عن الديمقراطية ومسألة الوحدة العربية 1
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قد يبدو هذا العنوان عبثيا أو ماكرا بالنسبة لعدد كبير من مناصري الشعور القومي العربي النبيل والحالمين بمشروع الوحدة العربية التي لم تتحقق بعد؛ ذلك لأنه تم عمدا وعمليا ترويج الديمقراطية منذ تأسيس جامعة الدول العربية حتى اليوم من طرف أغلب الأنظمة العربية باعتبارها ممارسة سياسية غربية وأجنبية معادية لفكرة العروبة وقيم الهوية العربية وشرط الوجود العربي المستقل. وقد أسهم التكوين السياسي العربي في المشرق والمغرب في ترسيخ ثقافة العداء للديمقراطية في البلاد العربية بشكل واسع ومرتب ومتواصلmdash;فتجد كتاب وأدباء وسياسيين وخبراء وفنانين وطلابا وأساتذة وعمالا ورجال دين... ينشدون عبر مختلف مراحل التاريخ العربي المشترك وحدة عربية غير ديمقراطية ويدافعون عنها، باسم القومية أو باسم الدين أو باسم المقاومة والاستقلال أو باسم الثورة، في كتاباتهم وخطبهم ومظاهراتهم وبياناتهم وعبر مختلف أشكال التعبير المتاحة لهم في دولهم بحماس جماعي عارم. وقد تولد هذا السلوك العربي الرافض للديمقراطية عن عاملين رئيسيين اثنين: أولا، عداء الشعوب العربية للدول الغربية، صانعة الديمقراطية، أثناء الاحتلال وبعيد الاستقلال بفعل استمرار الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والامبريالية على مجموع البلاد العربية؛ وثانيا حرص أغلب الحكام العرب على معاداة الديمقراطية بهدف بناء أهرام سلطوية قارة، تتمتع بالقوة والهيبة ضمن الجغرافيات الإقليمية للعالم العربي.
وقد كرست هذه الاختيارات السلطوية سياسات محلية وإقليمية أحادية الأبعاد في الأغلب الأعم، وهو ما اضطرها إلى التطور إلى أنظمة متناقضة المصالح فيما بينها، شديدة الحساسية بعضها إزاء البعض الآخر وغير قادرة على التواصل المثمر فيما بينها أو مع شعوبها--وهي الخاصيات التي قوضت العمل العربي المشترك، وعطلت آليات الجامعة العربية لمواسم تلو مواسم، فكانت قرارات الجامعة دائما خطبا وبيانات وحبرا على ورق. لقد كان طبيعيا بالنسبة للأنظمة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين أن تميل نحو حماية كياناتها على حساب البناء العربي المشترك في زمن اضطرم فيه سعير الثورة والانقلابات واحتدم فيه الصراع بين مناصري الغرب ومناصري الشرق. وفعلا، لم يسلم العالم العربي من سلسلة من الانقلابات والاضطرابات في مصر والعراق والجزائر وليبيا وتونس واليمن وموريتانيا، ومحاولات انقلابية أخرى محبطة في أغلب البلدان العربية. وهو ما يعني أن العقل العربي السلطوي كان لأكثر من نصف قرن عقلا انقلابيا وعسكريا واستبداديا بدل أن يكون ديمقراطيا ومتمدنا وعقلانيا. وفي كل مرة كانت تدبر فيها الانقلابات، كانت الشعوب العربية تجد نفسها مبعدة عن القرارات السياسية وممنوعة من التعبير السياسي أومن الانتظام في هيئات مدنية متطورة وتعددية بإمكانها ممارسة الاحتجاج وطرح الأفكار البديلة والدفاع عن حقوقها والمناداة بالديمقراطية. كان الطريق الوحيد بالنسبة للمثقفين العرب للوصول إلى أهدافهم السياسية وتصريف أفكارهم الحرة وممارسة حقوقهم، الهجرة إلى الغرب واختيار المنفى. وكان أغلبهم في أحسن الأحوال يختار الصمت ولغة المجاز ويركن إلى الثقافة السائدة، وإن لم يؤمن بها، فلا يفكر في تعدد الأحزاب وفي البرلمانات القوية وفي حقوق الإنسان وفي التناوب السياسي وفي الصحافة الحرة وفي الانتخابات الشفافة وفي القضاء المستقل أو في أي أسلوب ديمقراطي آخر، وكان أتعسهم وأقدرهم على المواجهة لا يختار الصمت ولا يختار المنفى، بل يختار الأوقات العصيبة والتعذيب والسجن والموت أحيانا. وكانت الجامعة العربية، المنتظم القومي والعربي الوحيد، بعيدة كل البعد عن قضايا الديمقراطية والانفتاح والتنوير وحقوق الإنسان في الوطن العربي. لم يسبق لهذه المؤسسة الرسمية على مدى ستين عاما أن طرحت مسالة الديمقراطية باعتبارها خيارا استراتيجيا في الوطن العربي، ولم يسبق لها أن خصصت مؤتمرات لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد العربية ومناصرة المثقفين العرب والمطالبة بتوسيع هوامش حريتهم. تأسست الجامعة العربية في ظل الغياب التام للديمقراطية في الوطن العربي، وظلت كذلك تقاوم التوجهات العالمية للإصلاح والتحديث والانفتاح لمدة عقود متتالية انطلاقا من زيف مسوغات الخصوصيات القومية والثقافية للشعوب العربية. كانت القضايا الكبرى والإقليمية فيما بين الدول الشقيقة وبين الدول العربية والأخرى غير العربية هي الأهم بالنسبة لجامعة الدول العربية، وتستأثر باهتمامات القادة العرب وجلساتهم العلنية والمغلقة. قد تكون مثل هذه الأولويات طبيعية وطارئة بفعل الحروب التي عصفت بالعالم العربي على مدى سنين طويلة، فأنهكت كيانه وأفقدته القدرة على التقدم والتطور. غير أن الحروب والنزاعات والاضطرابات، في العراق أو في لبنان أو في مصر أو في سوريا أو في الكويت أو في فلسطين أو في الجزائر...، لم تكن العوامل الوحيدة التي أثرت سلبا على النظام العربي المشترك.
في مقالته "نظام عالم متغير: البعد العربي" (1980)، يقدم إدوارد سعيد توصيفا سياسيا مركبا ومقتضبا للبعد العربي في إطار النظام العالمي لمرحلة تحول القرن. وأغلب ملاحظات إدوراد سعيد في هذه المقالة القديمة نسبيا مازالت شديدة الانسجام مع الحالة العربية الراهنة التي تدعو إلى القلق والحسرة أكثر مما تبعث على الاطمئنان والارتياح. تبقى الدول العربية في ضوء رؤية إدوارد سعيد، غير قادرة على اختراق النظام العالمي الجديد بكيفية فعالة ومؤثرة ومنتجة وعاجزة عن استيعاب التحولات العالمية الكبرى التي تتبلور يوما بعد آخر نتيجة تجدد المعارف وتطور نظم المعلومات. يرى إدوارد سعيد أنه لم يتم توظيف الرأسمال العربي بكيفية استراتيجيه ومركزة وفق سياسات عقلانية لمسايرة المتغيرات العالمية والتأثير فيها، بل تم تشتيت الثروات وتصريف أغلبها في شكل ودائع مربحة على المدى القصير في المصارف العالمية بما لا يخدم المصالح الإستراتيجية الكبرى للبلاد العربية في العمق. كما يلاحظ إدوارد سعيد أن هيمنة إيديولوجية أمن الدولة في البلدان العربية قد شكلت عائقا أمام تطور البنيات السياسية والمدنية لهذه الدول، فأدت، تبعا لذلك، إلى تراجع الخيارات السياسية وتقلص الحريات وضياع الحقوق الديمقراطية، مما خلق حالة من الاغتراب بالنسبة للشعوب كما بالنسبة للدول والحكومات.
من التاريخ نتعلم: إن أقدر الأنظمة السياسية على البقاء والتطور هي الأنظمة الديمقراطية وأكثرها عرضة للتفكك والتحلل هي الأنظمة الشمولية. ونجد في تاريخ أوربا الحديث والمعاصر أمثلة عديدة ونماذج كثيرة لأنظمة عاتية أبادها التاريخ كما حدث في إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وأخرى في أوربا الشرقية، كما نجد في المقابل ديمقراطيات تمكنت من تجاوز بطش الفاشستية والنازية والحروب المدمرة، وتمكنت في ظرف وجيز من التحول إلى مراكز ثقل ضمن أروع انتظام ليبرالي وديمقراطي في تاريخنا المعاصر، ونقصد بالطبع منتظم الاتحاد الأوربي. وإن كانت الأمثلة كثيرة، فتبقى في ذهني لحظة استسلام الجنرال "فرانسيسكو فرانكو" تدريجيا أواخر حياته لرياح التغيير الديمقراطية في إسبانيا أهم لحظة تاريخية لنا جميعا، خاصة في عالمنا العربي المتعثر، لاستيعاب درس الديمقراطية وقدرتها على النمو والتطور من بين أنقاض الديكتاتورية والاستبداد والقمع، وبالتالي عجز الديكتاتورية عن التطور والاستمرار مهما تقوت وتجبرت وتسلطت. سنة 1973 تنحى الجنرال فرانكو عن منصب رئيس الوزراء، واحتفظ فقط بمنصب رئيس الدولة، فكان ذلك إيذانا بقرب نهاية الديكتاتورية في إسبانيا. وقد أزيل آخر تمثال لفرانكو من وسط مدريد في السابع عشر من مارس 2005 بعد أن تم استبدال أسماء الشوارع التي كانت تحمل اسم الجنرال، وهو ما يعني فقدان الذاكرة الديكتاتورية في إسبانيا لجميع شواهدها، وتحولها بالتالي إلى ماض لا يمتد إلى حاضر التعددية واللبرالية والانفتاح. صحيح أن فرانكو حكم إسبانيا حتى آخر لحظة في حياته، إلا أن نرجسية الدكتاتور لم تمكنه من تحقيق أي امتداد شخصي في عمق مستقبل إسبانيا الديمقراطي. كانت أحلام فرانكو بدون مستقبل، فتلاشت تلك الأحلام نهائيا على فراش الاحتضار.
للمقال تتمة.
الدكتور جمال الدين بنحيون
drbenhayoun@hotmail.com