المثقف و السلطة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
علاقة معقدة و ثورة خفية
الثقافة عملية متواصلة و متعددة أو شاملة الجوانب، و هي عملية يختارها الإنسان لنفسه، ليس قدراً يلقاه يوماً، من غير الممكن القول أنني صرت مثقفة بالصدفة، أو أن قدري كان أن أكون مثقفة، الثقافة هي إختيار، تماماً كالتوجه السياسي، فكما يختار الإنسان طريقاً أو منهجاً سياسياً يناضل فيه و يمشي فيه، نفس الشيء تماماً بالنسبة للثقافة و المنافذ التي يختارها لتثقيف نفسه.
رغم أن السياسة فرع من فروع الثقافة، و ليس العكس، إذ لا يمكن القول أن الثقافة هي جزء من السياسة، بكلمات أخرى من غير الممكن أن تكرس الثقافة نفسها لخدفة السياسة و إنما من الممكن أن نبلغ الأهداف السياسية بواسطة الثقافة، بشرط أن لا تتعارضا، فلو تناولنا المسألة من هذه الزاوية نجد أن السياسة و السلطة السياسية تنطلق من داخل الدوائر الثقافية و حتى أن نهاياتها تكون هناك، و ليس العكس بحيث تتحكم السلطة السياسية في قدر المثقفين، و أن تتحكم السياسة و السلطة الحزبية في قدر المثقف، أو أن تتحول الثقافة الحزبية و السياسية إلى الثقافة المشاعة في المجتمع، ففي تلك الحالة تتحول الثقافة إلى ثقافة سلطوية و تتحول شيئاً فشيئاً إلى ثقافة دكتاتورية تفرض مفاهيمها في أطر حزبية و سياسية حزبية، بحيث تسد كل منافذ الثقافة الأخرى و تتحول في النهاية إلى أداة لممارسة أبشع أنواع القهر و الكبت الثقافي.
وعندما يقف المثقف في جبهة الضد من السياسة أو السلطة السياسية، فذلك معناه أن السلطة السياسية قد تحولت إلى مصدر خطر و يشكل تهديد على العملية الثقافية بمعناه الواسع و الشامل..
ما من شك أن الثقافة بمقدورها دائماً أن تجيب على أسئلة السياسة على إعتبار أن السياسة هي جزء أو فرع من فروع الثقافة، بالرغم أن ما يربط عالمي الثقافة و السياسة هو نوع من الجدلية المعقدة القائمة على مبدأ تقويض الثقافة و هدرها داخل الدوائر السياسية..
من جانب آخر هناك نوع من التعقيد و الغموض اللذان يلفان نوعية العلاقة التي تربط بين عالمي السياسة بمعنى السلطة و الثقافة، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة الإصلاح، بكلمات أخرى إذا أردنا إجراء الإصلاح هل يجب إجراءه على السياسة أم على الثقافة؟ من أين يجب أن نبدأ؟ من الحاضر؟ أم من الماضي؟ بمعنى بالعودة إلى أخطاء الماضي و تصليحها، أو ترك الماضي لأنه أصبح ماضي و البدأ بمسيرة سياسية أخرى صحيحة و أن نكتفي بإصلاح العلاقة بين الثقافة و السياسة..
يقول (قاسملو) السياسي الإيراني المعروف الذي أغتيل عام 1989 في فيينا مع رفيقيه، يقول: لو كان أجدادنا ناضلوا بشكل صحيح لما تعبنا نحن اليوم، اي أن شكل النضال السياسي في الشرق جاء بالخطأ، أو أن الممارسة السياسية في تلك المنطقة تخللتها أخطاء تأريخية نعاني اليوم من تبعاتها و نتائج تخبطاتها المستمرة..
يذهب الكثير من المحللين و المفكرين إلى وجود نوع من الجدلية حول العلاقة بين السياسية و الثقافة من ناحية و من ناحية أخرى تكبيل السياسة بسلاسل السلطة و إبعادها عن عالم الثقافة، بمعنى آخر أن تحرر السياسة من السلطة يجعلها تنزل إلى القاعدة بين عامة الشعب و الذي يساعد بعد ذلك على إرتقاء السياسي إلى مقام الثقافي..
فحين تكون السلطة و الحكومة و الدولة و كافة مؤسساتها في متناول السياسي فقط من دون محاولة خلق حالة التوازن الحقيقية في الحكم و تحقيق كل مطاليب جميع فئات و شرائح المجتمع، و للأسف هذه الحالة شائعة في نوعية الحكومات الشرق أوسطية، لأن السياسي بالمفهوم الشرق أوسطي يعطي لنفسه كامل الحقوق حتى و إن لم يكن كامل الأوصاف، لسبب بسيط في نظره و هو أنه حاكم، و أنه يجمع كل السلطات في يده، السياسية منها و حتى السلطات غير السياسية..
إن العلاقة بين السلطة و الثقافة كانت على مدى التأريخ علاقة معقدة و متغيرة، فأحياناً كانت الثقافة سلطة، و أحياناً أخرى تكون السلطة ثقافة، فأن تكون الثقافة سلطة فتلك حالة لا خلاف عليها كثيراً لأنها في كل الأحوال ستكون نابعة من القاعدة نحو القمة، لكن أن تكون السلطة هي الثقافة فتلك هي المشكلة، لأنها ستكون مختلقة، من الأعلى نحو الأسفل..
فحين تتحول السلطة السياسية إلى ثقافة تمنح لنفسها كل الإمتيازات، و حين تجمع بين طياتها كل الأبعاد الثقافية الأخرى و تعطيعها تعريفاً معيناً لا يتغير مهما تغير الزمن، و يطلق عليها تسمية واحدة هي السلطة السياسية، حين ذاك يقع المثقف في دوامة أولاً مع نفسه لأنه فشل في أن يمتلك السلطة أو أن يحول السلطة من سياسية إلى ثقافية، و ثانياً مع العقلية السياسية التي ترفض التعريفات الأخرى لمفهوم السلطة و تحتكر كل مجالات السلطة و ترمي بالثقافة في الهامش.
حسب الكثير من التعريفات تعتبر الثقافة ترويض للنفس و الأخلاق، في حين أن هذا الهدف ينتفي في العالم السياسي، على إعتبار أن السياسة فن الخدع و هي من التسييس، و عملية التسييس غالباً ما تدخل فيها أفعال و ممارسات مثل المراوغة و المسايسة و المساومة و المخادعة و التظليل و ما إلى ذلك، بعكس الثقافة التي لا تقبل المزج بين لونين..
من هنا يمكن القول أن السلطة السياسية في الشرق تقوم غالباً على أساس معاداة أو تهميش المثقف، لأن الثقافة في المفهوم السياسي السلطوي الشرقي هي بمثابة التهديد أو المنازع، لأن الثقافة تفتح أبواب بدون حدود معينة، في حين أن السلطة السياسية تقوم على مبدأ سد الأبواب التي قد تأتي منها رياح لا تشتهيهاً، و لأن السياسة محتكرة في الشرق في مجموعة معينة، و الثقافة حق مشاع للكل، و لأن السياسة في الشرق تقوم على أساس تبادل المصالح بعكس الثقافة التي ترفض المصالح.
على هذا الأساس ليس بإمكان السلطة السياسية بأي حال من الأحوال الإجابة على الأسئلة الثقافية، في حين أن بإمكان الثقافة الإجابة على كل الأسئلة السياسية و فك رموزها. و الذي يجعل السياسي في خطر أو يشعر أنه في خطر عندما تكون الثقافة بدون حدود، و هذا ما يحدث الآن في ظل التكنلوجيا و إنفتاح الأبواب الثقافية الألكترونية، الأمر الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى إندلاع ثورة من نوع آخر، ثورة خفية و بدون ملامح بين السلطة السياسية و الثقافة.
في المجتمعات التي تمتزج فيها السلطة و السياسة في أحضان الثقافة، مثلما يحدث في الدول المتقدمة و الدول الأوروبية تحديداً، تكون تلك قمة الرفاه الإجتماعي، على عكس ما يحدث في الشرق، حيث أن السلطة السياسية تساعد على التطورات القشرية، و تبقي على اللب أو قلب المجتمع عاجزاً عن يضخ دماء التطور في شرايين الشعب، فيبقى عاجزاً عن أن يسأل السؤال الأول في سلسلة التدرج الثقافي نحو الأسئلة الأكبر التي تربط بين عالمي السلطة و الثقافة و إشكالية العلاقة بينهما، و محاولة فك رموزها و تعقدياتها.
ففي كل الأحوال الثقافة هي بمثابة القوة التي تخرج طاقات الإنسان و تثبتها من أجل التغيير و الإصلاح المطلوب، في حين أن السلطة السياسية في الشرق تعمل على تعطيل كل الطاقات البشرية التي تحاول التغيير و الثابت الوحيد في المعادلة تبقى هي المصالح السياسية خارج دائرة الثقافة.
لأن الثقافة في كل الأحوال أيضاً تقوم على إيمانها بكل الحريات بدون حدود و بدون تحديد شكل معين لتلك الحريات، في حين أن السلطة السياسية لا تؤمن إلا بالحريات التي هي ترسم ملامحها و تحدد حدودها، و هذا يتعارض مع المباديء الثقافية.. حتى السلطة التي تقوم على أنقاض الدكتاتوريات في الشرق غالباً ما تفشل في فك التعقيد القائم بين الثقافة و السلطة لأنها أساساً لم تتخلص بعد من عقدة المصالح..
لذلك فإن أول خطوة إلى تقويض دكتاتورية "السلطة السياسية" في الشرق و إبطال مفعول التعقيد الذي يلف علاقتها بالثقافة هي أن تتولى الثقافة السلطة، بمعنى أوضح أن تقوم السلطة السياسية على أسس ثقافية شاملة تلبي كل حاجات عموم الشعب بمختلف توجهاته الفكرية و الثقافية و مستوياته الطبقية، لأن السلطة الثقافية لا تقوم على التفريق بين طبقة و أخرى على غرار ما يحدث عند السياسي الذي ينظر يمنظار الحزب و يحكم بمقاييسه،
في تصوري أن المصالحة بين السلطة السياسية و الثقافة تتم حينما تنعدم كل المسافات بينهما و يتحقق التلاقي على أرض محايدة تكون أول مفرداتها الحكم للثقافة، و ذلك حلم بعيد المنال في الوقت الحاضر في الشرق، لأن السياسي غالباً ما يكون مستعداً لأن يتخلى عن البعض من مبادئه و أسلحته و أدواته السياسية من أجل مصلحة ما، في حين أن المثقف الحقيقي من غير الممكن أن يكون مستعداً بأي حال من الأحوال لأن يتخلى عن مبادئه و قيمه و أدواته و أسلحته السياسية من أجل غاية سياسية، و إذا حدث ذلك تكون النهاية، و تكون تلك أخطر مرحلة في عمر شعب عجز عن يحل الإشكال القائم بين السلطة السياسية و أبجديات الثقافة الحقيقية، هذه الحالة التي تأسس لثقافة عقيمة أخرى هي تحصيل حاصل عدم إمكانية التواصل و التفاهم بين عالمي الثقافة و السلطة السياسية تسمى بثقافة المحو الثقافي التي تأكل كل الأدواة الثقافية من أجل المحافظة على سيادة سلطة السياسة..
فينوس فائق
venusfaiq@yahoo.com