أصداء

شارع عمر بن عبد العزيز

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يا حلوها العذب الرقراق؛ ويا نسمات الصبا الندية؛ كأنها الشفق الملون الحالم يغطي ايامي الفتية؛ ويارفقة الاماسي وهي تمرح في صفاء الافئدة ونقاء الود والنظرات اللماحة الحيية.
في هذا الشارع المخضل؛ وفي ركن منه مزدهر بالدفلى والجوري والجهنمي المتسلق على الجدران؛ كانت لي ايام؛ من الشباب المتفتح على نث القطرات الحنونة الفتية؛ حيث لا روابط تخدش الحياء؛ولا مطامح غير مشروعة؛ ولا اهتمامات خارج نطاق القراءة والكتابة والاطلاع على ما يدور في العالم من تطور في القانون و الفنون والآداب والشعر. كان البيت الواسع يطل مباشرة على شارع عمر بن عبد العزيز من منطقة الصليخ الواسعة المتددة من كلية بغداد شمالا حتى النادي الاولمبي جنوبا؛ وكان النظر من الشرفة على الفضآءت البعيدة صباحا يبعث الامل ويقوي من العزيمة قبل التوجه الى كلية الحقوق (بباص الامانة) الاحمر االمنطلق الى باب المعظم. كانت الحياة في هذا الشارع في غاية الهدوء والدعة؛ وكانت علاقات الجيرة ذات تقديس للاسر المتحابة التي تعيش فيه بلا تمايز او تنافر؛ في هذا الحي دائم الخضرة يسكن الشاعر العملاق الجواهري؛ ووزير العدل على محمود الشيخ على؛ ومدير البنك اللبناني كاشف الغطاء؛ و العلامة الشواف؛ والقاضي عبد العزيز المطير؛ و ووزير الداخلية عمر نظمي؛ و ووزير المعارف عبد الحميد كاظم؛ وعميد الحقوق عبد الرحمن البزاز ووزير الخارجية ناجي الاصيل وفي نهايته بيت رئيس الوزراء السابق حكمت سليمان يقابله بيت رئيس الوزاراء الاسبق رشيد عالي الكيلاني؛ وهناك بيوت كوكبة واسعة تعود لكبار موظفي الدولة والاساتذة والصحفيين والفنانين والادباء والاطباءوالصيادلة والصناعيين والتجار وارباب المهن. اذكر منهم احمد حامد الصراف وعبد الرزاق محي الدين وعطا صبري وجابر عمر وعبد الرحمن البسام وابراهيم الواعظ وجابرالشكري ومحمد الطويل والشاعرة فطينة النائب.. الخ ولو اردت ان تتعرف عليهم من خلال منظار الطوائف والمذاهب والاعراق السائدة اليوم؛ لوجدت كوكبة من العرب والكرد والتركمان؛ ولالتقيت بشيعة وسنة ومسيحيين ويزيدين؛ يعيشون في امان وأطمئنان ومحبة وتلاحم.

اذكر ان للنساء ايام زيارات متبادلة في هذا الحي يسمى ( القبول ) يتجمعن فيه لتبادل الاحاديث وتقوية العلاقة؛ يقابلها لقاءات رجالية في بيت هذا او ذاك على مدار الاسبوع؛ والذي اكتشفته بذات المنظار الآن ان الذين تجمعهم تلك الندوات كانوا على النقيض في المعتقدات الدينية و السياسية بالذات؛حيث كانوا من مشارب حزبية متنوعة كالوطني الديمقراطي؛ والاستقلال؛ والجبهة الشعبية؛ والامة، والدستوري؛ والاصلاح؛ بل وحتى من الشخصيات اليسارية التي كانت تسمى متطرفة ( كعبد الفتاح ابراهيم؛ وذوالنون ايوب؛ وحسين الرحال... الخ اما الاختلافات الدينية فقد كانت ترتبط بأكثر من عقيدة ومذهب وطائفة؛ لا المسلمة منها وحسب بل و حتى المسيحية وغيرها؛ لكن التدقيق والتحقيق والتحدث بهذا الامر كان من المثالب بل وخارج نطاق الذوق؛ لذلك فان تفريقنا هذا هو من صناعة هذه الايام.

في هذا الجو من التلاحم كنا نحن شباب الود والالفة نتجمع عصرا في ساحة النادي الاولمبي ( عنتر فيما بعد ) حيث ننطلق مشيا على الاقدام نحو بساتين البرنقال والليمون والتفاح والمشمش شمالا قرب كلية بغداد فنجلس على كتف نهر دجلة نتأمل سحره وندندن باحلى اغاني تلك الايام او نعودالى النادي الاولمبي مجددا لندخله كاعضاء او كزوار حيث يستقبلنا الحارس الامين والمصارع الشهير سابقا مجيد لولو فيرافقنا حيث نجلس في الحدائق الغناء ونشرب ذلك المرطب الاخضر المسمى ( الكيورا )؛ على انغام الموسيقى المنطلقة من اسطوانات ( كرامفون ) البار داخل الصالة الكبرى؛ او نلتحق بمشاهدي السينما الصيفي بعد ان يكون بعضهم قد انتهى من لعبة التنس وغادر ساحاتها المتعددة الى حيث يتطلع الى فيلم جديد كجيلدا او ثلوج كلمينجارو اوحافة الموس... الخ وهذا النادي العريق لا يبعد كثيرا عن ثانوية الاعظمية للبنين حيث قضينا بعض سنين الدراسة فيها؛ كما لا يبعد سوى امتار قليلة عن نهر دجلة غربا؛ حيث تزدحم سواحله في مثل هذا الشهر من كل عام بالنجارين وهم يعملون ب ( الجراديغ )؛ تلك البيوت المسقفة بما يسمى ( البواري ) وهي مصنوعة من سعف النخيل؛ لكي تكون جاهزة للاقامة اثناء الصيف لروادها الطامعين بجو رطب وهدوء مريح وسباحة منعشة.
لقد اشتهرت منطقة الصليخ ببساتينها وحدائقها وساحاتها الخضراء الواسعة وسهولة مواصلاتها وحداثة طرقها وامانة مسالكها ليلا ونهارا؛ لذلك كانت من مواقع بغداد المشهودلها بالمكانة الراقية والاناقة البهية والالفة المحببة بين سكانها.

هكذا كانت الصورة (... في مثل هذا الشهر الربيعي الزاهر... ) في ذهني وذهن الكثيرين الذين عايشوا تلك الايام في هذا الشارع بالذات؛ حتى صفعتنا الصدمة المرعبة فجأة؛ حينما عرضت علينا الفضائيات افلاما عن معارك حربية قاسية خالية من الرحمة وهي تجتاح هذا الشارع الوديع العامر؛ لقد شاهدنا قناصة يحتلون سطوح وشرفات النادي الاولمبي؛ ودبابات ومدرعات تنطلق باقصى سرعتها تسحق الشجيرات المخضلة في الجزرات الوسطية وما يسير بقربها من مشاة ؛ ثم نشاهد القتال وهو يمتد نحو المنازل السكنية والاسواق والمقاهي والمدارس؛ حيث الاطفال يهرعون بحماية امهاتهم الى اقرب دكان يلجأون اليه؛ و حيث الجثث الممزقة مرماة على الارصفة؛ ونثار الدماء المسفوحة يغطي براعم اشجار البرتقال والليمون والتفاح ويحول اورادها الزاهية البيضاء والبنفسجية التي تستقبل الربيع الى وريقات دموية محتقنة... كل قطرة حمراء فيها تصرخ مستغيثة لاعنة اولئك الغزاة الذين يستبيحون ارواح الابرياء؛اولئك الغزاة الذين حولوا نعمة الحياة الى جحيم مشتعل بنار الجنون السادي الذي يتلذذ بمرأى العراقيين وهم يتطايرون اشلاء.. واشلاء.

اذن هكذا حل الخراب والدماربذلك الشارع الرومانسي الحالم؛ شارع التآخي الذي جمع يالود آل كاشف الغطاء بآل الشواف؛ وربط بالآصرة آل بابان بآل فرهاد؛ وقرب الاباء اليسوعيين الى أئمة الجوامع والمساجد.... و في خضم هذه الفوضى نتحسس الضمائر الانسانية الحية وهي تتسآءل باستغراب... من القاتل ومن المقتول ؟ من السفاح ومن المذبوح... ؟وبرك الدماء تغطي العراق.... حيث في كل مدينة شارع قد يحمل اسما غير شارعنا هذا ولكنه ينوء حتما تحت ذات الاثار المدمرة الحمقاء..... آثار العصف والقصف والسحق والقتل والدمار. انها شوارع متشابهة؛ في النجف وكربلاء والفلوجة والرمادي وتلعفر والعمارة والبصرة وبعقوبة والموصل وسامراء والحلة والكوت...... وهلم جرا.

وها نحن ابناء العراق؛ نقف متضرعين والدموع السود تنهمر كأنهاالقار المتدفق من ينبوع الحزن سآئلين الاقدار؛ هل للايام الزواهي من الالفة والمحبة ان تعود؛ ويشق طريقه مجددا نهر الوئام؛ ليغذي سواقي الخير والامان؛ ويعيد الصفاء بين الذين عاشوا آلاف السنين نسيجا واحدا متشابك الود ما كر الجديدان....
. وتحية للجواهري الكبير الذي عاش في هذا الحي الآمن ردحا من الزمن؛ حينما قال :
اقول وربما قول يدل به ويبتهل
ألا هل ترجع الاحلام ما كحلت به المقل
وهل ينجاب عن عيني ليل مطبق أزل
كأن نجومه الاحجار في الشطرنج تنتقل
يساقط بعضها بعضا فما تنفك تقتتل
ألا هل قاطع يصل لما عيت به الرسل

خالص عزمي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف