أزمة الرسوم المسيئة وحرية التعبير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ليس منا من لا يدرك أهمية حرية التعبير، في تنمية العقول وتحرير المواهب.. وليس منا من لا يعتبرها قيمة حضارية، أكتسبها "العالم الحر" بما بذله من كفاح وما قدمه من تضحيات.!
.. ولنا أن نرجع النهضة الحضارية التي يعرفها الغرب، إلى ما أحرزه من سبق في مجال تكريس الحريات، تفتقت بفضلها مَلَكَات الابتكار، وتحررت الطاقات، و تمكن الفرد من الخلق والإبداع، دون أن تكبل عقله أصفاد الدين و العرف وحتى الأخلاق أحيانا.. وقد كانت العلمانية (التي هي في الأساس فصل للدين عن الشأن العام، إلإ أنها تحولت مع الصِدام اليومي بين المادي والروحي والغيبي والمحسوس إلى نوع من المواجهة مع الدين) هي العامل الأساسي في تحرير العقل وتنوير الفكر.
إلا أننا نتساءل، حيال أزمة الرسوم المسيئة لنبينا الكريم: عن حدود هذه الحرية المقصودة؟
فهل تعتبر الحرية، حين تخدش عواطف الناس وتستفزهم، وهي التي تنتهي حين تبدأ حرية الآخر، ومن حرية الآخر الحفاظ على مشاعره، ومراعاة حدود اللياقة الأدبية في التعامل معه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمقدسات.
ثم ان حرية التعبير، المصونة عن العبث، هي تلك التي تنير فكرا أو رأيا، وتكشف حقائق أو وقائع أو ملابسات لها أهميتها في خدمة الفرد والمجتمع: فللصحفي مطلق الحرية في نشر الخبر والحصول على المعلومة، وفي تحليلها في سبيل إنارة الرأي العام بما يخدم مصلحته.. وللمفكر وللفيلسوف حرية التفكير والتأمل، وللعالم حرية الاختراع و "الاستنساخ"، وللباحث الأكاديمي حقه في أن يكتب نتائج بحوثه ودراساته بحرية وتجرد، دون أن يوصَد في وجهه باب "المقدس"، ودون أن تُأخذ عليه حريته المطلقة في استنتاجاته وقراءاته.. إذ لا ينبغي أن يقيد العلم!
أما حينما يتعلق الأمر بمناط الخيال، كالشعر والرواية والفن والكاريكاتور، فأعتقد أنه لا ينسحب عليها ما ينسحب على الدراسة العلمية الجادة، رغم أهمية الحرية في عملية الإبداع الأدبي.. بل ينبغي أن يُحد بعدم الإساءة للمشاعر الدينية، التي تحرك أكثر من غيرها ثوران البشر وفورانهم.
فبماذا خدم سلمان رشدي الإنسانية بـ"آياته الشيطانية"؟
وأي أثر إيجابي تركته تسليمة نسرين على الحضارة البشرية بإساءتها للدين؟
وماهو النفع المتوخى على العالم من رسوم يطلق فيها فنان عنان خياله الجامح، بالإساءة لدين يستوعب ثلثي البشرية؟
.. والملاحظ في الغرب، الذي يجعل من نفسه سادن الحريات وحامي ذمارها، ان يترك للـ"متخيلين" من روائيين ورسامي كاريكاتور حرية خدش الشعور الجمعي بخيالهم، بدعوى حرية الرأي والتعبير، في وقت يكبح فيه لجام البحث العلمي الرصين، حين يتطرق إلى محذور المحرقة اليهودية "الهولوكست"، بحجة "معاداة السامية"، كما وقع مع المفكر الفرنسي روجى غارودي والمؤرخ البريطاني ايرفج وغيرهم.
إنه من المهم فعلا في عالمنا العربي أن نحرر العقل والفكر، من أدران الجمود والتقديس الأعمى، وأن ندافع عن حق الآخر في التعبير عن رأيه، حتى ولو كان مخالفا لما درجنا عليه من عقائد وأعراف وتقاليد، متمثلين مقولة المفكر الفرنسي فولتير "قد أخالفك الرأي لكنني أقاتل من أجل حرية رأيك"، إلا أننا نريدها حرية مسؤولة، تتوخى النفع وليس الاستفزاز. فالتطاول على نبي الإسلام الكريم لن يخدم الحقيقة ولا السلام العالمي، وإنما قد يعطي المبرر لاستمرار العنف الديني، بإذكاء نعرة الانتقام.
لا يمكن للرسوم المسيئة لشخص الرسول الكريم، ولدينه ورسالته السمحة، إلا أن تكون مدانة، بكل المقاييس.. وللمسلمين كامل حقهم في استنكار الأمر واستهجانه، والرد عليه. إلا أننا نتمنى لو أنها كانت ردة فعل حضارية، تخضع فيها العواطف لسلطان الحكمة، فتبتعد بها عن الغوغائية، التي تعطي رسامي الكاريكاتور الحجة بصدقية وصفهم للإسلام بالرجعية والعنف.
لقد كان العقاب الاقتصادي، بمقاطعة البضائع الدنماركية والنرويجية، ناجعا.. وكان بإمكانه أن يشفع بدعاوى قضائية ضد الصحف التي نشرت الرسوم.. كما كان لمظاهرات الاحتجاج السلمية أن تعطي نتائجها في لفت انتباه الرأي العام العالمي إلى القضية.. ولكنه ما كان للعنف والتهديد إلا أن يعطي نتيجته العكسية.
.. وقد أسفرت "أزمة الرسوم" عن جهل متبادل ما بين الغرب والمسلمين.. فالغرب يفهم ديننا الإسلامي، كما تعبر الرسوم الكرتونية، بأنه في حقيقته دين عنف وصلف وعنجهية، وإذا كان لهذه الصورة ما يكرسها من أعمال إرهابية، لأمثال بن لادن والزرقاوي، مما الاسلام منه براء، فإنها تنم عن جهل كامل بمبادئ الإسلام وتعاليمه السمحة، التي هي ملء سمع الدنيا نبلا وعدالة وإنسانية، فليس من الإنصاف أن تلصق به أوزار أدعيائه، وهو دين يعتنقه ثلثا البشرية، وكما قال الشاعر:
فليس يُعدَم في الأعراج، غصّ بها فِيحُ الفلا عرج في البعض أوحرد
كما أن المسلمين في تحميلهم الحكومة الدنماركية مسؤولية الرسوم التي نشرتها صحافتها، إنما كشفوا عن جهل بالواقع السياسي في الغرب، الذي تفصل فيه السلطات، عكس ماهو واقع في بلاد المسلمين من شمولية القرار لدى السلطة التنفيذية.. فـ"أخطأوا شاكلة الرّمِي"، عندما لم يلجأوا للقانون، الذي هو الجهاز الوحيد للتظلم والإنصاف.
حنفي ولد دهاه
hanevy@yahoo.com