أصداء

أية إنسانية لحرب، لا إنسانية لها؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

فلمان عن العراق

عرضت قناة آرت الفرنسية يوم الثلاثاء( وهي من القنوات الثقافية المهمة في فرنسا)، فلمين تسجيلين عن العراق الاول بعنوان "مع هذا تستمر الحياة" والثاني" الكتيبة البيضاء"
فلم "مع هذا تستمر الحياة" للمخرجين الفرنسيين ماري أونج بويت و لوي أندرة مراد إن طاقم الاخراج قد حل ضيفا على عائلة عراقية تعيش في بغداد في مدينة الصدر قبلت ضيافته رغم المخاطر الامنية.
العائلة مكونة من 25 شخصا وموزعة على ثلاثة أجيال تتولى رعايتهم وادارة شؤونهم، ربة البيت- الام وإسمها( زويدة) ولدت في مدينة واسط ثم جاءت الى بغداد وعمرها عشر سنوات. يبدو من سير الاحداث ان صانعي الفلم عاشوا مع تلك العائلة تحت سقف واحد في أثناء إعداد الفلم وبإحتكاك يومي مباشر وحصدوا فرصة ثمينة.
لم تتح لغيرهم أن يتعرفواعن كثب على الشخصية العراقية، كيف تفكر وتستقبل يومها المحفوف بالدم، نظرتها الى الدين الذي أصبح لاحقا جزء من كيانها وجاء في بداية الفلم(حياة تكاد أن تكون إعتيادية) فالمقصود هنا العراق اليومي ولكن لم نر في تلك العائلة الضخمة العدد أي تفاوت فكري وعاطفي بين أبنائها وكأن الزمن متوقف لدى الجميع والكل يفكر برأس واحد وهذا غير منطقي فالظرف الجديد في العراق المشحون بالتوتر اليومي جعل الجميع يهتز ويبدل قناعاته فلا أحد ينام لحظة في سرير أحلامه، والسؤال المطروح: لماذا ترك الفلم إنطباعا سطحيا بل مجحفا عن تلك العائلة؟ المؤسف حقا هو تبسيط النظر الى الشأن العراقي وحصره بالجانب الفولوكلوري. لذا ركزت الكاميرة وبشغف على طريقة غسل الملابس، تنور الخبز وإنفصال الرجال عن النساء في أثناء الاكل، فلمّا كانت العائلة وقد طرحها الفلم إنموذجا لعائلة بغدادية، و(هنا تعميم خاطيء)، فليس من المعقول أن تكون بهذه الرتابة وكأن أفرادها طابور في الجيش أثناء التفتيش ليس لديهم الهوة الشخصية التي تفصل بين عالمهم الداخلي و الخارجي الذي يرفضون على الاقل الدم القادم القادم منه. وهذا مرده الى نظرة أوربية مبسّطة لواقع الآخر مسبوقة بأحكام على أن ذلك الواقع مجرد فولوكلور وحكايات وليس واقعا جاء نتيجة تاريخ واحتكاك مباشر مع الاحداث طبعته بالتناقض والتنوع.
إن الفلم الوثائقي ليس فقط طرح أسئلة وتلقي أجوبة إنما هو رصد الخفي والمكبوت على الشخصيات وتحفيزها للرد والفعل. هنا جاءت رتابة الفلم نتيجة طبيعية لرتابة الاسئلة المطروحة، حيث الاسئلة عبارة عن فراغ يحاور فراغا وليس أناسا لهم خصوصياتهم وعوالمهم.
لم يخرق الحواراعماق العائلة العراقية التي حصلت مؤخرا على إرث جديد بغض النظر عن مساوئه ومحاسنه لكنه متغير جديد فمن الطبيعي التعامل معه بمتغير كذلك
فمثلا لا يوجدأي مبررلطرح مثل هذا السؤال على إحدى الفتيات: هل ترغبين الزواج بأجنبي؟أعزو ذلك الى تسطيح النظرة القادمة من خارج الواقع العراقي حيث لم يتمكن الفلم من إقتحام عالم عراقي ضاج بيومياته عالم غرائبي غير متناسق. المخرجان إمتلكا الشجاعة الحياتية دون الثقافية عندما ذهبا للعراق وهنا تجدر الاشادة بإنجازهما، أضف الى ذلك رافق الفلم بعض الهنات الفنية منها إن الفلم أخذ طابع ريبورتاج صحفي لا غير ومن الناحية التقنية لا يوجد مسوغ لتكرار لقطات كلوز غير مبررة دراميا، والكاميرة أخفقت في أغلب الاحيان في رسم مشاهد الفلم الداخلية، أمّا الموسيقى التصويرية فهي بعيدة عن المناخ العراقي، شملت مزيجا من الاوركوديون وآلات غربية، هذه العوامل تضافرت معا لتحرمنا من رؤية فلم جيد وصادق عن الواقع العراقي.
للأسف عرض هذا الفلم على إحدى أهم القنوات الفرنسية ذي إرث ثقافي مميز وبوقت يجلس فيه الفرنسيون لمشاهدة الشاشة الصغيرة، يبدو لي السبب إن المسألة أشمل وأكبر من موضوع فلم أو رواية يتعدى الى واقع الثقافة العام برمته ومحاولة إشاعة الثقافة السهلة والمتواضعة في تناقضاتها.

فلم " الكتيبة البيضاء" إخراج يوري مالدافسكي وتيم كروزا.
هل تشن شخصية معينة دون أخرى حربا إذا ما إمتلكت هذه الشخصية الاستعداد الذاتي لتقبل الحرب؟ رافقت الكاميرة هذه الكتيبة بتماس يومي متصاعد مع الموت تصاعد الاحداث الدموية في العراق من عمليات القتال في جنوب بغداد الى المداهمات وأحيانا إلقاء القبض على تجار السوق السوداء المضاربين في سوق النفط.
الجميل في الفلم هو الدخول السري والعلني معا الى عوالم أربعة جنود أمريكيين يمثلون وجود الجيش الامريكي في العراق فنرى كيف يتحول الانسان تحت ظرف ما الى محارب والجندي الى شخص عادي لا قناعة له بالسلاح وجدوى الحرب حيث الجندي كإنسان في الحرب يصبح وجوده هدفا حربيا فمنهم من يعتقد أنه لا يستطيع ان يكون ودودا لان كل شيء من حوله ينفجر حتى البشر. والبعض يتقصى إنسانيته فيقول ما فائدة ان نصبغ المدارس والطلاب لا يمتلكون أحذية ! والاخر يصرخ لماذا نحن هنا؟! في حين يمضي واحد منهم للقول إنني جندي محارب والحرب مهنتي سأعود الى العراق لو سنحت لي الفرصة.
وهكذا يقودنا الفلم الى حقائق مع وضد الحرب. المهم عند عودة الكتيبة الى تكساس إن الجميع قد تغير ولم يعد كما كان سابقا والخلاصة إضمحلال الشخصية القديمة بفعل إحتكاكها مع الموت وإنغمارها بالتجربة الحياتية. الفلم حصيلة معايشة حوالي السنة في العراق هي فترة خدمة الكتيبة هناك. ونتيجة ذلك خرج الفلم منسجما مع ذاته فنيا وموضوعيا.

فأية إنسانية لحرب لا إنسانية لها !.

علي البزّاز
albazzazali@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف