دافينشي كود بين حرية التعبير والتسامح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
دافينشي كود بين مبدأي حرية التعبير والتسامح
مرة أخرى يثور الجدل حول مبدأي حرية التعبير والتسامح وكيفية التوفيق بينهما خاصة حين يتعلق الأمر بالمقدسات الدينية للمتدينين، إذ يبدأ اليوم العرض التجاري لفيلم "دافينشي كود" الذي يأتي تجسيداً فنياً لرواية تحمل نفس الاسم للمؤلف الأمريكي دان براون. تدور أحداث "دافينشي كود" في إطار روائي لا تاريخي، كما يؤكد موقع دان براون على شبكة الأنترنت، حول دور ادعى الكاتب أن الكنيسة الكاثوليكية لعبته في اخفاء القصة الحقيقية للسيد المسيح التي تضمنت، بحسب المؤلف، زواج السيد المسيح من مريم المجدلية وإنجابهما لطفلة تدعى سارة. الرواية التي صدرت عام 2003 حققت مبيعات هائلة بلغت ما يزيد عن الـ 60 مليون نسخة مطبوعة كما تؤكد موسوعة الويكيبيديا، وتمت ترجمتها إلى نحو 44 لغة منها العربية كما يشير موقع المؤلف على الإنترنت. ليس من شك في أن الرواية تتعارض تمامأ مع العقيدة المسيحية، بل وتختلف أيضاً عن رؤية الإسلام لشخصية السيد المسيح، وهو ما وضع الرواية وبالتالي الفيلم في مأزق مع المتدينين من المسيحيين والمسلمين على السواء. لست هنا في مجال تحليل الرواية أو الفيلم، ولكني بصدد قراءة مسبقة لردود الفعل المتوقع أن تصدر على الفيلم المثير للجدل.
قوبلت رواية "دافينشي كود" لدى صدورها ببيان احتجاج رسمي من الفاتيكان وصفها بالكذب والعداء للمسيحية، كذلك اصطدمت الرواية باعتراضات شفوية وكتابية من رجال الدين المسيحيين اتفقت جميعها على عدم وجود مصداقية أو أسس تاريخية لأحداثها. لكن رد الفعل الرسمي للفاتيكان ورجال الدين المسيحيين لم يمنع الملايين من الكاثوليك والبروتستانت من قراءتها إما بدافع الفضول، أو دراستها للرد على ادعاءاتها، أو حتى بدافع الإعجاب بالأسلوب القصصي للراوي. لم يكن مدهشاً أن تنجح الرواية في الغرب الذي اعتاد التمرد على كل الثوابت والحقائق كما الأساطير والتابوهات، إذ لم يكن ممكناً - بالطبع - الاعتداء على قدسية الحريات العامة بمنع الرواية أو مصادرتها أو بفرض قيود على الغربيين لتجنب تداولها وقراءتها. بعد النجاح المدوي الذي حققته الرواية قررت هوليوود انتاجها فيلم من بطولة الفنان توم هانكس. المثير أن فتوى واحدة بتكفير وقتل دان براون أو توم هانكس لم تصدر عن أي من القادة المسيحيين المعتدلين أو حتى من يوصفون بالمتطرفين، كما لم يتم رصد أية أحداث عنف في أي من الدول الغربية طوال السنوات الثلاث التي شهدت رواج الرواية.
من غير المتوقع أن يشهد العالم مظاهرات احتجاج حاشدة على الفيلم كالتي شهدها اعتراضاً على فيلم "الإغراء الأخير للمسيح" الذي عرض عام 1988، فقد تم التمهيد للفيلم مسبقاً وبصورة جيدة عبر الرواية التي حققت أعلى نسبة مبيعات في أوروبا والأمريكتين طوال السنوات الثلاث الماضية لم تقابل فيها بأي مظاهر اعتراض على الإطلاق سواء من جانب العامة أو النقاد الفنيين. ليس ذلك فحسب، بل أنه كثيراً ما جرى الاحتفاء بمؤلف الرواية في العديد من المناسبات، واختارته صحيفة التايمز كواحد من أكثر 100 شخصية تأثيراً في العالم. ولكن كل هذا لا يمنع من أن الكنائس التابعة لمختلف الطوائف المسيحية بدأت في ممارسة حقها المضاد عن طريق شن حملات مناهضة للفيلم تدعو فيها أتباعها لمقاطعة الفيلم، في الوقت الذي طالب فيه البعض بتصنيف الفيلم على انه للكبارفقط. من المتوقع أن تنظم بعض الهيئات المسيحية تظاهرات سلمية على نطاق ضيق في بعض الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية والأرثوذكسية على وجه التحديد مثل إيطاليا والفلبين وبولندا والبرازيل واليونان للاحتجاج على إهانة المقدسات الدينية لهم. من الجدير بالذكر هنا أن جميع الدول الديمقراطية في أسيا وأوروبا والامريكتين سمحت بعرض الفيلم ورفضت - حتى الأن - كل الدعوات بوقف عرض الفيلم، وإن كانت الهند قررت تأجيل عرضه.
أما في العالم العربي، فمن المؤكد أن لا اعتراضات تذكر سيتم تسجلها على الفيلم. من غير المعروف حتى الأن إن كانت الدول العربية ستسمح بعرض الفيلم أم ستمنعه، ففي مصر أعلنت الرقابة على المصنفات الفنية في مصر، في خطوة أثارت دهشة الكثيرين نظراً لمعارضة الفيلم لتعاليم الإسلام، عن موافقتها على عرض الفيلم، غير أن أنباءً ذكرت أنه على الرغم من هذه الموافقة إلا أن جهات رسمية قررت عدم عرض الفيلم. فقد نقل راديو سوا عن جابي خوري مدير شركة أفلام مصر العالمية للإنتاج والتوزيع وهي الجهة المسؤولة عن توزيع أفلام الشركة المنتجة للفيلم في مصر أن الشركة بدأت بعرض الشريط الدعائي للفيلم في دور العرض التي كان سيتم عرضه بها بعد الحصول على موافقة الرقابة، إلا أن جهات مسئولة طلبت في وقت لاحق سحب عرض الشريط بعدما تقرر عدم عرض الفيلم في مصر. ولم يعرف إذا ما كان منع الفيلم بسبب تدخل جهة دينية كالكنيسة أو الأزهر، أو بسبب خوف أمني من حدوث قلق طائفي في وقت تحتقن فيه العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر. على جانب ذي صلة، فقد طالبت بعض المؤسسات المسيحية في العالم العربي مثل مجلس الأساقفة في الأردن بعدم عرض الفيلم، جاء ذلك في الوقت الذي لم يصدر فيه عن رجال الدين المسلمين ما يشير إلى موقفهم من الفيلم.
يضع فيلم "دافينشي كود ثقافة حرية التعبير في مواجهة ثقافة التسامح اللتين تعدان من أهم ملامح ومكتسبات الديمقراطية. من المؤكد أن فيلم "دافينشي كود" يعذ تحدياً لمقدسات مئات الملايين من المؤمنين المسيحيين والمسلمين في العالم، ولكن أحداً لم يتعرض لمؤلف الفيلم أو أبطاله أو مخرجه، كما أن أحداً لم ولن ينجح في منع عرض الفيلم في الدول الديمقراطية المتقدمة، وذلك إيماناً من الجميع بقدسية حرية التعبير. ولكن من المؤكد أيضاً أن المسيحيين والمسلمين المعتدلين سينتصرون لمبدأ التسامح الذي يضرب بجذور عميقة في تعاليم السيد المسيح، فإذا ماكان مبدأ التسامح قد أصبح مطلباً اجتماعياً مهماً منذ عصر التنوير في اوروبا، فإنه يعد من أهم المبادئ التي تقوم عليها المسيحية منذ نشأتها قبل ألفي عام. لا ينبغي لمبدأ حرية التعبير أن يضعف مبدأ التسامح بل يقويه، ولا ينبغي لمبدأ التسامح أن يسطح مبدأ حرية التعبير بل يعمقه. من المهم عم النظر إلى حرية التعبير على أنها عامل سلبي يتسبب في إضعاف عقيدة المؤمنين، فالعقيدة القوية تتصدى بفكرها لكل المزاعم الباطلة، وتتحدى المصاعب بقوة حججها. من المؤكد أن العقيدة الراسخة تقاوم الفكر بالفكر والمتاعب بالتسامح، والمسيحية التي عانت اضطهاداً مريراً في بدايتها خرجت منه قوية بفكرها وتسامحها. وأخيراً فإذا كانت حرية التعبير تغني الفكر والعقل، فإن التسامح يغني الروح والتواصل بين الشعوب. فمرحباً بحرية التعبير الذي يتبناه الأقوياء وأهلا بمبدأ التسامح الذي لا يقدر عليه إلا الحكماء.
جوزيف بشارة