بين الإستهلاك المحلي والإستهلاك الخارجي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"خطاب 2 مارس 2006 نموذجاً "
على غير المتوقع.. فقبل أن يُعلـّق أي مصدر ليبي على خطاب العقيد القذافي.. جاء التعليق الإيطالي على لسان وزير الخارجية " جانفرانكو فيني ".. ليقول بالخط العريض: إن الشق المتعلق بإيطاليا فى خطاب 2 مارس 2006م.. فى الإحتفال الذى إحتضنته مدينة سرت الليبية.. كان للإستهلاك المحلي.. وأنها لن تأخذه على مأخذ الجد.
هكذا فهمت إيطاليا الرسالة (1).. وهكذا كان تحليلها لها.. فماذا عن الشق المتعلق بالشأن الليبي؟!.
بدوري لن أعلق على كل فقرات الخطاب.. فكما أن العقيد القذافي قد أوجز هذا العام.. على غير العادة.. فسأوجز.. وسأختار فكرة واحدة من مجموع ما أورده من أفكار.. من أجل محاولة تلمس الموقف الليبي من خلالها.. خاصة بعد أن تحدد الموقف الإيطالي من الخطاب.
ففى أحد أهم فقرات الخطاب ركز العقيد القذافي على المعايير التى إتبعها للحكم على التجربة العالمية بالفشل.. والتى لخصها فى نقطتين هما:
أولا: مدى القبول الشعبي للتجرية.
ثانيا: مدى تحقيقها للرفاهية للشعب.
وهذه بداية جيدة.. ومدخل منضبط للحديث عن تجربتنا التى دخلت عامها الـ (30).. وأقصد تجربة المؤتمرات الشعبية.. واللجان الشعبية.. واللجان الثورية.. وما تفرع عنها.
ولنأخذ المعيار الأول الذى وضعه العقيد القذافي للحكم على التجربة الغربية ( الديمقراطية ).. ففى تلك التجربة " والكلام موجه للعقيد القذافي " للناس حق الإختيار.. وحق الترشح.. وحق الإمتناع.. وحق المحاسبة.. وحق الإحتجاج.. وحق التجمهر.. و.. و.. و. وهي حقوق يكفلها الدستور.. ويرعاها القضاء المستقل.. وتحرسها الصحافة الحرة.. فهنا توجد حرية حقيقية ولا يمكن تغطية عين الشمس بالغربال.. قد لا نتفق مع بعض جوانب تلك الحرية.. وقد لا نستوعب بعض جوانبها الأخرى بحكم الإختلاف الثقافي.. وإختلاف مصادر الفهم والتوجيه.. وربما لأسباب لها علاقة بالنرجسية العربية.. والماضوية الإسلامية.. ولكن تأكد بأنها حرية حقيقية ( بالنسبة لهم ولمصالحهم ).. وتحظى بقبول شعبي كبير.. ولم تعد الفكرة مجرد أداة للحكم.. بل تحولت الى ثقافة عامة لا يرتضي الناس لها بديلاً.. وأما التغيير أو التبديل الذى إعتبرته أنت نقصاً فيها.. فيقدمه أهلها على أنه أحد مصادر قوتها.. ويسمونه التطوير الذاتي.. وهو بالمناسبة لا ينبع من تخمينات شخص واحد.. ولا يستجيب لرغبات فرد أو قبيلة.. ولا يُنسج فى غرف مظلمة.. إنما ينطلق من قرارات جماعية مصدرها مراكز وجامعات ومجامع بحثية.. وتمر عبر أليات معقدة تبدأ بالحزب.. وتنتهي بالبرلمان.. مرورا بمؤسسات المجتمع المدني.. للتأكد من أنها فعلا جاءت لخدمة هدف إستراتيجي عام.. أما عندما يخرجون للشوارع فهم غالباً لا يُعبّرون عن رفضهم لأداة الحكم.. بقدر ما يعبرون عن رفضهم للممارسة.. وعندما لا تستجيب لهم الحكومات لا يقومون بإنقلاب عسكري.. ولا يفجرون أنفسهم.. بل يعاقبون قادتهم عبر صناديق الإقتراع.. وقد دفع السيد بلير ـ على سبيل المثال ـ هنا فى بريطانيا ثمن عدم إلتفاته للمظاهرات المليونية التى خرجت للتعبير عن رفضها للحرب على العراق.. ولم تمر