أصداء

أحزان مندائية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قد لا يحفظ لنا التأريخ وأحداثه، كم هي من المرات التي إحتفل فيها المندائيون في عيد الخليقة ( بــَرونايـــــا ) أو ما يسمى بعيد ( البنجة ) لديهم، فلا بد أن ذلك التقليد وهذه الإحتفالية الدينية المرتبطة بنشوء الخلق والخليقة قد أوجدت لها حضوراً بهذا الشكل أو ذاك على مرّ العصور ولابدّ أن طرق الإحتفال بها أو تقديسها قد إختلفت من هذا الزمان أو ذاك، فللأسف الشديد لم تحفظ لنا الوثائق والأدلة المتوفرة كل ذلك الذي نرغب فيه، ولابدّ أن هذه الأيام المقدسة في معانيها قد صاحبتها في هذه المنطقة أو تلك أو في هذه البلاد أو تلك، كثير من حالات الإنكفـــاء على الذات من قبل المندائيين لظروف خارجة على إرادتهم، تتمثل ربما لهجرة ما أو حرب ما شهدوها وعانوا منها إضطرتهم للرحيل عن ديارهم ومواطن سكناهم، أو ربما لخطر ما متمثل بكارثة طبيعية أو وبــــاء أو ربما لحالة من الإضطهاد القسري الحاد المتمثل في إرغامهم على ترك معتقداتهم و أفكارهم الدينية وبالتالي تذويبهم في هذا الدين أو المعتقد أو المذهب تحت سلطة الترهيب وسفك الدم أو بالترغيب أحيانـــاً قليلة. وكل ذلك الذي جرى ويجري من حين الى حين حتى يومنا هذا قد رعته بشكل أو بآخر السلطة أو القوة التي تحكم المجتمع عبر أعرافها وقوانينها المشرّعة والمعبرة عن رغبة جامحة، معلنة أو غير معلنة في تركيع هذا الطرف أو ذاك من فصائل المجتمع أو أقلياته تحت مختلف المسميات من تكفير او الحفاظ على عادات المجتمع السائدة والمفروضة أصلاً بقوة القانون أو بحجة المحافظة على الأخلاق والفضيلة.. الى آخره من الذرائع التي يتم سنها أحياناً بشكل قانوني مغلف بعبارات ديماغوغية مضللة تخفي من وراءها الكثير.
هذه الصورة التي طبعت أعياد المندائيين و قبلها وجودهم، لم تختلف عن الحال الذي عاشوه ويعيشوه في عمر الدولة العراقية الحديث الذي عصفت به الأحداث السياسية كثيراً وأثـرت بشكل أو بآخر على وجود كل الأقليات الأثنية من فترة الى أخرى. وحتى المناسبات الدينية المتمثلة بالأعياد وبإجراء الطقوس، بقيت هي الأخرى مهمشة أو مغيبة أو تتعرض الى الكثير من الإنتقاص أو الإستهزاء أحياناً كثيرة من هذا الفرد أو ذاك وحسب ما تمليه موازين الأفكار السائدة في المجتمع. وعلى هذا الأساس كله، فإن الحال المزرية والمضطربة التي يعيشها المندائيون وهم يستقبلون عيد ( الخليقة ) المبارك لديهم في هذه الأيام وغيرها من مناسباتهم التي مرت وتمر مستقبلاً، ليست ببعيدة عما لاحقهم عبر مرّ التاريخ!
إنْ كان إضطهاداً إجتماعياً وتمييزاً عنصرياً و دينياً، فقد عاشوه ولا زالوا، يهدد وجودهم كمجموعة بشرية عريقة في أرض بلاد الرافدين، وإنْ كان إضطهاداً سياسياً، فقد دفعوا من خلاله الكثير من أبناءهم وبناتهم ولا زالوا من أجل حرية الوطن وشعبه الذين هم جزء أصيل منه. وإنْ كانت حروباً معلنة خارجية أو داخلية غير معلنة، فقد قدموا الكثير من ضحاياهم دون ذنب يرتكبوه هم وغيرهم من أبناء الشعب المسحوقين بسلطة الدولة أو برغبة هذا الوالي أو الخليفة أو بطغيان هذا الحاكم أو ذاك! وإنْ كانوا مهجرين ومغيبين، فها هي دول وبلاد المهجر تحتضن الكثير منهم، بعيدين عن أرض موطنهم وعن أصولهم التي تمتد الى حضارة سومر! أما الحديث عمن أرغموا على ترك ديارهم في أرض الوطن أو أرغموا على إعتناق هذا المعتقد أو ذاك تحت التهديد بالسلاح وبالقتل أحياناً لفرد من أفراد العائلة و تكفير الآخرين منهم أو إختطافهم، فهو يجري على مسمع ومرأى ( الدولة العراقية ) المغيبة أصلاً ومنذ عقود طويلة!
المعتقدات والأعياد المندائية في قدم معانيها.. وفي عراقة طقوسها.. لا تحمل عبر مرّ العصور وكما هو مدون في كل الكتب المندائية المتداولة، عداءاً أو نزاعاً لأحد ما.. مجموعة أو أفراداً أو سلطة أو قانوناً أو تجاهر بأفكارها وتلغي الآخرين أو تحتقر معتقداتهم أو تضعهم في منزلة ثانية أو ثالثة أو عاشرة! وحتى تراثهم الإجتماعي والحضاري يحمل في الكثير من أحداثه مساهمات ناصعة و مفاخر لكل حضارات باقي الأديان ومنها الحضارة الإسلامية على سبيل المثال وهي الأقرب والمكملة لواقع عيشهم المتلاحق. لكن ما يعاني منه المندائيون اليوم وكما تشير الوقائع والأحداث داخل الوطن وما يجري لهم من عيش ذليل وإنتهاك واضح لحقوق عيشهم الديني والإجتماعي والإنساني، يضع الدولة العراقية المتمثلة بالحكومة و مؤسساتها وبمفاصل المجتمع الأخرى المتمثلة برجال الدين المسلمين المتنفذين في حياة المجتمع العراقي هذه الأيام أمام مسؤولياتهم الإنسانية أولاً، كون المندائيين أخوة لهم في الخلق الذي أوجده رب الحياة وخالقها، وثانياً أمام معتقداتهم الدينية السمحة التي نصت على عدم إرغام الغير أو إرهابه من أجل إعتناق هذا الدين أو هذا المذهب أو ذاك.. و ثالثاً وليس أخيراً أمام مسؤولياتهم الإجتماعية والوطنية في عدم خلق فتنة عنصرية أو طائفية قد تهدد الوطن من شماله الى جنوبه، لا تبقي لا على الصابئة المندائيين وحسب، وبل وعلى كل المعاني الأصيلة للأديان السماوية كافة التي تدعو الى المحبة والتآخي والسلام والعيش الكريم البعيد عن التهديد والخوف والحرمان!

عبد الجبــــار السعودي
بصــــرة - أهـــــوار في آذار 2006
basrahahwar@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف