أصداء

عبد الرحمن منيف الوجه الجمالي للشخصية العربية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بعد عامين من وفاته، مازال صوت منيف الإبداعي والوجودي طليقا، يحيا بيننا فنكاد نسمعه أو يمتزج بعوالمنا الداخلية فيكاد ينطق بوجود لم نتخيله أبدا عن أنفسنا، ألا يشعرك منيف ببدائلك من خلال شخصياته؟، إنه يقاوم موتك أنت ليمحو آثار موته هو.الحضور الآني لمنيف لا يمكن أن يحيله النقاد إلى أى مذهب أو اتجاه فني ؛ لأن نماذج منيف مازالت تتجدد و تبلور الوجه الجمالي للشخصية العربية في مستقبل أكثر ارتباطا بنصوصه الروائية حين تصبح واقعا فائقا يتجاوز أزمات التحديد التعسفي للهوية، ويذكرني هذا بحديث ديريداderrida عن ميتات رولان بارت إذ إن تعريفه مثل الكتابة الأولى عند _ ديريدا )، ما يسبق أى لغة ميتافيزيقية أو مفهومية، إن روايات منيف مازالت تنتج مستقبل الذات العربية الطليعية من داخل آثار الماضي، فهل ستعيد شخصياته الفريدة قراءة واقعنا وتطورنا المعرفي، فيكتسي ثوبا جديدا من منيف وما يليه من أجيال؟ هكذا نجد أنفسنا فى مواجهة ثقافية دائمة مع منيف وأعماله خارج أى حدود فيزيقية أو نصية، إنه الفراغ والتأويل المتجاوز للشفافية فيما وراء النص وآثارة فى القارئ،إذ يحقق خصوصيه الشخصية العربية خارج الأطر الشمولية في مراياه المستقبلية. لقد اكتسب منيف - إذا خصوصيته الوجودية الإبداعية من التطور النسبي الفريد لأماكنه وشخصياته، فهو يغرق في العجائبية من داخل الواقع ليقاوم النزعات الاختزالية المشوهه لمظاهر الحضارة، وكأن هذه المظاهر منتجة للتو من أساطير الوعى واللاوعى البشرى، فى رواية (النهايات) يكسب منيف ضيعة ( الطيبة ) وجودا باهرا - كأنه مقطوع عن المعرفة السابقة - من حيث التكوين واللغة والعادات، فأهلها لهم طريقة خاصة فى الحديث لا يفهمها من لا يعرفهم فيظنهم يتعاركون، وقد يضطرون للمناداة على على الحيوانات الضالة أو الأخرى التى تذهب - بمزاجها الغريب إلى أماكن مجهولة، ولهذه الأسباب يضيف الرواه إليها ما يشاءون من خيال عندما يأتى ذكرها. وهذا يؤكد أن أثر الطيبة المتجدد يقاوم واقعها المادي، فهي صوت تحريفي للوقائع الغائبة التي تتمتع في الوقت نفسه بحضور دائم في صوت منيف أو في قرائه، والقابل للإنتاج فى كل وعى إنسانى يقتحمه بدواله الجديدة. يمزج ( منيف ) جماليات المكان أيضا بنشأه وتكوين البطل ( عساف ) ليصير الأخير مرآة تحرف (الطيبة ) وتبرز غرابتها. إن التاريخ الذى يفترض ( روائيا ) أنه واقعى لعساف يتحول إلى صورة تستبدل الأصل وتتحدث بلسانه فى تطور يخضع للتداعى الإبداعى ومحو ثبات الهوية وجمودها يقول " هذا النوع من البشر يتحول يوما بعد أخر إلى حالة من الغرابة والانطواء ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناس او الاهتمام بهم، كما أنه له عالمه الخاص... هكذا تعود أهل الطيبة على عساف ونتيجة الألفه والاستمرار لم يعد يثير تساؤلا أو استنكارا - النهايات ) لقد صار ( التحول) قانونا لعساف وطبيعته الصحراوية المتشظية. صورة الصحراء تحرك وعى وأفعال وتطور الشخص دون أن يكون له سيطرة على حركتها الخاصة.
من يوقف حركة الصحراء اللاواعية وعبثها بالبطل في رواية ( منيف)؟ إنها تدفع الأشخاص إلى الاختفاء والتلاشى فى الظلمة، يذكر الراوى أنها بقدر ما تشعر الإنسان بضآلته، فإنها تدفعه للتوحد بشيء ما، وقد يطارد الإنسان فى الصحراء ظله كالأبله، وعندما ينفصل عن تلك اللحظة ينظر إليها بإعجاب، إن المكان عند منيف هو الشئ غير المرئى الذى ينتج دوما أدوارا خيالية يستطيع الممثل / البطل أن يحاكيها أو يحرفها دون أن يلتفت إلى الماضى كأن المجاز كامن في كينونته بالأساس، وفى ( مدن الملح / التيه) يبرز منيف شخصية الحكيم (مفضى الجدعان) الذى لا يتقاضى أجراً عن ممارسته للطب، هذا الخارج عن المسار الخطى للحضارة، يجمع فى تكوينه الواقع والأسطورة فيصف الراوى جسده كأنه منحوت من الصخر او الخشب، ويرفض أن يتعامل بالنقود وقد يجمع الأرانب والوعول ثم يوزعها عن طيب خاطر، و صورة مفضي أيضا تجسد الممارسة الإنسانية في اتجاه التلاشي وابتكار النموذج فى وقت واحد، فمفضي يشبه الكتابة المقاومة لآليات بناء المجتمع المدني. وإذا كانت الكتابة منتجة لأساطيرها الخاصة، فإن النشاط الإبداعي لمفضي سيصبح صورة قابلة لإعادة التمثيل في وعى الرواة والقراء وكأن التحول يستبدل الصراع الحضاري لصالح جمالياته، فالغموض الذى اقترن باختفاء مفضى ووفاته فى ( التيه ) استدعى صورا جديدة فى الرواة فبعض الصيادين رآه وحيدا فى زورق أبيض وسط البحر، وعند موته اضطربت الجنازة ثم ولد نور أبيض بلون الحليب. لقد تحول الرواه والقراء وفق التلقى المعاصر إلى جزء من جماليات اللوحة الأسطورية لمفضي. ومثلما ولد عساف فى(الطيبة)، فقد ولدت ( التيه) فى وادى العيون الخارق، والذي يمثل أعجوبة لمن يراه وتتشكل آثارة فى ماعداه من أماكن لها خصوصية مثل ( حران ).
إن منيف يشكل الزمن من خلال تفتت الوعى والمكان، فيذكر فى (النهايات ) أن الزمن فى الصحراء يتحول إلى ذرات صغيرة ثم يتفتت الى ما لا نهاية وفى ( التيه) لم يتغير الوجه الملائكي لمفضي الجدعان. وبهذا الصدد يرى المفكر الراحل، إدوارد سعيد أن الروائي العربي المعاصر قد واجه التداخل المعقد بين المعرفة والمجتمع بأساليب و هواجس وخلفيات أكثر تعقيدا دون التخلى عن الأزمة الجماعية ومداومة النظر إلى الأمام. راجع (إدوارد سعيد - النثر الروائي بعد 48 / ت / فريال غزول ) وأرى أن الإضافة الحقيقية عند منيف أنه قاوم واقعية الواقع من خلال فن ( الرواية ) وهى مهمة صعبة فى تاريخ تطور هذا الفن فى الآونة الأخيرة، فقد قبل التاريخ الآن التناقضات وامتزج بالنص الأدبي على مستوى اللغة، ولهذا أثره المعرفى على شكل الرواية الآن، وبخاصة فى أمريكا اللاتينية. ويطلق (ديفيد لودج david lodge ) على هذه التقنية ( الوثائقية الجديدة ) new journalismوتبدو فى رواية ( النهايات ) عقب تلازم عساف وكلبه فى رحلات الصيد، عندما يذكر بعض الرواه أن صورتهما تشابهتا كثيرا وفى ( التيه ) يذكر بعضهم عقب موت مفضى أن كلب حمدان عوى بطريقة أسطورية. إن توثيق هذه الأحداث اللاواقعية يجسد التناقض الجمالي التكويني في الشخصية العربية كما يربك مفهوم الواقع في علاقته المعرفية المعقدة بالنص و الزمن و الحضارة التي تأبي الظهور في مدلول أحادي.

محمد سمير عبد السلام
m-sameer@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف