مثلث التطرف والأمن وحقوق الإنسان بعد 9/11
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تصاعدت في السنوات الأربع الاخيرة أصوات منظمات دولية اتهمت الغرب بانتهاك حقوق الإنسان في إطار ما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب". ما لبث أن تحول الغرب من مركز الهجوم على سجلات دول العالم الثالث الخاصة بحقوق الإنسان إلى مركز الدفاع عن سجلاته في هذا المجال. كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 نقطة التحول الرئيسية في موقف الغرب هذا حين بدأت حكوماته في إتباع سياسات أمنية مشددة لمراقبة والحد من نشاط المتطرفين المقيمين داخل حدوده الجغرافية، واتخاذ إجراءات حاسمة للوقاية من هجمات إرهابية محتملة ضد أهداف غربية. تراوحت هذه الإجراءات بين سن تشريعات لمكافحة الإرهاب وملاحقة متشددين ومروراً بإلقاء القبض ومحاكمة وترحيل بعض العناصر التي شكلت خطراً على المجتمعات الغربية. رأت منظمات حقوق الإنسان في بعض هذه الإجراءات تعسفاً وإهداراً لحقوق الإنسان وانتهاكاً للمواثيق الدولية الداعية إلى احترام هذه الحقوق. لم تقتصر الإتهامات على دولة بعينها، ولكنها شملت عدداً كبيراً من تلك الدول المضطلعة بأدوار في رئيسية في الحرب ضد الإرهاب، أذكر منها على وجه التحديد الولايات المتحدة وبريطانيا، ودول أخرى أعتبرت محايدة ولكنها تضم أعداداً كبيرة من العرب المسلمين، أختص منها على وجه التحديد السويد. كان من أهم الإتهامات التي واجهتها الدول الثلاث الإتهام الخاص بخرق إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، التي اجازتها الجمعية العامة للامم المتحدة بالقرار رقم 39/46 في عام 1984، والتي تنص المادة الثالثة منها على أنه "لا يجوز لأية دولة طرف أن تطرد أي شخص أو أن تعيده أو أن تسلمه الى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو الى الإعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب."
يتبنى الغرب منذ خمسينيات القرن العشرين سياسة الأبواب المفتوحة أمام اللاجئين والمعارضين والمنشقين والمتمردين السياسيين من جميع أنحاء العالم و بخاصة دول العالم الثالث. جاء معظم هولاء السياسيين - المدافعين عن حقوق وحريات شعوبهم - من دول أفريقية، لاتينية، أسيوية أو أوروبية شرقية حكمتها نظم شمولية. مع ظهور الجماعات المتطرفة في الدول العربية والإسلامية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، فتح الغرب أبوابه أمام قادة هذه الجماعات الذين أتهم معظمهم بارتكاب جرائم إرهابية، وحكم على بعضهم بعقوبات تفاوتت بين السجن والإعدام. لكن الغرب في دفاعه عن حريات وحقوق شعوب العالم الثالث في التحرر من طغيان الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة لم يفرق بين السياسيين المدافعين الحقيقيين عن حقوق شعوبهم والإرهابيين المدعين الإضطهاد للاستفادة من تسامح الغرب. كان هذا الخلط الخاطئ سبباً في لجوء عدداً كبيراً من الإرهابيين إلى الدول الاوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، حيث تم منحهم حق اللجوء السياسي بدعوى الإضطهاد الديني. كان من بين هؤلاء المتطرفين عدد كبير من قادة العرب الأفغان بدخول أراضيه والتمتع بحقوق الإقامة والمواطنة. تمتع الإرهابيون في الغرب بمميزات هائلة مكنتهم من ممارسة أنشطتهم بحرية لم تكن لتتوافر لهم بالطبع في بلدانهم الأصلية، فمارسوا أنشطتهم المتطرفة بحرية مطلقة، واستفادوا إقتصادياً من أنظمة المعونات والتسهيلات المالية التي قدمتها لهم الحكومات الغربية، كما لم يتورع المتطرفون عن بث سمومهم في عقول بعض الشباب المسلم في الغرب ذاته.
لم يحرك الغرب ساكناً بعد مئات الهجمات التي استهدفت مدنيين جزائريين وأقباط مصريين، ولم يشفع للغرب ألألاف من الأبرياء الذين لقوا حتفهم بأيدي اتباع هؤلاء القادة المتطرفين. كان إقتناع الغرب أناعمال الإرهاب التي ارتكبتها في الدول العربية لم تكن إلا ردود أفعال لظلم واستبداد الحكومات هناك. لم تفطن الحكومات الغربية إلى عمليات الخداع التي تعرضت لها من قبل هؤلاء المتطرفين الذين أجادوا استخدام حماية القوانين الغربية لهم، في المقابل استمرأ المتطرفون إستخدام التشريعات المساندة لحقوق الإنسان بطريقة خاطئة وسيئة. لكن لحظة كشف حقيقة هؤلاء المتطرفين كانت حتماً قادمة لا محالة. المتطرفون الذين هجروا بلدانهم الأصلية طواعية أو إضطراراً قابلوا ترحيب الحكومات الغربية بهم بنكران الجميل وعدم الإحترام، وانكروا حقوق الواجبة عليهم تجاه تلك المجتمعات التي أوتهم ووفرت لهم الملاذ الآمن والحرية اللامحدودة، إذ كفر هؤلاء المتطرفون تلك المجتمعات وأباحوا عمليات الجهاد ضد الحكومات الغربية. كانت أحداث 9/11 المنعطف الذي غير تماماً من نظرة الغرب للإرهاب والإرهابيين، وكانت هجمات لندن ومدريد وبالي وغيرها الحافز الذي دفع الغرب لتبني سياسات أمنية متشددة تجاه الإسلاميين المتطرفين ومريديهم. بعدما كانت واشنطن ولندن وباريس تتهم القاهرة والجزائر وغيرها من العواصم العربية بقمع الحركات الإسلامية، أصبح عليها مواجهة هذه الحركات فوق أراضيها من خلال سياسات أقل تسامحاً. كانت الحرب على الإرهاب هي وسيلة الغرب لمواجهة التطرف والمتطرفين. تتبنى الحرب على الإرهاب سياستين إحداهما خارجية تمثلت في استخدام القوة المسلحة للقضاء على قواعد وقوات الإرهابيين في دول المنبع، والاخرى داخلية تمثلت في استخدام قوة القانون في نطاق حدودها للسيطرة على جذور الإرهاب في نطاق الحدود الجغرافية والديموغرافية.
مارست الحكومات الغربية وخاصة الإدارة الامريكية بقيادة الرئيس جورج دبليو بوش ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية رهيبة على حكومات العالم للمساندة في الحرب ضد الإرهاب، حيث أصبح على حكومات العالم إما المشاركة في هذه الحرب أو قبول تصنيف الولايات المتحدة لها كعدو. تمثل استخدام القوات المسلحة في الحرب على الإرهاب في الغزو المسلح لأفغانسان للإطاحة بنظام طالبان الداعم لتنظيم القاعدة والمدعوم منه. نجح الغرب في إستصدار قرارات من الأمم المتحدة بشن الحرب على أفغانستان لإلقاء القبض على أسامة بن لادن وقادة تنظيم القاعدة الذين خططوا لهجمات 9/11. كما كثفت أجهزة المخابرات الغربية من أنشطتها لتفكيك المنظمات الإرهابية في مختلف دول العالم. لجأت الولايات المتحدة إلى إعتقال المئات من المتطرفين في سجن Guantanamo Bay بكوبا دون محاكمة أو توجيه أيه إتهامات، كما استخدمت وسائل اعتبرت مخالفة لمواثيق حقوق الإنسان العالمية في استجواب المحتجزين للحصول على معلومات كافية عن شبكات الإرهاب حول العالم. واستخدم الغرب كذلك الضغوط الإقتصادية على الجماعات الإرهابية، حيث تم تجميد الأرصدة البنكية للعديد من المنظمات والأفراد المشتبه بعلاقتهم بالجماعات المتطرفة.
غير أن التحول الأكبر في سياسات الغرب تجاه التطرف والمتطرفين جاء عندما أعطى الغرب الإجراءات الأمنية إهتماماً فاق كل التوقعات. من ثم بدأت عمليات مراجعة الظروف القانونية لوجود عدد من زعماء التطرف بأوروبا وكندا واستراليا والولايات المتحدة الأمريكية. كان جلياً أن الغرب يريد التخلص من هؤلاء المشتبه بدعمهم للإرهاب خوفاً من تزايد نشاطهم ونفوذهم بالغرب. إصطدمت محاولات الغرب إعادة هؤلاء المتطرفين بقوانين حقوق الإنسان ومن أهمها إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وغيرها من الإتفاقات الأوروبية التي تضع قيوداً مشددة على ترحيل وطرد المشتبه بهم إلى دول لا تحترم قوانين ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية بشأن التعذيب. إحترمت معظم الدول الغربية القوانين الدولية بهذا الشأن ولم تشأ أن تضحي بسمعاتها كدول مدافعة عن حقوق الإنسان. كانت هناك حالات استثنائية لترحيل مشتبه بهم إلى دولهم الأصلية كما أعادت السويد عام 2001 إلى مصر متهمين بالضلوع بعمليات إرهابية هما أحمد عجيزة ومحمد سري، وهو الأمر الذي تعرضت بسببه الحكومة السويدية لانتقادات حادة من منظمات حقوق الإنسان الدولية بسبب عدم امتلاك مصر لسجلات نظيفة من التعذيب. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك عمليات وكالة المخابرات الأمريكية أطلق عليها لقب "Gulfstream"، نسبة إلى الطائرة التي قامت بالعمليات، تم بمقتضاها ترحيل العديد من المشتبه بانتمائهم إلى منظمات إرهابية من باكستان وأفغانستان وأندونسيا إلى دول معروفة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان ومنها مصر وسوريا وأوزبكستان، وهو ما اعتبر على نطاق واسع بأنه انتهاك غير مبرر للمواثيق الدولية بشأن ترحيل المشتبه بهم دون الحصول على تعهدات من الدول المرسل إليها المتهمين باحترام حقوق الإنسان. بعد الإعتداءات على اجهزة النقل العام ومترو الأنفاق بلندن، سعت الحكومة البريطانية في إطار تشددها حيال المتطرفين للحصول على تعهدات من دول عربية وإسلامية باحترام حقوق الإنسان مقابل تسليمها بعض ممن ترغب لندن في التخلص منهم. كما أعلنت دول فرنسا وألمانيا وهولندا إيضاً عن نيتها ترحيل كل من يقيم بأراضيها يثبت انتمائه لتنظيمات إرهابية متطرفة بعد الحصول على وعود بحسن معاملتهم بالدول المستقبلة لهم.
كان شهر العسل بين الغرب والمتطرفين باهظ الثمن راح ضحيته المئات من الأبرياء والمدنيين الأجانب في عمليات إرهابية شهدتها إنجلترا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة وأسبانيا وأندونسيا وكينيا وتنزانيا، بالإضافة إلى مئات من الضحايا الأبرياء في مصر والجزائر والسعودية والأردن وغيرها. لقد فطن الغرب مؤخراً إلى أن الإرهاب الأعمى ترعرع في أراضيها بفضل الحرية التي تمتع بها المتطرفون المقيمون بدول غربية، حتى أن العديد من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين قد انضم إلى صفوف المتطرفين. لقد أدرك الغرب خطأ المعادلة بين حقوق إنسان المتطرفين وحقوق الغربيين والمهاجرين المسالمين في العيش في أمان، من هنا جاءت غضبته التي عبر عنها بسن تشريعات مشددة لمقاومة الإرهاب والتطرف تجيز حرمان المتطرفين من حقوق الإقامة والمواطنة بدوله وتسمح بترحيل المتطرفين إلى حيث جاءوا. هذا وتمارس الدول الغربية ضغوطاً سياسيةً وإقتصاديةً على الدول العربية والإسلامية لتحسين سجلاتها في مجال حقوق الإنسان بغرض التخلص من زعماء التطرف بإعادتهم إلى بلادهم دون الحاجة إلى إدارة ظهرها لقضايا حقوق الإنسان. ألغرب لا يزال يسعي للحفاظ على سجلاته في مجال حقوق الإنسان، ولكن دون تقديم تنازلات للإرهابيين قد تأتي على حساب مواطنيه. القضية شائكة لأن الغرب لن يستطيع التخلص من كل هؤلاء المتطرفين بعدما استوطنوا في الغرب لسنوات طويلة. معارك قانونية طويلة الأمد ستدور بين المتطرفيين والحكومات الغربية حول شرعية قرارات الترحيل، ولعل حالة المصري محمد جاب الله الذي يقاوم الترحيل من كندا منذ نحو عشر سنوات هي خير نموذج لمثل هذه المعارك. ربما لن يسلم بعض الأبرياء من قرارات من غضبة الغرب أيضاً. لقد تغير العالم بصورة جذرية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ إحتل الأمن القومي والإقليمي والدولي في إطار الحرب على الإرهاب موقع الصدارة في جدول اهتمامات الغرب، في حين حلت حقوق الإنسان في مرتبة تالية.
جوزيف بشارة