سنة على تلك المظاهرات حتى فقد بلير أغلبيته.. وبات لا يستطيع أن يمرر أي قرار إلا بطلوع الروح.. ولعل أخرها فشله فى تمرير قانون الإرهاب.. وحتى لو لم تفلح التظاهرات فى لجم شخص أحمق مثل السيد بوش.. فما بينهم وبينه هو بضع سنين ثم يرحل.. ولو تمسك بذنب فيل ( والفيل بالمناسبة رمز للحزب الجمهوري ).. إذن فهي حرية حقيقية صنعها هؤلاء القوم لأنفسهم.. فماذا عن تجربتنا نحن " سيادة العقيد ".. فبعد أن وجدنا أنفسنا بحكم أمر واقع فرضته فوهة البندقية ننتقل من نظام ملكي الى نظام جمهوري.. إستيقضنا صبيحة 2 مارس من سنة 1977م لنجد أنفسنا فى خضم مراسم توديع نظام جمهوري.. والدخول فى ملحمة نظام أخر لا نعرف عنه الكثير.. فلا إستشارة.. ولا إستفتاء.. ولا أي شكل من أشكال الاختيار.. ومما زاد الطين بلة.. أن العملية أحكمت ( على طريقة قدور الضغط ) بحيث لا تسمح باي شكل من أشكال إبداء الرأي بصورة حقيقية.. ولهذا وجدت الدولة نفسها فى حاجة الى مشانق.. والى سجون.. والى محاكم إستثنائية.. والى تجويع الناس.. والى مليشات مسلحة.. والى أحزمة أمنية.. والى شعارات من وزن " ما نبوش كلام لسان.. نبو شنقاً فى الميدان ".. فهل من العدل ـ بعد كل ذلك ـ أن نصف التجربة الغربية بأنها فاشلة.. ولا تحضى بقبول شعبي برغم مما نراه من مظاهر الحرية.. فى الوقت الذى نصّر على أننا مدرسة العالم فى مادة الحرية!!.. والعجيب أن الخطاب تزامن مع إطلاق سراح دفعة من السجناء الرأي!!.. الذين تقول بعض الروايات إنهم أضطروا للمقايضة على حريتهم بالتوقيع على وثائق تمس الحريات العامة (2).. على أي حال ما دمت " سيادة العقيد " تعتبر أن معيار القبول الشعبي معياراً أصيلا للحكم على أدوات الحكم.. فالحل أن تثبت للعالم ليس فقط صلاحية نظام المؤتمرات الشعبية.. بل المطلوب إثبات مشروعية وجوده فى سدة الحكم لفترة 30 عاماً؟!.. فتعييرك لهم بأنهم أنظمة أقلية ( نسبة لنِسب الإقتراع ) لا يمكن فهمه أو قبوله من نظام لم يستطع العالم حتى اليوم معرفة التكييف القانوني لوجوده فى سدة الحكم.. بل أنني أزعم أن عزوف الناس ـ فى الغرب ـ عن الانغماس فى ممارسة السياسة بصورة مباشرة.. مرده الى الإستقرار والشعور بالمردود الإيجابي لتجربتهم.. بعكس ما جاء فى خطابكم.
أما المعيار الثاني وهو مدى تحقيق الرفاهية.. فأنا أعيش فى بريطانيا منذ سنين طويلة.. وأعتقد أن ما يجعل هذه الأمة راضية عن نظام حكمها هو ما تفضلت به.. اي تحقيق الرفاهية.. فالحد الأدنى متوفر للجميع.. والجميع هنا تعنى حتى الأجانب.. والقصة هنا حقيقية وليست للدعاية.. فشعار مجانية التعليم.. ومجانية العلاج.. وبيت لكل عائلة.. حقيقة يعيشها الناس يوم بيوم.. فكل من لا يستطيع.. أو من لم يجد عملاً ( وضع تحت من لم يجد عملاً خط )..فمن مسئوليات الدولة أن توفر له ما سبق ذكره بالإضافة الى مرتب اسبوعي.. ولعله من الطريف أن تعلم أن المواطن الذى يمتلك قطة ـ مثلا ـ ويفقد عمله.. تتحول مسئولية إطعام القطة الى الدولة!!.. هذا غير توفير مياه نقية.. وكهرباء بدون إنقطاع.. وأماكن الترفيه.. والخدمات الاجتماعية.. والطرق.. والحدائق.. والمكتبات.. والملاعب.. و.. و.. الى أخر قائمة المطالب العصرية.
ومن دلالة حصول نوع من الرفاهية ( على الاقل بالمقارنة مع ليبيا ) غياب ظواهر كالتسول و الرشوة وعمل الأطفال.. وأنا لا أعفي النظام الغربي من العيوب.. ولكن ما يطمئن الناس هنا هو وجود أليات جادة.. وذات صلاحيات دستورية.. متفرغة للبحث عن حلول لكافة الأثار الجانبية الناجمة عن حركة المجتمع.. إذن نستطيع القول بأن النظام الغربي المتعارف عليه.. يستطيع أن يصمد أمام معيار " توفير الرفاهية " لمواطنيه.. وضيوفهم.. وزوارهم.. وفى كثير من الأحيان حتى لجيرانهم.. وإخوتهم فى الإنسانية!.. ويمكنك أن تسأل الطلبة الوافدين للدراسة.. هذه تجربتهم.. فماذا عن تجربتنا التى دخلت عامها الـ (30).. ودعنا نتحدث بعيدا عن لغة الثأر أو المزايدة.. دعنا نكرر ما يردده المواطن العادي.. ألسنا الدولة الوحيدة التى تتأخر فيها المرتبات لعدة شهور متتالية ( حسب برنامج للاهمية).. ألسنا نعاني من أزمة سكن متفاقمة ( حسب تصريحات د. غانم ).. اليس لدينا قوائم المحرومين من الثروة ( حسب تصرحيات السيد سيف الاسلام ).. أما العلاج فحدث ولا حرج.. فمن تونس الى الأردن مروراً بمصر يصطف الليبيون للحصول على فرصة تطبيب تحت المتوسطة.. أما التعليم فهو فى أسوأ حالته ( حسب أجتماعاتكم المعلنة مع قطاع التعليم ).. أما عن حالة البنية التحتية من طرق ومستشفيات ومدارس ومجمعات تجارية وملاعب رياضية.. فأتصور أننا من أتعس الدول.. وأما الإدارة التى هي عماد العمل الصحيح فكل الذين يذكرونها يترحمون عليها.. هذا غير تفشي ظواهر لم تكن موجودة منذ عقدين مثلا.. كالتسول.. والرشوة.. والمحسوبية.. والدعارة من أجل لقمة العيش.. وعمالة الأطفال.. وعليه إذا أردت أن تثبت أن التجربة الليبية ملهمة للعالم.. وأنها ناجحة وغير مسبوقة.. فما عليك إلا أن تثبت للمواطن الليبي.. قبل الخارجية الايطالية.. أنه يعيش بالفعل زمن الرفاهية.. وشخصياً أخجل من عقد أي مقارنة بين ليبيا وأصغر دولة أوربية.. بل لا أجد الكثير من أوجه المقارنة بين ليبيا وتونس على سبيل المثال.. خاصة ونحن بلد تعداده لا يزيد على الخمسة ملايين.. ويسبح فوق بحيرة من النفط.. فهل من إمكانية لوقف عملية " بيع الريح للمراكب ".. والدخول فى عملية يمكن حسابها على الورق؟!.
وعودة على ذي بدء أقول.. ربما سنتفق هذه المرة مع جيراننا على الضفة الأخرى " الطليان " حول قصة " الخطب الإستهلاكية ".. فإذا كان الشق المتعلق بالطليان قد فسر على أنه للاستهلاك المحلي ( الليبي ).. فلعلنا بدورنا نقول أن الشق المتعلق بتصوير الوضع الداخلي على أنه وصل الى حدود الكمال هو للاستهلاك الخارجي (الأوربي).
وأختم كلامي بما ختم به العقيد القذافي خطابه.. أي بمقولة هيردوت: " من ليبيا يأتي الجديد ".. ولكن للأسف لم يخبرنا الفيلسوف اليوناني هل ذلك الجديد بالضرورة مفيد.. أم أنه جديد فقط من جهة غرابته!!.
عيسى عبدالقيوم
_____
1ـ انا اقصد ما قالته وزارة الخارجية.. أما ما جاء على لسان حفيدة سيئ الذكر موسليني " اليساندرا ".. فقد فاق فى وقاحته فعل جدها.. وهو كلام لا يصدر إلا عن شخص اقل ما يقال عنه أنه معتوه.. فالاحتلال فعل شنيع لا يبرره أي شيء يقدمه المحتل.. وقضية اعتذار ايطالية ومن ثم تعويض الشعب الليبي قضية عادلة ومنطقية.