أصداء

في عيد الميلاد: من يُخَلِّصُ شعوبنا من أتراحها؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

احتفل المسيحيون حول العالم بالأمس بذكرى ميلاد السيد المسيح. تختلف هذه الذكرى في معانيها ودلالاتها اختلافاً كبيراً عن غيرها من المناسبات الاخرى التي يحتفل بها العالم لأن ميلاد المسيح أصبح نقطة فاصلة بينما يحتفل العالم هذه الأيام بذكرى ميلاد السيد المسيح صاحب رسالة الخلاص من الخطايا أرى أننا بحاجة شديدة لمن يخلص شعوب بلداننا من أعباء وقيود كثيرة تراكمت عبر السنين فصارت كالجبال التي يستحيل تسلقها وتخطيها. نحن بحاجة ماسة لمن يخلص شعوبنا من العبء الذي يمثله الفكر الديني المنغلق على أمور حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعيةفي تاريخ البشرية، فأصبح هناك ما هو قبل المسيح وما بعد المسيح. ومثلما نقل ميلاد المسيح البشرية من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية جديدة، فإنه كان أيضاً نقطة ثورية غاية في الأهمية في تاريخ التعاليم الدينية، حيث نقل الممارسات الدينية من مبدأ العين بالعين والسن بالسن الذي نصت عليه القوانين اليهودية إلى مبدأ محبة ومباركة والإحسان إلى الاعداء والمبغضين التي نادى بها السيد المسيح وطالب تلاميذه ومريديه بضرورة الالتزام به.

حسب التعاليم المسيحية، كان لميلاد السيد المسيح رسالة دينية بحتة، فيقول الكتاب المقدس في إنجيل متى الأصحاح الأول العدد الحادي والعشرين أن الملاك ظهر ليوسف النجار، خطيب العذراء مريم، وقال له عنها "فَسَتَلِدُ ابْناً، وَأَنْتَ تُسَمِّيهِ يَسُوعَ، لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ." لم يشأ السيد المسيح مطلقاً أن يحيد عن رسالته الروحية التي جاء خصيصاً من أجلها، ولم يشأ أن يتدخل في أمور السياسة في بلاده على الرغم من وجود المبررات المنطقية لذلك حيث كانت بلاده تخضع لاحتلال القوات الرومانية التي أفاضت في إذلال أبناء جلدته بفرض الضرائب الباهظة وقمع الحركات التحررية. ولكن المسيح ركز جل عمله على تحرير العقل والقلب قبل تحرير الجسد.

كان ميلاد السيد المسيح بداية عصر جديد أسس للعلاقة الفردية بين الإنسان والله والتي حررت الفرد من سيطرة المنظمات الدينية التي تحكمت في علاقة الإنسان بالله واستغلت الدين في تحقيق مكاسب معنوية ومادية وسياسية كبيرة عبر إلزام الأفراد بممارسة الطقوس العقيمة والتقاليد البالية. ولكن يسوع المسيح جاء ليؤسس مباديء جديدة للعلاقة بين الإنسان والله تقوم على عدم الحاجة إلى وسطاء للخلاص كرجال الدين والمنظمات الدينية. لم تتمثل ثمار ثورة السيد المسيح على رجال الدين في تحرير الإنسان من سيطرتهم ولكن أيضاً في إضعاف النفوذ السياسي والاجتماعي الذي طالما تمتعوا به من قبل، ومن ثم توسيع قاعدة الحرية العامة في المجتمعات المسيحية.

كان لإضعاف الدور السياسي لرجال الدين أهمية كبرى في ما بعد، حيث كانت مبدأ السيد المسيح الروحية هذا هو حجر الأساس لما يعرف اليوم بمبدأ فصل الدين عن الدولة حيث ينقل الكتاب المقدس عن السيد المسيح قوله "إِذَنْ، أَعْطُوا مَا لِلْقَيْصَرِ لِلْقَيْصَرِ، وَمَا لِلهِ لِلهِ" (متى 21:22) كما ينقل الكتاب المقدس عن السيد المسيح تأكيده على أن رسالته روحية وليست سياسية حين قال " لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ." (يوحنا 18:36) و رغم أن المسيحيين لم يأخذوا كثيراً بتعاليم المسيح المتعلقة بفصل السياسة عن الدين خاصة في القرون التي سبقت عصر النهضة، إلا أن القرون التي تلت شهدت فصلاً تاماً بين إدارة شئون الدولة والدين، حتى أن قوانين وتشريعات تتعارض تماماً مع مباديء المسيحية بدأت تعرف طريقها إلى معظم الدول العلمانية في أوروبا والأمريكتين.

بينما يحتفل العالم هذه الأيام بذكرى ميلاد السيد المسيح صاحب رسالة الخلاص من الخطايا أرى أننا بحاجة شديدة لمن يخلص شعوب بلداننا من أعباء وقيود كثيرة تراكمت عبر السنين فصارت كالجبال التي يستحيل تسلقها وتخطيها. نحن بحاجة ماسة لمن يخلص شعوبنا من العبء الذي يمثله الفكر الديني المنغلق على أمور حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كذلك نحن بحاجة ماسة لمخلص يحرر السياسة من سلطة رجال الدين ولمخلص يحرر الحياة من التعقيدات والتحريمات والخزعبلات. كما أننا بحاجة لمن يخلص العقلية العربية من آفات الجهل والتطرف والإرهاب التي تستشري في كل ركن من أركان أوطاننا.

وبالمثل فإننا بحاجة لمن يخلص شعوبنا من النظم الدكتاتورية المتخلفة والفساد والظلم والقهر الذي تمثله. نحن بحاجة لمخلص يزيح عن الشعب العراقي غمته الطائفية التي تهدد حاضره ومستقبله ووحدته واستقلاله. ونحن بحاجة لمخلص يريح اللبنانيين من أتراحهم التي امتدت لسنوات وسنوات دون ان تبدو في الأفق بارقة أمل في حل يضمن بقاء لبنان حراً مستقلاً تعددياً. ونحن بحاجة لمخلص ينقذ أهالي دارفور من وطأة التعسف العنصري الذي تمارسه الحكومة السودانية ضدهم. ونحن بحاجة لمخلص يحمي الصوماليين من الطبقة الدينية المتطرفة التي استولت على الحكم هناك واعلنت الحرب مؤخراً على مختلف مظاهر الحياة. إننا بحاجة لمسيح يُخَلِّصُ شعوبنا من أتراحها في هذه الأوقات العصيبة التي نعيشها.

جوزيف بشارة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف