أصداء

السفسطة والمنطق الأرسطوطاليسي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تؤمن السفسطة بالحقيقة النسبية قولا وفعلا بينما أصحاب المنطق القديم يؤمنون بالحقيقة المطلقة نظريا ويخالفونها عمليا.ومن المبادئ السفسطائية قولهم: "الإنسان مقياس كل شيء" وبهذا المبدأ خدم السفسطائيون الفكر البشري خدمة كبيرة. يقول البروفسور زيلر: " إن الخدمة الدائمة التي قدمها السفسطائيون للفلسفة هي أنهم وجهوا الأنظار نحو دراسة الإنسان ووضعوا الأساس للتربية النظامية ".هذا وتذهب السفسطة إلى أن الحقيقة هي تناقض ونزاع. لقد كان السفسطائيون طائفة من المعلمين المتجولين في عهد الإغريق القدماء وقد احترفوا مهنة تعليم الناس فن الكلام.وفلسفتهم مؤداها إن الحقيقة نسبية غير مطلقة وان مقياس الحقيقة هو الإنسان بمصالحه ورغباته وشهواته.فمادام الإنسان على زعمهم مصدر الحقيقة ومادامت الحقيقة متغيرة بتغير مصالحه ورغباته وشهواته فقد أصبح من الجدير بالفرد في نظرهم أن يحذق فن الإقناع لكي يستطيع أن يجذب الغير إلى جانبه في مجال الجدل والخصام أو يؤثر في الحكام ليحكموا حسب ما تقتضيه مصلحته الخاصة.وظهر أخيرا ضدهم رجل يدعى سقراط ويروى انه كان سفسطائيا ثم انشق عليهم مدعيا أن وحيا نزل عليه وان رسالة مقدسة كلف بها لإنقاذ العالم من شر الفلسفة السفسطائية.ظل سقراط يكافح ويبشر بدعوته حتى حكم عليه بالموت وقد خلفه في مهمته تلميذه أفلاطون وقد حول هذا الأخير مجالها من الشارع إلى الأكاديمية ومن النقاش الشفاهي إلى صفحات الكتاب.ومن سوء حظ البشرية أنها أجهضت في مهدها.لم تكن السفسطة بدون عيوب إلا أن عيوبها يجب أن لا تحجب عن عيوننا محاسنها.ومن محاسنها انتقادها عبادة الأوثان في ديانة الإغريق القدماء ومن عيوبها إنها أثارت أيضا الشك من غير تقديم البديل ومع ذلك يجب ألا ننسى المبدأ القائل:( إن الشك مبدأ اليقين).وبعد موت سقراط بدأ يتظاهر أفلاطون بأنه تلميذ سقراط الأمين والمخلص وشرع يؤلف الكتب ويدعي انه يسجل فيها تعاليم سقراط.وهكذا أراد أفلاطون أن يستغل اسم سقراط في سبيل مصلحته الخاصة، مستفيدا في عمله ذاك بسبب عدم تسجيل سقراط تعاليمه في كتاب.كان أفلاطون يختلف عن سقراط.لقد كان سقراط ديمقراطي المنشأ والعقيدة وأما أفلاطون فقد كان ارستقراطيا ومن أصحاب العبيد.كان سقراط فقيرا ومن عائلة فقيرة وذا نزعة شعبية وظل فقيرا حتى مات.وكان كذلك دميم الخلقة، أصلع الرأس أفطس الأنف غائر العينين.وأما أفلاطون فقد كان نبيلا في نسبه ومزاجه وثريا ويملك العبيد وكان يكره العامة ويدعو إلى سحق النظام الديمقراطي. أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض ودعا إلى البحث في الإنسان وفي مصلحته بدلا من التأمل في الحقائق المثالية التي لاتنفع الإنسان شيئا.أما أفلاطون فقد أرجع الفلسفة إلى البحث في السماء مرة أخرى وابتكر لذلك عالم المثل الذي عرف به.كان أفلاطون مصابا بالانحراف الجنسي ولم يتزوج في حياته ولعله كان يكره المرأة بينما كان سقراط متزوجا ولديه ثلاثة أطفال وكان يتحمل بذاءة زوجته وصراخها بصبر عظيم.يبدو أن أفلاطون كان فيثاغوريا أكثر مما كان سقراطيا.كان المنطق السفسطائي اجتماعيا بينما كان منطق أفلاطون رياضيا.وشتان بين منطق الأرقام ومنطق البشر.كان الفكر البشري ولا يزال بحاجة إلى نوعين من الآراء يتنازعان ويتفاعلان:الآراء الأفلاطونية والآراء السفسطائية. يقول علي الوردي : " حول أفلاطون البحث النظري من الشارع إلى الأكاديمية وبهذا عزله عن الحياة الاجتماعية واخذ طلاب العلم الأكاديميون يبتكرون المصطلحات الرنانة وجاء المترفون وشجعوا مثل هذه الحذلقة الفارغة حيث وجدوا فيها وسيلة لإلهاء عقول الناس عن البحث فيما هم من بلايا وأرزاء.وكلما ازداد المفكر حذلقة ازداد المترفون له تقديرا وإكبارا.ولا يزال العامة عندنا متأثرين بهذا الاتجاه الأفلاطوني فإذا سمعوا كلاما غامضا مملوءا بالمصطلحات التي لايفهمونها اعتبروه من آيات البلاغة والفلسفة العالية ".كان السفسطائيون فقراء يحترفون التعليم.كانت السفسطة ذات منطق ديمقراطي.ومن مهازل العقل البشري كان العامة في بلاد الإغريق يكرهونها كما كرهها أفلاطون.ومشكلة العامة في معظم الأحيان أنهم يندفعون مع المترفين فيما يناقض مصلحتهم.وهم كما وصفهم الإمام علي:" يندفعون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح".انتشرت السفسطة بين الإغريق يوم كانت الديمقراطية سائدة فيهم.ثم جاء أفلاطون من بعد ذلك فكافح السفسطة وكافح الديمقراطية في نفس الوقت واستطاع أن ينتصر على السفسطة انتصارا كبيرا.لقد كان أفلاطون على عبقرية لامعة وصاحب قلم سيال وساعده في هذا الانتصار النظام الاستبدادي الذي جاء بعد موته بزمن قصير وبهذا استطاع تلاميذه أن يكملوا ما بدأ به ويقضوا على السفسطة قضاء نهائيا.ومن مهازل القدر نرى الفارابي ذهب في تمجيد أفلاطون إلى درجة انه جعله في مستوى الأنبياء وأما ابن رشد فأخذ يطنب في تمجيد أرسطو حتى وصل به إلى فوق طور الإنسان وسماه الفيلسوف الإلهي. واليوم يتحدث كثير من الناس عن المنطق دون معرفة ماهيته.ويقال في تعريفه انه علم القوانين التي تعصم مراعاتها عن الخطأ في الذهن.لم يعرف الناس في القديم إلا منطق أرسطوطاليس وكان هذا المنطق مرجع المفكرين خلال عصور طويلة وقد اقتبسه مفكرون مسلمون وبالغوا في تمجيده.وقد درس هذا المنطق في بلادنا وتغلغل في أعماق عقولنا وأصبح الناس متأثرين به من حيث يشعرون أو لا يشعرون.ويقوم منطق أرسطو على القياس وهو قياس يتسلسل تسلسلا تدريجيا من المعلوم إلى المجهول أو من المقدمات إلى النتائج على حد تعبير المناطقة ولديهم مثل مشهور كل إنسان فان وسقراط إنسان فسقراط إذن فان.لايمثل منطق أرسطو واقع الحياة وهو منطق البرج العاجي. وبعد موت أفلاطون تناول مشعل الفلسفة ارسطوطاليس الذي أطلق عليه لقب المعلم الأول.وصاغ منطقا عرف باسمه ووضعه في قالب نهائي وشكل هذا المنطق ضربة قاضية على الحركة السفسطائية.كان من سوء حظ البشرية أن انتصر منطق أرسطو واندحرت السفسطة.يرى الوردي أن منطق أرسطو كان عاملا في عزل المفكرين عن الناس وأصبح رجل الفكر يحتقر رجل العمل ويستهجن طريقة حياته ونمط تفكيره وأصبح يبني لنفسه القصور والعلالي ولايفهم مشاكل الحياة ويرى من يقرأ تاريخ العلوم تأخر ظهور العلوم الاجتماعية بالنسبة للعلوم الطبيعية والسبب انتشار منطق أرسطو الذي اهتم بالحقائق المطلقة وأهمل الحقائق النسبية.إن العلوم الاجتماعية تحاول دائما أن تنزل إلى الواقع المتغير لتكتشف قوانينه.فلاسفة الإغريق كانوا من أصحاب العبيد وغير مضطرين للتفكير في معائشهم وكيفية الحصول على رزقهم ولم يعانوا من مشاكل الحياة ليفكروا فيها تفكيرا جديا.إن منطق السفسطة كان اقرب إلى فهم الحياة الواقعية من منطق أرسطو.وسار الفلاسفة المسلمون في القرون الوسطى على نفس الوتيرة.فهم لم يكونوا من أصحاب العبيد إلا أنهم يكتبون في الغالب للأمراء والسلاطين ويرجون منهم الجوائز على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي. يعد عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406م) صاحب كتاب"المقدمة" الشهير أحد ابرز الأعلام الفكرية في العالم العربي والإسلامي والذي
يصفه المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي) بأنه أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي زمان أو مكان

IT IS THE BEST WORK OF ITS KIND THAT IS CREATED BY ANY MIND IN ANY TIME OR PLACE

أول مفكر ثار على الفلسفة القديمة بشكل عام وعلى المنطق الأرسطي بوجه خاص. استعمل في مقدمته كثيرا من المصطلحات الفلسفية والأقيسة المنطقية التي كان الفلاسفة القدامى يستعملونها ولكن ذلك لا يعني انه كان يتبع الأسس والمبادئ الفلسفية القديمة في دراسته الاجتماعية و يعترف ابن خلدون بأن المنطق القديم له فائدة للمفكر إذ يجعله بارعا في ترتيب الأدلة والحجج. يقول ( على الوردي ) "إن ابن خلدون استطاع أن يبدع لنا علما جديدا لأنه استطاع أن يتحرر من المنطق القديم ويتخذ لنفسه منطقا جديدا، والواقع أن العلوم الحديثة كلها، الطبيعية منها والاجتماعية لم تستطع أن تنمو هذا النمو العجيب إلا بعد أن بدأ فرنسيس بيكون ثورته المعروفة على المنطق الأرسطي والتراث الفلسفي القديم.".وجاءت شهرة ابن خلدون من كونه أول من درس المجتمع البشري بصورة واقعية. يصلح المنطق الأرسطي للوعظ وللمشاغبة معا.القياس المنطقي أصبح آلة بيد الإنسان يستعمله في سبيل ما يشتهي وما يرغب فيه.وأصحاب الفرق الدينية كلهم يستعملون هذا المنطق لتأييد دعاواهم المذهبية.منطق أرسطو عزل المفكرين عن واقع الحياة وصعد بهم إلى السحاب.ويتضح لنا ذلك حين ندرس قوانين الفكر التي يستند عليها هذا المنطق في اقيسته.فهي قوانين تناقض قوانين الواقع تناقضا كبيرا.وسموها قوانين الفكر الأساسية.وبزعمهم فان هذه القوانين هي أساس كل تفكير سليم وهي قانون الذاتية وقانون عدم التناقض وقانون الوسط المرفوع فأما قانون الذاتية فقالوا ان الشيء هو بذاته ومؤداه إن الثبات أو السكون أصل الحياة.أما اليوم فقد انقلبت هذه الفكرة رأسا على عقب حيث ثبت أن المادة في حركة مستمرة وانتقلت هذه الفكرة من الفيزياء إلى العلوم النفسية والاجتماعية فأصبح مفهوم المجتمع اليوم مفهوما حركيا.وكذلك عرفت الشخصية البشرية حديثا بأنها حركة وصيرورة.وأما القانون الثاني فقالوا إن الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا وحائزا لصفة معينة في نفس الوقت وهو يقود إلى الحقيقة المطلقة وهي غير مطلقة في علم الاجتماع.وأما القانون الثالث وهوالوسط المرفوع أو الثنائية ويرى أن العالم مؤلف من جانبين أو طرفين لاثالث لهما.جانب الحق وجانب الباطل أو جانب الجمال وجانب القبح.أو جانب الخير وجانب الشر..ونحن نقول عن الأشياء حار وبارد وهي بالنسبة لنا ولكنها ليست كذلك في الكون. يتضح مما سلف أن قوانين الفكر التي يجري عليها المناطقة في تفكيرهم لاتطابق قوانين الواقع الذي يعيشون فيه.وهذا أدى إلى ابتلائهم بداء ازدواج الشخصية على حد تعبير الوردي.ويذكر عالم الاجتماع العراقي في كتابه خوارق الشعور أو أسرارالشخصبة الناجحة أن المبتلي بمنطق أرسطو يؤذي نفسه ويعرقل سبيل نجاحه من نواح ثلاث أولا يكون كثير الأعداء قليل الأصدقاء، ثانيا يؤذي نفسه لأنه يتصور الناس كلهم منطقيين في أعمالهم الواقع الناس بعيدون عن المنطق في حياتهم العملية،ثالثا التفكير المنطقي يؤدي إلى الفشل من ناحية ثالثة إذ هو يحول بين الفرد وبين استثماره لقواه النفسية الخارقة.

صبحي درويش

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف