حرب العقول
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حرب العقول .. من العقل التنويري إلى العقل المحاصر!
إن ملاحظة ورصد التطورات على مستوى التفجيرات الإرهابية المختلفة يرى أن هذه العمليات تتجاوز إفرازات الإرهاب في حدوده القُطرية سواء في سيناء أو شرم الشيخ أو الرياض أو لندن أو مدريد أو في أي دولة يحط بها ، كي تصل إلى حدود كل ما هو إسلامي، وهو في حركته الدائبة يثبت أن المشكلة لم تكن يوماً في مجرد أحداث سياسية ذات طبيعة درامية تشعل مشاعر الأسى والضيق في صدور المسلمين كتلك التي تجري وقائعها في العراق مثلاً ، ولكنها تكمن في تجويفات "العقل النصي" الذي تهيمن عليه ، أفكار ، هي أقرب للخرافات تنهض على الخوف الهستيري - غير المبرر- من كل ما هو خارج حدود الإسلام ، مما يستدعي التصدي له ودحره بشتى الوسائل .
ولم تكن المشكلة يوماً في الإسلام كدين ، وهذه حقيقة مجرّدة لا تخطئها عين فاحصة . المعضلة كانت ، ولا تزال - في تقديري - تكمن في طبيعة العقل الناقل لهذه الحقيقة ، كونه حوَّلها من حقيقة ثابتة إلى مجرد "فرضية" قد تصيب وتخطئ ، وذلك حين صنع منها حائطاً للصَد يدفع به سَيْلاً من الاتهامات الموجّهة للدين كعقيدة ومصدر إيماني ، دون النظر برويَّة في قصور هذا العقل وقدرته على الاقتراب من المعاني السامية للدين الإسلامي .
فقد مزج هذا العقل النصي بين المقدس والدنيوي ، يمارسه جماعة من ذوي الأفق الضيق ، ويقفون به عند قشور المعرفة الحقيقية بالدين ، دون القدرة على المواءمة بين فرائضه ومتطلبات الحياة اليومية . ما أنتج فجوة شاسعة بين ما ينبغي عمله للنهوض بـ"دولة" هذا الدين ، وبين القدرة على تحمّل تبعات هذا النهوض فكراً وعملاً .
هناك معضلات عدة تجد أصداءها في تكوينات هذا العقل، بحيث ساهمت في تجويفه ووقفت به عند مرحلة فكرية بعينها لا يقوى على تجاوزها أو الانعتاق من تبعاتها أو التخلص من سياجها. ولعل أولها ما يرتبط بهيمنة أو تسلّط الماضي على الحاضر، وهي معضلة تطل علينا بوجوه متعددة تبدأ بالتاريخي مروراً بالاجتماعي ولا تنتهي عند السيكولوجي (النفسي). وتكمن "خطورة" الأمر في ذلك المزج الشديد بين (وقائع) الأمس و(حقائق) اليوم، الذي قد يصل أحياناً إلى حد التماهي بينهما ، بحيث تصبح الطريق الوحيدة للتعاطي مع الحاضر لا بد وأن تمر، حتماً، بما تم عمله في الماضي .
معضلة أخرى، تؤثر أيما تأثير على مدركات هذا العقل وتشكّل كثيراً من قسماته، تلك التي تتعلق بهيمنة فكرة الصراع على مخيلة الكثيرين من شباب ، وهي حقيقة لا يجب التقليل من تأثيرها تحت ادعاءات غير مقنعة، فهي فكرة تغذِّيها بالطبع أحداث وخلفيات سياسية، بيد أنها مستمرة في العقل الباطن وتمارس دورها كلما دعيت إليها من قبل "العقل المدبر" ، وما أكثرها الآن في ظل عالم يفترس الضعفاء، ويبرّر لنفر منهم ضرورة أخذ الحق بذات اليد . وهي ذات الفكرة التي تستند إليها مجموعة من أبناء العالم الثالث، بيد أنها تجد (هَوَساً) لدى الجيل الجديد من الإسلاميين، والذي يعتمد في تحركاته وعملياته على أحدث وسائل التعبئة والتجنيد، فإن لم يكن الأمر لنصرة الدين فعلى الأقل لتصحيح الخَلل في ميزان الثَّروة بين الشمال والجنوب. يدعمه في ذلك جَوْر السياسات العالمية واستخفاف بعض الشماليين (الغربيين) بأفكار المساواة والعدالة ذات البعد العالمي .
لكن الوقع يدحض هذا التصوّر، فلو صَحَّت هذه النظرية، لكان أجدر بأبناء إفريقيا وجنوب آسيا والهند من المعدمين والفقراء والمعوزين أن ينخرطوا في مثل هذه الأعمال الإرهابية، تعويضاً عن حرمانهم وانتقاماً للعدالة الإنسانية. وما فعله الباكستانيون في لندن العام الفائت يدعم هذا الرأي، فقد تحوّل "جهادهم" للذات، طيلة فترة نموّهم في أزقة (ليدز)، في مواجهة مفردات الحداثة وقِيَمَها، إلى "صراع" مع ذلك الآخر الذي أنتجها، حتى أنك لتستغرب كيف لهؤلاء الشباب الذين ترعرعوا في أحضان الحضارة الغربية، أن يُقْدِمُوا على مثل هذا العمل الدَّموي، تماماً مثلما قد يفعل شباب نشئوا في ظلال المدارس الدينية المتشدّدة .
ويظل السؤال الهام هو : لماذا لم يُقْدم أبناء الجاليات الأجنبية الأخرى في لندن على مثل هذا العمل ؟
قد نجد الإجابة على هذا السؤال عند الباحث الفرنسي (جيل كيبل) Gilles Kepel حين أشار في كتابه الموسوم بـ (حرب العقول المسلمة : الإسلام والغرب) إلى أن "إسلام الغرب" يختلف جذرياً عن "إسلام الشرق"، اختلاف في المنابع والوسائل وطُرق التعلم . ففي الغرب نجد إسلاماً جديداً يقوم على كسر الحلقة التقليدية بين "العلماء والطلبة" فيما يخص إشباع الروح والتفقّه في الدين . كي تحل محلها ثنائية "الطلبة والإنترنت". إذ تحوّل شباب المسلمين في الغرب إلى شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" يستقون منه أصول الدين ، ويَغُوصون في مواقعه يستلهمون منها وقود الدفاع عن أفكارهم وأحلامهم ، ومن هنا تبدأ أولى حلقات "الأصولية" . وكم كان (كيبل) عميقاً في تحليله حين أزاح ستار الدين عن عقول هؤلاء "الأصوليون الجدد" مشيراً إلى عمق التغيير الذي حلّ على أفكار العقيدة وما يسمى بـ "الجهاد الإسلامي" . فيقول في ذلك : أدى غياب القيم الدينية التقليدية في الإسلام إلي ظهور "أسلمة" جديدة للدين تقوم بالأساس على مشروع الإحياء الإسلامي الفردي . "ثقافة الأنا" هي أبرع ما خرج به ، ذلك أن "فَرْدَنة" الدين (أي المفهوم الفردي للدين) أفرزت فهماً مختلفاً للدين يتجاوز حدود المكان الجغرافي ويحاول استعادة "إنجازات" السَّلف في بلاد أبعد ما تكون عن "العصبية" العقائدية . وهو شعور تأجَّج لدى البعض من مسلمي أوروبا وميَّزهم عن نظرائهم في الشرق الأوسط . لذا لم يكن غريباً أن يخبو صوت التفجيرات في الشرق الأوسط ، كي ترتفع مجدداً في قلب أوروبا . ولكن من أين يستمد "القاعديون الجدد" - إن صح التعبير - في أوروبا وغيرها ولاءهم الروحي والعقائدي ؟ وأين تقع مراكز التجنيد والتلقين الفكري والحركي لهم ؟
تساؤلات تُشتق إجابتها من رحم تساؤل آخر كبير : ومن أين جاءت أفكار الجهاد والتكفير والخروج على الجماعة ؟ جاءت من هنا من حدود ذلك العقل "المسيَّج" أو "المحاصر" الذي لم يتَّسع ليدرك أفكار النهضة والتنوير والعقلانية ، ولم يرتقِ ليدرك قيم الحداثة والتعايش والتسامح ، وابتعد بأكثر ما يمكنه عن صحيح الدِّين وأصوله النقية .
عقيل يوسف عيدان
ayemh@yahoo.com