أصداء

لبنان أولاً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تقاسيم منفردة لسمفونية مشتركة

للمرة الأولى منذ الاستقلال، وبعد حوالى سبعة عقود شهدت حربين اهليتين واصطدامات عنيفة سقط فيها آلاف القتلى والجرحى، اتفق اللبنانيون على ان يتفقوا، بعد ان كان القول السائد "اتفق اللبنانيون على أن لا يتفقوا"!...
وللمرة الاولى، منذ الاستقلال ايضاً، يتحاور اللبنانيون فيما بينهم تحت قبة البرلمان دون "عراب" اقليمي أو دولي، بعدما تبين لهم، على مدى هذه العقود هشاشة الاتفاقات التي توصلوا إليها، حين كان "الرعاة" الاقليميون والدوليون يقررون عنهم مصير البلاد والعباد، ودائماً وفق مصالحهم الكبيرة والصغيرة.
هذه المرة، ورغم الانقسامات الحادة بين "حواريي" الصف الاول، جلس الجميع حول الطاولة المستديرة، تتقدمهم الأوراق والمستندات والمراجع، ولدى كل منهم ما يقوله بصرامة وشفافية في محاولة جادة لتربيع الدوائر وتدوير الزوايا. استفاقوا اخيراً على أن الخطر يلف الجميع ولا بد من مبادرة انقاذية تصلح ما أفسده الدهر، أكان الفساد من صنع محلي، ام بفعل مداخلات خارجية وضعت لبنان على برميل بارود.
في اللقاء الاول، وسط تدابير امنية لفت ساحة الحرية لم يشهد لبنان مثيلاً لها من قبل، سبقت المتحاورين ابتسامات تنم عن رغبة حقيقية بالإنقاذ. تصافحوا وتعانقوا امام كاميرات المصورين. "اليوم يوم القيامة"! تأملوا وصلوا، وتوجه كل منهم إلى كرسي الاعتراف ليدلي بما لديه من شروط ومطالب. بعضها "مقدسة" لا يجوز التراجع عنها، وهي من اختصاص الصف الأول، وبعضها الآخر، للصف الثاني، يمكن التداول بشأنها وتحتمل الاخذ والرد وصولاً إلى قواسم مشتركة، وأقله، بما يوحي للرأي العام أن الحوار جاد، وأن لبنان الذي كان "راح وانقضى" وصار لبنان اولاً وأخيراً.
انتهى الفصل الأول من الحوار. تفادى بعض اللبنانيين وتشاءم آخرون. الهدنة من ضرورات الحوار. تعلقت الجسات اسبوعاً مكنت المتحاورين من العودة إلى مستشاريهم وحلفائهم. فك الحصار الامني عن وسط بيروت بعد خسارة فادحة اصابت اصحاب المؤسسات والمطاعم والمتاجر. التضحية واجبة طالما محاورو الصف الاول يعدون بإنقاذ لبنان والملف السوري للبنانيين.
بدأ الفصل الثاني. مصافحات روتينية ولا قبلات. صار الجميع من اهل البيت. يعرفون مواقعهم جيداً وموقع كلامهم وما يمكن أن ياتي من مواقفهم المعلنة و"المعلبة" من نتائج في حوار إنقاذ لبنان. حتى وليد جنبلاط الذي تجرأ وغادر موقعه في الفصل الاول ليغرّد على ذوقه في واشنطن ونيويورك، وهناك من يفيد أن تغريده جاء ضمن سمفونية واحدة متعددة الآلات والأحداث، عاد من جديد ليحتل موقعه النافذ والمتقدم جداً، وليؤكد أن ما فجّره امام وزير الخارجية الاميركية كوندوليسا رايس وفي الامم المتحدة حول مزارع شبعا والمقاومة، سبق أن أعلن عنه في جلسات الحوار التي تشارك فيها، وبالتالي لم يقل جديداً. وإذا كانت صراحته ازعجت الكثيرين، فإن وليد جنبلاط معجب بدبلوماسيته، سواء لعب فوق الطاولة أم تحتها.
