكثر أصالة هويتها. وكل هذا دفع بإشكالية " الآخر" إلى مقدمة المسرح لتصبح مسألة ملحة. ومن الملاحظ في إطار مجتمع متعدد الأديان، وهنا المسيحية والإسلام، تطرح مشكلة " الآخر"، وهي نظرة تلعب دورا كبيرا في تطور العلاقات المتبادلة بينهما. وفي هذا السياق تطرح مسألة الذمة. ويبدو أنها في قلب مشكلة الغيرية. ويجب القول إن المسيحيين يحسون بها بشكل مرهف. فهل نحن ذميون أم مواطنون؟ وهل قيلت الكلمة الأخيرة في هذا المضمار؟ وأتساءل : " هل يرغب اليوم أحد في العالم أن يكون في " ذمة الآخر " ؟ وهل ذمة الآخر الذي أدعى للدخول في إطارها هي جنة الله على الأرض؟ ألم يتجاوز التاريخ في حتميته مفهوم الذمة، ومفهوم ارتباط الأرض بدين دون غيره، وتحويل الأرض إلى وقف بإرادة طرف واحد؟ إن إشكالية الغيرية تضعنا أيضا أمام أسئلة أخرى اكثر عموما: هل يمكن أن نستمر في النظر إلى الآخر من منظار معتقدنا؟ وهل من الممكن أن نسير خطوة إلى الأمام، فننطلق من رؤية الآخر لنفسه؟ والانطلاق من رؤية الآخر لنفسه حق مقدس ويمس جوهر الحرية والكرامة الإنسانية. أما رؤية " الآخر " من خلال أطر تاريخية جاهزة وحتى لو كانت مقدسة، فأمر مرفوض في عالم اليوم. وقضية الغيرية والذمة تقود شئنا أم أبينا إلى قضية شائكة هي الحرية الدينية وحرية المعتقد والحريات الفردية وحرية العبادة والشعائر الدينية وعلاقة الدولة بالدين والدين بالدنيا. وحرية إقامة الشعائر هي أدنى من الحرية الدينية وحرية المعتقد، ولكن فوق الجبرية، فهي وسطية رمادية اللون.
ج- تحدي الهجرة: إن ظاهرة هجرة المسيحيين من العالم العربي وخاصة في فلسطين يعرفها الجميع. ولا نتوقف عندها إلا لانعكاساتها على مستقبل العلاقات المسيحية الإسلامية. فقد نجد أنفسنا أمام معركة انتهت لعدم وجود محاربين. وهذه الظاهرة لا تشكل مسألة مسيحية داخلية، بل تهم جميع الفلسطينيين والعرب مسيحيين ومسلمين. إن المسألة هي مسالة الشعب الفلسطيني بالذات وهوية الأرض المقدس ولا سيما القدس. إن غياب العنصر المسيحي سيكون بلا شك فقرا لهذه الهوية. وجاء في كلمة غبطة البطريرك ميشيل الصباح في مؤتمر المسيحيين العرب الذي انعقد في عمان بتاريخ 11/3/ 2002 تحت الرعاية الملكية السامية:
إن الخطر الداهم المهدد للكيان المسيحي في الأراضي الفلسطينية اليوم هو الهجرة التي تقلص الأعداد وتغرب العربي المسيحي عن بلده وأرضه. والهجرة مصدرها عدم الاستقرار السياسي وظلام المستقبل والتوق إلى سلام ولو في الغربة. ومن ثم صنع السلام في فلسطين وفي المنطقة بأكملها هو العامل الأول لترسيخ العرب المسيحيين في أوطانهم. واستقرار البلاد وديموقراطيتها وترتيب العلاقات العامة والخاصة، كل هذا له شأن في هذا الدفع نحو الخارج أو في الحيلولة دونه".
د- التحدي السياسي والديني: لا يعترف الشرق، ولا سيما لدى بعض التيارات السياسية - الدينية، بالحدود بين السياسي والديني، والجدل حول هذا الموضوع على قدم وساق في العالم العربي. وفي الوقت الحالي نلاحظ أن الهوية الوطنية تخلي المكان شيئا فشيئا لتحل مكانها الهوية الدينية على المسرح السياسي. ويمكن اعتبار الحركات الإسلامية حاملة لواء هذا الاتجاه، حيث تطور مشروعا مجتمعيا تقول انه مستمد من الإسلام. كل هذا، وما سبق حول قضية الذمة والحريات الدينية وكل قاموس الفكر الديني السياسي، يجعل مسيحيي فلسطين في قلق إزاء المستقبل، وصورة القدس الروحية والسكانية تغدو في مهب الريح، ناهيك عن ضغط الاحتلال الإسرائيلي. إن مثل هذا المشروع يثير لدى المسيحيين في العالم العربي الكثير من التساؤلات العميقة، بل الكثير من المخاوف والقلق... وكل هذه التساؤلات تصب في خانة الهجرة والتفريغ بالإضافة إلى الواقع الاقتصادي الصعب وواقع الاحتلال المرير في فلسطين. وجاء في رسالة البطاركة الكاثوليك ( ص 45 ):
"وهذا ما يلقي على المسيحيين والمسلمين مسؤولية متبادلة. فالإسلام يتحمل مسؤولية كبرى في هذا المجال إذ إنه مدعو إلى تطمين المؤمنين المسيحيين الذين يعيشون معه في الوطن والواحد. إن المسلم في الشرق لا يستطيع أن يطور أي مشروع لنظام اجتماعي وسياسي من غير أن يأخذ بالحسبان الجماعة المسيحية بشكل يعطيها الثقة، لا بأن حقوقها الدينية محفوظة فحسب، بل أنها جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع، وكاملة العضوية في الجماعة الوطنية، بما فيها من حقوق وواجبات. والمسيحيون من جانبهم يتحملون مسؤولية مماثلة تدعوهم للتخلص من العقد الاجتماعية والنفسية التي خلفها لهم التاريخ، فيجدوا في إيمانهم ما يحررهم من كل ما يحول دون قبولهم لذاتهم ودون تلاقيهم مع الآخر".
هـ - تحدي الطائفية: المجتمع العربي عميق التدين، ويبقى الشعور الديني من الأوتار الأكثر حساسية في النفس العربية. ولهذا الواقع محاسنه بلا شك، ولكنه ينطوي أيضا على مخاطر يجب أن تؤخذ بجدية. ومنها الطائفية التي لا تشكل خطرا خياليا. وترمي الطائفية جذورها في اقدم الأزمان، ولكن كان تكريسها في العهد العثماني ( نظام الملل )، ثم عملت على تبنيها واستغلالها قوى الاستعمار. إن آلية الطائفية قد تأخذ مجراها في أي مناسبة، وتحول أي خلاف بسيط إلى فتنة طائفية. وفي فلسطين قد تزداد الطائفية هيجانا بسبب الوضع السياسي غير المستقر. وقد طور المجتمع المقدسي من خلال المرجعيات الدينية والعشائرية آلية لحل إشكالية مثل هذه الحالات، وهذا ما ندعوه بحكمة الحياة. ولكن حان الوقت لنذهب إلى عمق الظاهرة لنواجهها من جذورها. ولعل نظام الكوتا المعمول به في الانتخابات الفلسطينية وكذلك الأردنية يدل على مجتمع غض طري العود، لا يزال في درب النمو السياسي. والمجتمعات التي تتأثر علاقات أفرادها بالبعدين الديني والدموي ( العشائري )، تعد من اقدم المجتمعات البشرية تاريخيا وأكثرها بدائية، إذ لم تبن بعد علاقات تقوم على أسس سياسية أو نقابية أو حزبية حقيقية تحرك مفاصل العلاقات العامة بعيدا عن المعتقد والقرابة الدموية.
2) مستقبل نبنيه معا:
إن مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية يمكن أن نلمحه انطلاقا من بواكيره في الماضي والحاضر، ولكن مستقبل من هذا النوع لا يمكن أن يكون بديهيا، انه بحاجة إلى رجال ونساء يؤمنون به وينتظمون في دينامية كل يدفع بهذه الدينامية إلى الأمام ويحولها إلى واقع ملموس. وهذا العمل لا يمكن إلا أن نقوم به سوية، ولا يصلح أن يمارس من طرف واحد.
أ) الخطاب الديني: إن الخطاب الديني لا يتوقف فقط عند الممارسات العلمية، بل يصل أيضا إلى اللغة المستعملة في المدرسة والبيت والإعلام والجامع والكنيسة...الخ. فما هي لهجة الخطاب بخصوص الآخر؟ هل هي لهجة تؤدي إلى العيش المشترك أم التعصب؟ أمامنا الكثير لنعمله في هذا المجال. وكتب الأب مارون لحام في هذا السياق ( واقع العلاقة الإسلامية المسيحية في فلسطين، مجلة اللقاء، عدد3، 1999، ص 21) : " فمناهج التربية والتعليم، وهي منهل تثقيفي من الطراز الأول، لا تحمل الطالب المسلم، ولا سيما من لم يختلط في مدرسته أو في بلده بزميل مسيحي، على اعتبار الفلسطيني المسيحي أخا ومواطنا مساويا له في كل شيء، بغض النظر عن معتقده الديني. ثم أن التربية الدينية الإسلامية ومنابر الوعظ والإرشاد في المساجد لم تتوصل بعد إلى الشجاعة اللازمة للخوض في هذا الموضوع. فهي إما أن تتجاهله، وإما وإن تطرقت إليه فمن باب التسامح مرة، ومن باب التحريض مرات. وما يطلبه المسيحي الفلسطيني هو أن من ينهل العلم من المدرسة الفلسطينية يعلم أن المجتمع الفلسطيني متعدد، وأن العروبة تضع المسيحي والمسلم في بوتقة واحدة ".
ب) الانتقال من النصوص إلى النفوس: في مجال العلاقات الإسلامية المسيحية نكتفي في كثير من الأحيان بخطاب رسمي يتوقف عند النصوص الدينية المتعلقة بالتسامح بين المسلمين والمسيحيين. وفي مثل هذه المواقف يحاول كل طرف أن يظهر افضل ما عنده من نصوص. ولربما حان الوقت أن نقول إن هذا الاتجاه لا يكفي، لقد آن الأوان أن ننتقل من النصوص إلى النفوس. ففي القلوب يتقرر مستقبل العلاقات والتعايش. ومن هنا جاءت ضرورة تطوير هوية علاقية لا تعتبر الآخر الديني تهديدا لهويتنا أو نفيا لها. إننا لا نستطيع أن نسلك الطريق في الآخر ومع الآخر ومن أجل الآخر، إلا إذا باشرنا بالعمل على التنقية الداخلية. وعلى هذا المستوى يمكن أن نكتشف الطاقة المحررة لنصوصنا الدينية. والله يعلم إلى أي حد نحتاج إلى الخروج من مجال المجاملات، التي كثيرا ما نستخدمها لتورية الواقع، للدخول في بهاء الحقيقة التي تحررنا وتحرر غيرنا. وعلى المستوى العملي يجب خلق مجالات اتصال وتواصل على جميع مستويات الحياة: في المدرسة، في المؤسسة الدينية، في الحياة اليوميةhellip; كي نفتح الباب لمثل هذه المعرفة والتعرف والتعارف، وتعظيم الجوامع واحترام الفوارق.
ج) معا أمام الله والإنسان: للأسف استأثرت السياسة في مجال العلاقات الإسلامية المسيحية بحيز كبير على حساب العلاقات على المستوى الديني والروحي. إن المثول معا أمام " الله الرحمن الرحيم- الله محبة" خليق أن يفتح قلوبنا إلى أبعاد جديدة وخصبة لا تسمح السياسة بان نلمحها. في هذه الحالة، لن نكون جبهتين متواجهتين، ولكن سوية أمام الله، الذي يدعونا إلى اهتداء القلب ويحررنا من الأهواء البشرية التي تحول دون القيام بخطوة إيجابية تجاه الآخر. إن اكتشاف الله هو في الوقت عينه اكتشاف للآخر تحت أضواء جديدة في الصفاء وسلام القلب والروح. ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن عيشنا المشترك يدخل في دائرة موقفنا المتواضع والواثق أمام الله، الذي يدعونا أن نكون مسلمين ومسيحيين، دائما أكثر ودوما أحسن. إن المثول أمام الله لا يمكن إلا أن يصب في التزام من أجل الإنسان خاصة الفقير والمتألم والمظلوم، وقد يكون هذا الإنسان بالذات هو الذي سيصالحنا في فقره وألمه... فقد جاء في رسالة البطاركة الكاثوليك ( ص 43 ):
" نحن - المسلمين والمسيحيين- لسنا جبهتين أو حزبين متواجهين، بل أننا جميعا وقبل كل شيء أمام الله رب العالمين وليس ملكا لأحد. وكلنا منه وله وإليه. ولا نقدر بتاتا أن نقبل الآخرين الذين يضعهم الله في طريقنا ما لم نقبل الله أولا في حياتنا. وكلما اكتشفنا الله، اكتشفنا قدسيّة الإنسان".
9- خـــــاتمــــــة:
إن التعايش الإسلامي المسيحي يرزح تحت ضغط الاحتلال، ويتنفس بين جدران العزل، ويتحرك بين فوهات البنادق، ويلملم إطرافه بين حواجز الكراهية الإسرائيلية، ويتحرك على أرض مقدسة، ملغومة ومدنسة بالمستعمرات، ولا مجال لتعايش حقيقي، ومكان التعايش الرمز مغلق ومحاصر، ومن يعيشون فيه، جرحى وقتلى يعانون الفقر والقمع. فمدخل التعايش هو حرية وكرامة الإنسان والأرض...
" إننا لا نستطيع حقا أن نفهم كيف يمكن أن يسمح الاحتلال لنفسه أن يتمادى إلى هذا الحد. وكأنه لا يفهم ما هي مدينة القدس، وكأنه لا يفهم ماذا تعني القدس لأبنائها ومحبيها، وأنه لا يفهم أن إغلاق القدس هو هدر لكرامة الله الذي أراد لهذه المدينة أن تكون مكان حوار بينه وبين خلائقه، وكرامة الإنسان، الذي يرى في القدس محطا لأعز مشاعره وتطلعاته... ليست القدس مدينة عادية. بإمكانك أن تستبدل باريس أو لندن أو واشنطن بغيرها. أما القدس فلا. القدس مسقط رأسنا جميعا. القدس أرواحنا. فهي ليست مدينة ما. إنها المدينة. وأن تذهب إليها في كل الأحوال حجة مقدسة، حتى ولو ذهبنا إليها لمجرد التسوق، والعودة منها، هي في كل الأحوال عودة من حجة مقدسة حتى ولو كانت عودة من عمل. أحقا إننا لا نستطيع أن نضيء شمعة في قبرها المقدس عندما نشاء، ونصلي ركعة في مسجدها الأقصى عندما تحن نفوسنا إلى الله؟ إن المشاعر الروحية من أغلى وأقوى وأعمق ما فينا. وإن المس بهذه الجذور إنما هو اقتلاعنا بالذات والحكم علينا بالموت الروحي الذي هو أشد قساوة من الموت الجسدي".
الأب د. حنا كـلـداني
الأردن
( خوري، رفيق: افتتاحيات للزمن الآتي. مقالة - القدس...أو الموت- ص101-105).