مفارقات ظاهرة في مسلسل محاكمة صدام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الإنسان بطبعه محب للمعرفة، والغموض عامل جاذب، وهذا سر وجود متابعين لكل المسلسلات العربية مهما كان المستوى الأدبي للقصة أو المستوى الفني فيه، ويدخل عامل التشويق في بناء ظروف الجاذبية كعملية التجزئة في القصة والإشهار وغيرها من العوامل، وهذا ما يدخل في عملية صناعة الرموز ولعل كثير من الرموز التاريخية في عالمنا العربي تم صناعتها بمثل هذه العوامل، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال محورية الحاكم في تاريخنا العربي و الإسلامي المكتوب مما تسبب في وجود إشكاليات لتراتبية عدد من المفاهيم الأساسية وبسبب هذا الخلل المنهجي أصبحت العملية التنظيرية لا ينتج عنها إلاّ التخبط والانغماس في الفوضى.
أنطلق من هذه الأمور الى محاكمة الرئيس العراقي المخلوع و أعوانه حيث تبرز مفارقات مضحكة لتلك المأساة التي يعيشها من كان على مقربة من الشؤون العراقية أثناء فترة حكم حزب البعث وتولي صدام إدارة شؤون العراق آنذاك، ولنستجلي محورية ثلاثة مفاهيم أساسية هي الإنسان والحكومة والقانون في فكر و ثقافة المتنفّذ أيا كان موقعه في عالمنا العربي والإسلامي.
سأرصد هنا بعض المفارقات التي اتضح بعضها فقط في جلسة المحاكمة ليوم 14/3/2006م و اتضح بعضها الآخر للعيان منذ اليوم الأول لتلك المحاكمة:
المفارقة الأولى: السلوك والمظاهر
فقد حرص الرئيس المخلوع بالدخول ممسكاً بالقرآن الكريم وقام في أحد الجلسات بأداء الصلاة في قفص المحكمة كما حرص بقية المتهمين - سوى صدام وهذا ليس تشكيك بعروبتهم - على الظهور باللباس العربي منذ انطلاق المحاكمة مع عدم إتقان البعض منهم طريقة استخدامه أو وضوح حداثة استخدامه للزي كما يبدو على طه ياسين، إذ لم يظهر هذا الحرص عليه أو على برزان التكريتي مثلاً أثناء فترة حكمهم ولم يشاهدهم أكثر الجمهور العربي بهذا اللباس - بملاحظة غياب هذا الزي العربي في الأجهزة الإعلامية - حين سيطرة هذا الحزب على الحكم في العراق والتشدق بشعار " أمة عربية واحدة".
المفارقة الثانية: العلنية والسرية
اتسمت محاكمة النظام السابق لقضية الدجيل بالسرية التامة الى درجة أن النائب الأول لرئيس الوزراء طه ياسين حسب زعمه في جلسة 14/3/2006م لم يعلم بأي تفاصيل عن تلك المحاكمة ولم تنشر أي من وسائل الإعلام العربي شيئا عن محاولة الاغتيال ولا تداعياتها التي أظهرت الطبيعة المخجلة لممارسات ذلك النظام، بينما كانت هذه المحاكمة مكشوفة أمام العالم.
المفارقة الثانية: بين قاضيين
يمثل وقوف عواد البندر وهو قاضي قضية الدجيل في محكمة الثورة للنظام السابق متهَماً في هذه المحاكمة أحد أبرز المفارقات الملفتة للنظر، حيث اعتبر البندر أن موت أحد المتهَمين تحت التعذيب أمراً طبيعياً ولا غرابة فيه، بينما لوحظ الاستغراب الشديد على وجه القاضي رؤوف رشيد من هذه الإجابة، ليكشف ذلك الموقف الثقافة التي تكرست في ذهنية الحاكمة وشكلت المأساة التي تعاني الشعوب التي لا حول لها ولا قوة أمام الحاكم.
المفارقة الثالثة: هيئة الدفاع.
زعم المتهم عواد البندر- قاضي محكمة الثورة السابق - أن عدم ذكر اسم المحامي في أوراق المتهمين 148 سقط سهواً - أثناء طباعة المحاضر - لوجود محامي (عراقي) مكلف بالدفاع عنهم، بينما تشهد هذه المحاكمة عددا لا بأس به من المحامين متعددي الجنسيات، فبالإضافة الى محامين عراقيين هناك محامي أردني و آخر أمريكي و آخر قطري و آخرى لبنانية.
المفارقة الرابعة: رفع الصوت و الصراخ
اتضح منذ بداية المحاكمة التوظيف السياسي للمحاكمة من قبل هيئة الدفاع والمتهمين أنفسهم ولو على حساب أنفسهم وظهر ذلك من رفع الأصوات والصراخ و مقاطعتهم وعدم حضورهم ومحاميهم أيضا في عدد من الجلسات وكذلك الجدال الذي يغلب على تداخلهم ومقاطعتهم لقاضي المحكمة والمراوغة في الإجابات ورفع الأصوات وظهر ذلك من خلال طرد بعضهم من أحد الجلسات، بينما اتخذ الإدعاء منهج التركيز على قضية الدجيل فقط وهي موضوع المحاكمة.
المفارقة الخامسة: قضاة القضية
قبل استقالة القاضي رزكار ظهر في بعض وسائل الإعلام أن هناك ضغوطا تمارس عليه بسبب إتاحة الفرصة للمتهمين بتحويل المحاكمة الى منبر سياسي بخروجهم عن مسار القضية في كل مرة يتحدث فيها المتهمون بينما مارس القاضي رؤوف رشيد نوعا من الصرامة وصلت الى حد انسحاب المتهمين أمام صرامته واعتبر بعض مؤيدي المتهمين ذلك تصرفا غير قانوني لهم من قاعة المحكمة.
المفارقة السادسة: الفترة الزمنية
استغرقت المحاكمة بسلطة النظام السابق منذ إحالتها الى محكمة الثورة 14 يوما فقط ليتم إصدار حكم بإعدام المتهمين - 148-، بينما أصيب العراقيين بالملل من مشاهدة هذه السلسلة من جلسات المحاكمة التي تجاوزت سنوات عدة منذ عرض المتهمين على قاضي التحقيق الأولي (رائد جوحي).
بعد سرد هذه المفارقات، نجد أن كل واحدة منها تحتاج الى قراءة مستقلة إلاّ اننا سنتجاوز الأمر الى دائرة أوسع وهي ما يمكن أن نلاحظه في عالمنا العربي و الإسلامي بأننا أمام ثقافة تحتاج الى عمل دؤوب لبناء ثقافة أخرى تقوم على أسس منها:
إعادة بناء مفهوم الحكومة للتفكيك بين مفهومين مختلفين هما مفهوم إدارة شؤون المجتمع والحرص على مصالحه و مفهوم السلطة التي تمنح لأداء هذه الوظيفة المقدسة.، حيث أن هناك نظرة خاطئة مؤسسة على مواقف تاريخية يمتزج فيها هذان المفهومان و محاولة البعض الإبقاء على هذه الحالة الضبابية.
.إعادة بناء وصياغة مفهوم الإنسان - الرمز والقدوة - و مكوناته، بلحاظ ما يظهر إعلامياً من حالة ترميز واعتزاز بهؤلاء المتهمين وهم من ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إعادة صياغة مفهوم قداسة القانون، ومنشأ الخلل - بحسب رأيي المتواضع- هو خلط بين التاريخي والتشريعي انبنى عليه تقديس خاطئ لما هو غير مقدس وتغيرت إثر ذلك تراتبية الأولويات والمبادئ في المنهج الفكري.
احمد النمر