أقباط مصر مثالاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أقليات الشرق الأوسط وأنظمة الحكم السلطوية ودور الأمم المتحدة
مشاكل وتحديات
تمر دول منطقة الشرق الأوسط بتحديات كبيرة قد تؤدى إلى إنفجارها الواحدة تلو الأخرى من الداخل، إذا لم تبادر بقايا خلاياها الثقافية/السياسية الحية بالحركة القوية نحو التعامل مع تلك التحديات بايجابية.
أن أبرز وأكبر هذه التحديات، والمعرقل الأساسي لتنمية تلك البلاد هو أنظمة الحكم السلطوية التي إستمرأت قهر هذه الشعوب بعد أن فشلت فى إدارة شئون الحكم نتيجة سؤ التخطيط أو إنعدامه على الإطلاق، بالإضافة إلى مغامرات حكامها العسكرية الفاشلة، وإستشراء الفساد على مدى نصف قرن من الزمن.
نعم هذا القهر السياسي/ الإجتماعي الذى خضع له الإنسان العربي، الذى كان يمثل أهم عناصر وأسس التنمية، وهذا المسخ الثقافي التعليمي، قد جعل منه عدوا لذاته أولا، وعدوا لغيره بعد ذلك.
كيف يمكن أن تخرج دول المنطقة من تلك الأزمة المتشعبة؟ ومن أين تبدأ؟
الإجابة لا يمكن أن تأتي إلا من خلال سرعة أعادة كرامة هذا الإنسان من خلال تمتعه بكل حقوقه الإنسانية، دونما تباطؤ، حتى يمكن أن نوقف الإنهيار، ونتجنب إتساع رقعة الدماء، من ناحية، وإستعدادا - من جهة أخرى - لبناء مجتمعات متامسكة ومستقرة يمكن على أساسها قيام الدولة الديموقراطية الحديثة!
وطبيعي أن نتساءل: وهل تستطيع شعوب المنطقة فى ظل أنظمتها السلطوية، ومن ذاتها، أن تبدأ التغيير والتطور والتنمية؟
المدخل إلى التغيير والإصلاح
لا شك فى أن التغيير الذاتي بمفرده، وفى الظروف القائمة أمر إعجازي! وبالتالي فهو يستلزم مساعد catalyst أو محفّز خارجي يدعم تلك الخلايا الحية المتبقية فى هذا الجسد العليل، ليتمكن من النهوض.
فان كانت الأزمة فى جوهرها هي أزمة حكم وأزمة إنسان، كما قلت، فلا يمكن تجاهل دور العالم الخارجي الذى سبقنا فى الإستقرار والتطور. وعليه فلا يمكن لأي مخلص - أمام هذا العجز الفاضح - قبول دعاوي التخوين والتخويف بسبب التعاون مع المجتمع الدولى ممثلا فى مؤسساته الدولية ومن خلال التعاون أيضا مع الدول الكبرى فى حل المشاكل التى خلقناها بايدينا، أو التى أورثنا أياها طغاة سابقون. وينسحب هذا التعاون وطلب المساعدة فى حل كل المشاكل وفى قلبها مسألة حقوق الإنسان برمتها كمحور لقيام النظام الديموقراطي وأساسا لحركة التنمية الشاملة التى تحتاجها المنطقة.
فى ضؤ هذه الرؤية الواقعية التى عبر عنها العديد من المثقفين العرب، وكانت قد صدرت فيها تقاريرللأمم المتحدة عن التنمية البشرية فى العالم العربي، يصبح تسويف الأنظمة السلطوية فى المنطقة للتطوير والإصلاح أمر مرفوض، ولا بد من مقاومته سـلميا بحركة سياسية شعبية كما حدث فى بلاد أخرى فى أوروبا وأمريكا اللاتينية.
ولا شك أن منظمات المجتمع المدني كلها، وفى قلبها المنظمات الحقوقية، عليها مسئولية نشر ثقافة حقوق الإنسان على أوسع نطاق، كما أن عليها إستخدام كل الآليات العملية المحلية والدولية لتعرية هذه الأنظمة من أجل صيانة حقوق الإنسان والمواطن بوجه عام، ومن ضمن ذلك حقوق الأقليات، خاصة فى مجتمعات العالم الثالث، حيث تمثل الأقليات الحلقة الضعيفة فى النسيج المجتمعي المعطوب أصلا. الأمر الذى تتعرض معه هذه الجماعات لإنتهاكات أشد قساواة من الإنتهاكات التى يتعرض لها بعض أفراد الأغلبية، وصلت فى حالات كثيرة إلى العزل الإجتماعي والتمييز المنتظم، والحرمان من الحقوق السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية، وصولا إلى تعرضها للعدوان المتكرر على أيدى العامة أو الجماعات المسلحة فى غياب حماية الأجهزة الرسمية أو بتواطؤ من رجال الإدارة المحلية. وكلها أساليب تتبعها الدول ذات الطابع السلطوي الفاشستي لتذويب الأقليات بشكل محكم بدلاً من شن عمليات الإبادة الجماعية المكشوفة. ومع ذلك فكثيرا ما تؤدى الإنتهاكات المتواترة والمنظمة الصادرة عن الحكومات، مع إنتشار الجهل والفقر وثقافة الكراهية ورفض الآخر المختلف، الى تهيئة الأجواء الإجتماعية لحدوث مجازر ضد الأقليات أو نزوحها لمناطق أخرى، أو إرغامها على الهجرة الجماعية لبلاد أخرى.
حقوق الأقليات.. خطوة إلى الأمام، من أجل التعايش والسلام
أمام ما تعرضت له الأقليات من مآس، فى أوقات السلم وفى أوقات القلاقل الإجتماعية والسياسية، وفى ضؤ عجز قانون حقوق الإنسان الدولى الذى وُضعت لبنته الأولى بصدور الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام 1948، بالإضافة إلى ما تلاه من عهود دولية، كان لزاما على المجتمع الدولى، ممثلا فى هيئة الأمم المتحدة، البحث فى مسألة الأقليات وكيفية حمايتهم وحماية حقوقهم الجماعية. ولم يكن rdquo;الإعلان العالمى لحقوق الأفراد المنتمين الى أقليات قومية وعرقية أو دينية ولغوية ldquo;- الصادر فى 1992 - إلا خطوة الى الأمام للتأكييد على حقوق الإنسان بإعتباره عضوا فى جماعة إنسانية (أو أقلية) ذات خصائص معينة تميزها عن جماعة أخرى تزيد عنها عدداً وقد تنتهك حقوقها على أساس من تلك الخصائص التى حددها الإعلان العالمى المعنى بحقوق الأقليات. وهكذا، فقد جاء الإعلان الثانى ليقوم بعمل لم يستطع الإعلان الأول القيام به على الوجه الأكمل.
تلا هذا الإعلان، ولحسن حظ منطقة الشرق الأوسط، إنعقاد أول مؤتمر أقليمي حول أقليات هذه المنطقة تحت اشراف مركز إبن خلدون للدراسات التنموية، وذلك فى المدة 12- 15من مايو عام 1994؛ وقد شارك فيه أعضاء من أقليات قومية وعرقية ودينية ولغوية: تركمان وشيعة العراق، جنوب السودان وعرب إسرائيل، والأمازيج بشمال أفريقيا، والأقباط بمصر، والجماعات المعروفة بلقب البدون (اي فاقدو الجنسية) بمنطقة الخليج. وكان من بين المشاركين المرحوم/ الزعيم والشاعر عمدة الناصرة توفيق زياد ومعه كوكبة من نشطاء حقوق الإنسان فى الأراضي الفلسطينية، وشاعر العربية الكردي المرحوم/ بلند الحيدري، ورياك مشار الزعيم السودانى الجنوبي، ويوسف الخوئي، د. محمد بحر العلوم من العراق، والدكاترة/ جهاد عودة، ابراهيم كروان، وكاتب هذا المقال.
والجدير بالذكر، أن الجميع، على إختلاف إنتماءاتهم، وجهوا إصابع الإتهام إلى الأنظمة الحاكمة وسياستها التى تميزت بالعنصرية تجاه هذه الأقليات، ولم يتهموا الأغلبيات - التى شاركوها الوطن - بانتهاك حقوقهم. هذا كما أن عرض المشاركين لمشاكل أقلياتهم فى ضؤ ثقافة حقوق الإنسان والتى تطورت لتلقى الضوء على أوضاعهم قد أعطاهم الأمل فى أن الكفاح السلمي هو الطريق الصحيح لنيل حقوقهم المشروعة. وهذا ماعبر عنه توفيق زياد، فى مداخلته بورشة عمل "المشرق العربي" حين قال: "إن الإعلان العالمي لحقوق الأفراد المنتمين إلى أقليات بالإضافة إلى كل العهود الدولية لحقوق الإنسانية هي أدوات هامة لتنظيم العلاقة بين الأقليات والأغلبيات." وأكد آخرون على "أن الديموقراطية والسلام هما أمل شعوب الشرق الأوسط، الأمر الذي يستلزم دعم منظمات المجتمع المدني والدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان."
وكانت فكرة المؤتمرقد تعرضت لحملة دعائية ظالمة شنتها صحافة السلطة فى مصر، لدرجة أضطر معها مركز إبن خلدون إلى تغيير مكان إنعقاد المؤتمر من القاهرة إلى ليماسول/قبرص. وكان نقل المؤتمر شهادة إدانة ضد صلف وإنغلاق كل الأنظمة العربية الحاكمة التى لم ترفض فقط إنعقاده فى أي من عواصمها، بل رفضت إساسا علاج ما تعانيه هذه الأقليات من إنتهاكات ظالمة. ومع ذلك فلم تسكت كل الأصوات، فكتب الأستاذ/ أحمد حمروش، فى روز اليوسف (23 مايو 1994) يقول:
"ما تمنيت أن ينعقد مؤتمر الأقليات فى الوطن العربي الذي دعا إليه مركز إبن خلدون مع جماعة حقوق الأقليات فى لندن.. ما تمنيت أن يعقد خارج مصر فى قبرص لأن الجو هنا أصبح مسمما ضد هذا المؤتمر حسب تصريح المسئولين عن المركز!! ما تمنيت أن يعقد خارج مصر بعد أن تراجع المركز عن إدراج قضية الأقباط فى مصر ضمن محاور المؤتمر.. لأن القضية ليست حِجراً على حرية الرأي أو مصادرة لجهد البحث. فقضية الأقليات فعلا تحتاج إلى بحث وتدقيق نحن أحوج إليه للتعرف على الأسلوب الحضاري الصحيح فى التعامل مع الأقليات المنتشرة فى العالم العربي."
أما الأستاذ/ حازم صاغية، فقد كتب ساخراً تحت عنوان "خطر قبرص على العرب!"، فقال:
"فيما كانت القاهرة تشهد توقيع إتفاقية الحكم الذاتي، كان حدث آخر يحصل فيها: إنتقال مؤتمر مخصص للتداول فى وضع أقليات العالم العربي، منها إلى قبرص. والحدثان ليسا من طينة واحدة، ولا هما فى السوية أياها. إذ الأول فلسطيني - إسرائيلي - دولي، يشكل نجاحا للدبلوماسية المصرية، أو رغبة واسعة فى تزويدها نجاحا كهذا، فيما الثاني، المتصل بنسيج العلاقات المجتمعية فى مصر والعالم العربي، ينم عن ضعف هائل يمس هذا النسيج... يتوج بؤس هذا النسيج ذاته بمفارقتين لا تعدمان الدلالة أولاهما أننا فى الوقت الذي نستفظع فيه إنعقاد مؤتمر للأقليات يندر البلد العربي الذي لا يعيش مشكلة أقلية، أكان على شكل نزف وهجرة وإحساس عميق بالغبن، أم على شكل حرب أهلية مفتوحة. وتكتسب الأزمة أسوأ معانيها حين يستنكف الأقلي عن تسمية نفسه أقليا، لا لأن مشكلة الأكثرية والأقلية قد حُلت، بل لأن الخوف الأقلي بالغ حد طمس المشكلة، وطمس التسمية بالتالي. وهنا يتواطأ طرفا الخوف على الغرف من ثقافة تجهيلية، ترى أن مفاهيم الأكثرية والأقلية بصفتهما عيوبا اخلاقية، لأننا (كلنا أخوان)، كما تذهب إلى أن حلول المشاكل كامنة فى عدم الإشارة إليها من قريب أو بعيد." (الحياة، 7 مايو 1994، ص 15).
الإنطلاق معا نحو الحرية
وها نحن اليوم فى عام 2006، وقد مضي أربعة عشرعاما على هذا المؤتمر التاريخي، الذى أيقذ الأقليات من سباتهم العميق، فراحوا ينطلقون نحو ساحة العدالة الدولية، بعدما صم الحكام إذانهم وبعد أن أغلقوا عيونهم وبعد تركوا العامة يواصلوان العدوان والتدمير والقتل وإنتهاك الحرمات!!
وأمام كل هذه الجرائم الإنسانية، التى تتناقل أخبارها عبر وسائل الإعلام العالمية، تلقي وسائل الإعلام المحلية ستاراً من التعتيم أوالتحريف والتزييف! وتتجاهل السلطات الحاكمة والمتحكمة مآسي الأبرياء الذين خربت بيوتهم وأحرقت زراعاتهم أو فقدت أحد أفرادها، وتتوه العدالة إن كانت أصلا موجودة.
ومع تطور مصر فى عالم الإتصالات والتكنولوجيا، تعمل الفضائيات المحرضة على الإرهاب ونشر الجهل والإثارة ضد كل من يدافع عن حقوق الإنسان، وخصوصا عندما يتناول موضوع الأقباط، وهو أمر لا يخدم بأى حال أية جماعة، بل على العكس سوف يأُصّل ممارسات لا وطنية ولا إنسانية يعانى منهما كل أبناء الوطن من جراء عرقلة المد الديموقراطي الذى يطرق أبواب المنطقة.
لقد أخذ موضوع الأقليات وضعاً هاما على الساحة الدولية، سواء فى هيئة الأمم المتحدة، بانشاء "مجموعة عمل الأقليات" أو فى البرلمان الأوروبي، وتوالت منذ ذلك العام دورات دولية يشارك فيها أعضاء من أقليات العالم بما فيهم أقليات الوطن العربي.
لذلك، يجب أن يفهم الجميع أن تناول مشاكل الأقلية القبطية، لم يعد من المحظورات، بل على العكس إنه واجب وطني وإنساني يجب علينا جميعا - أقباطا ومسلمين - أن نعمل على حلها بكل الطرق المشروعة، دونما حساسية، فى ضوء المعايير العصرية - الوطنية التى لا تتعارض مع القوانين الدولية - والتى تحافظ على كرامة وحقوق كل المواطنين فى آن. فبهذا وحدة يمكن أن تنهض الأوطان!
وفى النهاية - فى عالم اليوم - تبقى القضايا القومية السياسية والإقتصادية والإجتماعية شأن داخلى حقاً، إذا ما وجدت حلا وطنيا. أما اذا لم يوجد الحل - فى فترة زمنية معقولة وعلى أيدي كل الإطراف المعنية، فغالبا ما يصبح الحل الدولى هـو المخرج الوحيد مما أصبح أزمة، وإلا يُترك كل شئ للإنفجار.
.. لم تكن هذه الكلمات تسجيلا لتاريخ، بقدر ما هي حقائق أصبحت اليوم مكشوفة.. وكاشفة لطريق لابد من مواصلة السير فيه حتى تتحقق كرامة وحقوق الأقليات فى عالمنا العربي المأزوم، فعند تحقيق تلك الكرامة والحقوق تتحقق كرامة وحقوق الأغلبيات أيضا.
نبيل عبد الملك
* رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان