انشودة الموت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما يكون المجتمع محكوما بالمصالح الضيقة وتتقاذفه الفئوية وتمزقه الأهواء المتناقضة وتختلط المعايير بكل أشكالها وتتداخل فيه القناعات المسبقة وتعتمد الغوغائية والعاطفة المنفلتة ويستبعد العقل في الفعل،تصبح فيه معالم أي فكرة أو موقف أو أي طرح نظري، ومهما كانت مصداقيته مسندة أو ضعيفة فأن المحدد الأساسي في قبوله أو رفضه لن يكون بأي حال من الأحوال التتبع المنطقي والتمحيص العقلاني.
وتلك إشكالية عويصة لن نخرج منها بيسر،فالأمر يعتمد على جملة من المرتكزات والمتغيرات أبرزها النظام الفكري الذي نتبناه وماهية أسسه المعتمدة ووسائله وأدواته.
فالنظام الفكري الذي يرتكز على ارث يتحدد بمعايير مسبقة، ووسائله الإلغاء والإزاحة و أدواته الإرهاب والقتل لن يكون بأي حال من الأحوال قادرا على تقديم بدائل عملية وناجعة وحاسمة،وسيبقى الاحتقان يتراكم حتى يولد الانفجار فيخلف الشظى المتناثر المتناقض.
ومادامت التبعية المطلقة مستفحلة في مجتمعاتنا والعقائد والأحكام المسبقة تعمق وتديم الأوضاع البائسة والانحدارات المادية والوجودية مستمرة، فتنهار ولا تستحضر وسائل التغيير والتحول حيث مجتمعاتنا تتجه للخروج من السياق التاريخي الإنساني، فلا قيمة لوجودها البشري المجرد، وسيبقى الآخرون يقررون لنا،أمام تمسكنا بحجج وتفسيرات وأسانيد أغلبها مختلقة لاوجود لها والمصيبة من يدعيها ابعد ما يكون عنها بكل المقاييس.
وإذا كان الإسلام السياسي يطرح منهجه على انه المنهج الأكثر قابلية لحل الإشكاليات التي تعاني منها الأمة،فانه قد كشف عن فشله الساحق في العراق،فخلال السنوات الثلاثة الماضية ظهر فيها على انه القوة الأبرز والأكثر نفوذا، وتمكن من السيطرة على السلطة بشقيها الحكومي والمعارض وبذلك تسيد المشهد السياسي العراقي بكل تفاصيله،فماذا انتج وقدم للعراق؟
مبدئيا سقط القناع الديني والمبدئية المتشدق بها عبر تعامله مع (المحتلين) الأمريكيين، وحتى المجموعات المسلحة التي تدعى (المقاومة )العراقية قبلت بحدود مختلفة من التعامل معهم سواء أكانت علنية أم سرية.ومادامت قد آثرت المصالح وهذا من (حقها ) فعليها أن لا تتطرف بالدعوات الدينية وبنصرة الإسلام وإعلاء شأن الدين وما شابه من هذه الدعوات الغاية منها كسب الجماهير المؤمنة التي تتمسك بالمقدس وتعتز به.
فالإسلام السياسي يستثمر المقدس للوصول أو تعزيز وترسيخ وجوده في السلطة، ويهمه الدين ويدعو إليه بالقدر الذي يحقق أهدافه، لذلك نرى قواه لا تتوانى عن طرح الدعوات الطائفية لتعزيز موقعها ولا يهمها انشقت وحدة المسلمين أم انهارت- مع انه واجب وفرض على كل مسلم ((ومؤمن)) ! أن يديم ويعزز وحدة الأمة حسب الدعوات الدينية-،المهم أن هذه القضية مؤكد عليها بالقدر الذي يخدم مصالحها.
هذه اللامبدئية الميكافلية التي تبرز في السلوك السياسي للإسلام العراقي وتتصاعد في حلبة المصالح،تختفي بشكل ملحوظ خلال الخطابات الإنشائية التي تصور الدعوات الدينية على أنها دعوات تقويمية إصلاحية إيمانية تعزز (ثقة) الإنسان بربه، وعندما يكون الفعل تتناقض بشكل صارخ، فيعم التنازع ويستشري الصراع والتناقض وتتفاعل التحالفات لتنجز هدفا ما أن يتحقق تبدأ معه حملات الاستئثار والتفرد.
قد يكون ذلك طبيعيا في الحياة السياسية العامة إلا انه غير طبيعي ومتناقض بشكل صارخ مع المفاهيم الدينية وبالذات (الإسلامية) التي تدعو إلى سمو المبادئ والعدالة والتسامح والرحمة وما إلى أخره من مبادئ الإسلام وفروض الله العلي سبحانه وتعالى، والأعظم تناقضا عندما يمارس من رجال الدين وحلفائهم واتباعهم.
فيما مضى ارتكبت الحركة السياسية العراقية وجماهيرها أخطاء قاتلة عندما تبنت الاتجاه الاشتراكي ممثلا بالشيوعية والاتجاه القومي ممثلا بالبعث، فالاتجاهين أوغلا بتدمير المستقبل العراقي عبر صراع عبثي لا معنى له مما أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه، وإذا كانت مسؤولية الحركة الشيوعية متواضعة لخروجها من البلاد بعد أن تعرضت للتصفية والاعتقال، فان الحركة القومية وتيارها السياسي ممثلا بالبعث أبرز حركاته وعبر نظامه السياسي الاستبدادي قد اهلك الحرث والنسل ودمر كل معاني الحياة ومستقبلها في هذا البلد، وتلك عبرة يجب أن تعتبر بها وتستحضرها الحركة السياسية العراقية والمجتمع العراقي عندما تنجرف اليوم مع الحركة الإسلامية بشقيها الطائفيين، وإذا كان العراق ومستقبله فد دمر فان الإسلام السياسي سيجهز على وجوده ووحدته تدعمه القوى الانفصالية التي تبحث عن وجود لاشرعي.
أن العراقيين يجب أن يعوا الحقائق كما هي،فمستقبل الشعوب يتحقق عندما يجد الإنسان ذاته في وطنه عبر حاضر مأمون وحياة مستقرة وأملا في رفاهية حقيقة لا في معاناة مستمرة بوسائل الدمار والقتل والفوضى وصراع مأساوي وأبرياء تتمزق أجسادهم من اجل( الحرية) والشعارات الجوفاء التي لن يراها المستضعفين،أن من يسعى لتحقيق طموح سياسي أو شهرة في وطن المآسي عليه أن يغادر بل يهرب لان هذا وطن الموت والشقاء والألم بفضل رواد القهر وعشاق القتل وآفاقي السياسية وخطباءها وتجار الصفقات ومقاولي الاحتلال.
لن يتحرر الشعب على مذبح الحرية فكل المسميات قد فقدت معانيها وأصبحت الحياة مرحلة مأساة نَجُد إلى نهايتها حيث تفاصيلها المجة المقرفة المملة.
في وطن النخيل الشامخ تندرس الرؤوس في التراب،
وفي بلد الكتابة الأولى تسطر كلمات الموت في كل زقاق،
في بلاد القوافي تكتب فضائع المآسي وتنتحب الأرامل والمفجعات.
لن نكتب عن الحياة بعد اليوم، فالموت سيحدثكم عن بلاد ما بين النهرين،أن يوما ما في التاريخ كانت هناك أمة تعيش على آمال الحياة لكن القتلة واللصوص والمجرمين عبثوا بهذه الأمة ومزقوها وشتتوها.
هذه الأمة التي عرفت الحياة بآدم وتعرفت على أول موت بين هابيل وأخوه قابيل،
هي أول أمة عرفت الحياة في ملحمة خلود كالكامش،
أمة علمت كل الأمم عبرة مؤلمة للحياة، أن الأموات يبحثون عن حياة الخلود في العالم الأبدي!!!
هذا هو الواقع العراقي،فأما أن تنهض القوى الشريفة في الحركة السياسية العراقية تدعمها قوى المجتمع الحقيقية التي لا تقدس إلا الوطن ومستقبله وأبناءه،وإما النهاية التي تعني الخراب والدمار والضياع.
أن القوى الشريفة مطالبة بالنهوض نحو تحقيق الحرية الحقيقية البعيدة عن الادعاءات والصفقات والمناورات، وليستحضر الجميع أن هناك وطن لابد أن يعيش.
جمال البزاز