انتهى الفصل الثاني من حوار متعدد الفصول. هكذا يبدو حتى اللحظة. وبانتظار الثالث يوم الاربعاء المقبل، لا بد ان يراق حبر كثير وكلام كثير حول النتائج التي توصل اليها المتحاورون والاتفاقات المعقودة بين مختلف الافرقاء والامكانيات المتاحة لتنفيذها، وحيث بدأ الكلام فعلاً حول حجم الخسائر والارباح التي حققها كل فريق. وعلى عادة اللبنانيين، مواطنين ومسؤولين، فإنهم حتى الآن وللأسف، وعلى الرغم من التجارب القاسية التي مروا بها، وحجم الخسائر التي دفعوها موتاً وتدميراً، لم يدركوا اهمية الحوار بين اللبنانيين أنفسهم ودون مداخلات اقليمية ودولية، خصوصا في هذه الظروف المصيرية، وطالما أن المعادلة مستمرة على قاعدة "رابحون وخاسرون" فإن لبنان لن يعرف الهدؤ والاستقرار، ولا بد في هذه الحالة ان يعاود المسلسل الدرامي بث حلقاته تباعاً حتى تفجير الوطن من جديد.
إنه لمن الغرابة أن يكون لبنان بلداً بسيطاً ومعقداً على السواء. معقداً، لأنه يحمل في تكوينه وطبيعته ومواطنيه كل قضايا الشرق الأوسط المتفجرة. انه مرآة منطقة مهشمة ومدمرة وشعوب محبطة، وقضايا محقة مستباحة وحقوق مغتصبة، ومستقبل مرهون للمصالح والمؤامرات الدولية. وبهذا المعنى، فإن عزله عن كل ما تعانيه المنطقة هو رهان على باطل، او طوباوية خسرت موقعها في زمن العولمة الشرسة، او سذاجة لم يعد لها موقعها في الالعاب السياسية الكبرى.
إنما وعلى الرغم من ذلك، كان لبنان بلد سهل وبسيط، طالما انه قادر على تخطي العوائق والحواجز مهما كانت انواعها وأحجامها، بالاقتناع والإقرار ان وجوده الحقيقي والفاعل لا يقوم إلا على التفاهم والتوافق بين جميع ابنائه، وبدونهما لا يمكن له ان يكون هذه المعجزة التي تحدث عنها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. وإذا كان لهذا الحوار بين جميع اللبنانيين على مختلف طوائفهم ونزعاتهم السياسية من اهمية بالغة فلأن جميع المتحاورين، ادركوغ ولو متأخرين، ان لبنان معجزة حقيقية في منطقة تعج بالحروب والصراعات والتحديات.
هل يحملنا هذا التفاهم الى تفاؤل؟
قد تكون في منتهى السذاجة اذا افرطنا في قناعاتنا على ان صراعا يعود الى سبعة عقود مضت من عمر لبنان الحديث، الى عشرات العقود من عمر لبنان التاريخي، لكننا على الاقل نستشف املاً كبيراً من خلال المتحاورين انفسهم، الذين لم يطرحوا جديداً على ما جاء في بنود اتفاق الطائف، وما أكد عليه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في بيانه الحكومي الاول، وكذلك الحال للمجلس التشريعي الحالي.
إن الحوار القائم حالياً انطلق بكل بساطة من فلسفة التفاهم والتوافق، وبدون ذلك، لا يمكن للبنان ان يكون او يستقر. انه انتصار العقل على العواطف، وأيضاً اسقاط مبدأ عزل لبنان عن محيطه وتخوين الواحد للآخر. وعلى هذه القناعة يجب مواجهة كل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لان الفشل ممنوع، وأيضاً العودة إلى الوراء.

ألبيـر الخـوري

بيروت

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف