نهاية ثورة الإسلاميين في السودان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كان سر قوة الحركة الإسلامية السودانية يكمن في دعوتها للدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، والعدالة الاجتماعية والمساواة، واقتصاد السوق الحر التي عادة ما تجد قبولا وسط الشعوب المسلمة البسيطة. إلا انه بعد تجربة أكثر من عقد ونصف في الحكم تلاشت تماماً هذه القوة بموجب فكرة القوة نفسها التي أجهضت تلك المبادئ. وكان على الإسلاميين بعد توليهم أمر الحكم ارتكاب العديد من الأخطاء الجسيمة "الضرورية" في سبيل تحقيق القضايا الأمنية الكبرى وتطبيق تلك المبادئ الإسلامية، شأنهم شأن غيرهم من السياسيين الذين ينظرون دائما للمستقبل.
وبالطبع يرجع الفضل في صياغة هذه المبادئ والأفكار ونجاح الحركة الإسلامية في السيطرة على مقاليد الأمور في السودان في صبيحة 30 يونيو 89 إلى أفكار الشيخ حسن الترابي دون منازع، فقد وهبها سني عمره وعقله وعاطفته، إلى أن أوصلها للسلطة عبر الانقلاب العسكري. وكما يحلو للإسلاميين العرب تسميته بالشيخ الوحيد الذي أتى للحركة بدولة! وللأسف بفضله أصبح السودان في عهده وطناً للإسلاميين المتشددين الذين طردوا من أوطانهم نتيجة لتطرفهم وأفكارهم التكفيرية والانتحارية. كذلك كان سر قوة الحركة الإسلامية في السودان يرجع إلى ذلك المزيج النادر بين الرجال الحركيين والأفكار التي كان يروج لها الترابي آنذاك.
أما النائب علي عثمان طه الذي نال مؤخرا أيضا لقب "الشيخ" فمنذ أن أوكل إليه أمر تنفيذ الانقلاب قام بتكوين مجموعات تجارية واقتصادية داخلية ضخمة، من الأقارب والموالين وذوي العصبة، تتبع له مباشرة، وظف لها كل إمكانيات الحركة من قوة ومال وإعلام، كما قام بتكوين شبكة أمنية أوعز لها بتوظيف الموالين له فقط، ومن أهله وعشيرته، وحدد لها مهمة محددة هي تمكينه من السلطة، وحشد الأصوات اللازمة لأي عمل سياسي. كما أسس حلقات سياسية منظمة داخل الحركة ليضمن ولاءها له وحده لدرجة انه استطاع أن يحشد كل الأصوات لصالح موقفه في إقصاء الشيخ الترابي. كذلك لعب علي عثمان دورا كبيرا في تصعيد دور العسكريين المتحالفين مع الحركة والذين اتضح ضعفهم السياسي والفقهي بعد كل هذه السنوات في الحكم والتجربة.
وبعزل الترابي فقدت الحركة الإسلامية السودانية عقلها وقلبها النابض وأصبحت ضعيفة تتناوشها الرياح الدولية وتعصف بها أنواء القضايا المحلية المستفحلة، ويواجه قادتها أوامر القبض التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية. وهكذا بدأت نهاية ثورة الإسلاميين في السودان. صحيح أن علي عثمان والبشير لا يزالان يقبضان على السلطة، ولكن لهيب النار قد خبأ واختفى بريقه، وان الاستراتيجيات والسياسات التي شكلت توجهات الإنقاذ في الفترة الماضية التي وضعها الترابي ورفاقه لا تحكم إنقاذ اليوم.
يقول بعض الإسلاميين أن نهاية الحركة الإسلامية قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل. وان الثورة ماتت يوم قفزت الجبهة القومية الإسلامية للأمام لاستلام السلطة بالانقلاب العسكري، تاركة برنامجها الديني ورائها. وماتت الثورة بسبب التكلفة البشرية والمادية الباهظة للجهاد الذي أعلنته ضد أجزاء أساسية من مواطني الدولة التي تريد أن تنفذ فيها مشروعها الحضاري، وماتت بسبب العنف غير المبرر أخلاقيا ضد معارضيها في المعتقلات وبيوت الأشباح سيئة الذكر التي يمارس فيها التعذيب والإذلال والتصفيات بصورة سبقت وفاقت سمعة أبو غريب. فمنذ أيامه الأولى ابتعد النظام الإسلامي عن كريم الأخلاق الإسلامية الحسنة لدرجة وصفته الصحافة العالمية بأنه نظام خليط بين الحكم الديني وجماعات المافيا، ووصفه بن لادن الذي كان ضيفاً عليه بأنه "نظام للجريمة المنظمة".
وماتت الثورة بسبب ما ظنه الإسلاميون "متطلبات ومستحقات السلطة والحكم" وعواقب استخدام سياسة القوة التي حكمت بها الإنقاذ في دولة مفككة ومنقسمة على نفسها وتحمل مزيدا من أسباب الفرقة والشتات، وبسبب الحرب التي شنتها ضد المسلمين أنفسهم في دارفور وشرق السودان، والنيل الأزرق وجبال النوبة، وبسبب تحول مراكز القوى في الحركة الإسلامية إلى القصر الجمهوري ومكاتب الأمن والمخابرات نتيجة لهذه السياسات.
فمثلها مثل باقي الأنظمة اعتمدت الإنقاذ على ثابت في السياسة السودانية لم يتغير في كل الأزمنة والحكومات ولم تشاء الإنقاذ تغييره، وهو علاقة الخرطوم بالأقاليم المختلفة تلك العلاقة التي تستند إلى تاريخ طويل من الاستغلال والحروب. وحقيقة قد جسدت الإنقاذ هذه العلاقة وكرست سياسات الظلم وانعدام العدل والمساواة، فوطدت سلطتها في الخرطوم عبر تحالف ومزج لثلاثة عناصر هي: تحالف قبلي واسري، تحت غطاء إيديولوجي إسلامي، تسنده آلة عسكرية أمنية. والغريب في الأمر رغم ظاهر الحال لا زالت الإنقاذ تتجاهل حقيقة تنوع السودان الديني والثقافي والعرقي، ولا تزال متمسكة بتطبيق مشروعها الثقافي الآحادي على كافة أقسام الشعب المختلفة والمتعددة فاندلعت الحرب عليهم من كل جانب في القطر، يقودها بنوها في بعض الجهات. وهذه مسيرة غباء نسجتها الإنقاذ بنفسها فلم تجد يوماً بلا حروب لتلتفت إلى قضايا التنمية والبناء والعدالة الاجتماعية والمساواة التي نص عليها الإسلام المتسامح.
ليس هذا فحسب، بل أن الإنقاذ عزلت نفسها عن قطاعات الشعب المسلمة التي "جاءت من اجلها" ولبناء دولتها، ففشلت في تحقيق تحالف بين المسلمين، وفضلت الانفراد بالسلطة والثروة، فلم تستوعب في أجهزة الحكم إلا كادرها الملتزم، ونأت بنفسها عن تيار الإسلام الوسطي العريض الذي يشكل السودان، كما نأت بتجربتها عن إشراك الطائفتين الدينيتين الكبيرتين والطوائف الأخرى رغم تمسكها بالإسلام. وهكذا أصبحت أداة الثورة ومحركها "الإسلام الحركي والأصولية" أداة عرقلة وفشل "للدولة الإسلامية" بعد أن كانت أداة جمع وحشد للحركة الإسلامية.
إن عزل الترابي في نهاية التسعينات كان بمثابة المؤشر الأخضر لتحرك الإنقاذ نحو نهايتها المحتومة الدانية. فالحركة الإسلامية التي ظلت تدعو وتطالب بدستور إسلامي حاربت من اجله منذ الستينات واتهمت معارضيه بالإلحاد والكفر عندما استلمت السلطة أتت بدستور دكتاتوري شبه علماني، لم ترد فيه كلمة أو إشارة لدين الدولة أو إسلاميتها. وهكذا انتهى حلم الإسلاميون بجمهورية إسلامية على أيديهم.
والآن يواجه إسلاميو السودان أسوأ وضع تشهده حركتهم في تاريخها الطويل، حيث يواجهون مشاكل معقدة ليس في يدهم حلها مثل قضية دارفور وسلسلة طويلة من النزاعات مع الحركة الشعبية الشريك في الحكم، وتكاثر وجود القوات الأجنبية والإفريقية ووقع حوافر القوات الدولية على الأبواب. وتواجه قيادتهم عدد من البلاغات الجنائية وأوامر القبض التي طالت حوالي ستين منهم لارتكابهم جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان، وسلسلة من الفضائح الدينية والأخلاقية مثل التصفيات التي أعقبت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك الفاشلة، والتي كشف عنها تفاصيلها المثيرة الترابي بنفسه مؤخرا.
فمثلما كشف الشيخ الترابي "صاحب الثورة" عن سوءاتها وجرمها وانحلالها الأخلاقي والديني، كشفت تصريحاته الأخيرة عن الغطاء الإيديولوجي المتهالك الذي كان يوفره لها الشيخ نفسه. وبالفعل أصبحت الإنقاذ بلا غطاء أيدلوجي بعد إزاحة الترابي وعزله، حيث لم تمنعهم قدسيته وأبويته للحركة و"ثورتها" من اعتقاله فأصبحت ثورتهم أول ثورة في التاريخ "تأكل أباها" كما قال د. قرنق. كذلك انكشفت أفكار الشيخ الدينية "باعتباره المرجعية الدينية" بعد جرأته الأخيرة في الفتيا التي البت عليه شيوخ الإسلام في بقاع الدنيا.
هذا الانكشاف والتعري الإيديولوجي جرد الحركة الإسلامية من أهم أسلحتها وهو قدرتها على تعبئة الجماهير وراء قراراتها بتوظيف سحر العباءة الدينية لصالحها. وفي ظل تنكر الترابي لأحكام ترى غالبية المسلمين صحتها وثباتها، تواجه الحركة الإسلامية إشكالا موضوعيا في شرعيتها الدينية نفسها.
لإنعاش الحركة الإسلامية وثورتها يقترح البعض انجاز وحدة بين الفريقين الوطني والشعبي وإعادة الروح للشعارات القديمة: جمهورية إسلامية بدستور إسلامي ومشروع حضاري ودولة عدالة اجتماعية ومساواة! ولكن هناك استحالة في حدوث تلك الوحدة خاصة أن الجراح التي تركها الانقسام ما زالت تنزف وقد زادتها تصريحات الترابي الخطيرة نزفا، لدرجة تؤكد أن صراعات الحركة الإسلامية قد وصلت مرحلة "علي وعلى أعدائي" في حرب البقاء. وهذه آخر مراحل الثورات. فكيف يتسنى للإنقاذ إعادة الروح لجسدها بعد أن فقدت جذوتها وقوتها والرؤية والأشخاص الذين يستطيعون القيام بتغيير وجهة الإنقاذ أو تغيير الواقع السياسي الماثل.
فعلى مدى عقد ونصف من الحكم فقدت الإنقاذ صدقيتها الدينية وفقد شيوخها القدرة على التأثير المعنوي ليس على الآخرين فحسب بل على أتباعهم بصفة خاصة. وحقيقة لا يوجد الآن اتفاق وسط المفكرين الإسلاميين في السودان حول ما تعنيه "ثورة الحركة الإسلامية"، وان الإسلاميين الآن لا يقودون حركتهم ولا يملكون شيء في ثورتهم، وان المفكرين الإسلاميين لا مكان لهم إلا في صفحات الصحف. وأصبحوا ضيوفا على "ثورتهم" لا يساهمون في دعمها إلا بأضعف الإيمان وتمني عدم زوالها، فاختاروا طريقاً ثالثاً هو طريق الصمت بعد أن جبلوا على الحركة والثورة. لهذا أصبحت "الثورة" في أيدي قلة قليلة تربط بينها روابط عرقية وجهوية، لا زالت تمسك بزمام عسكري وامني، ولها خلافات شديدة مع الإسلاميين الحركيين والمفكرين في كل شيء تقريباً، وتعمل على تهميشهم كل يوم. وفي ظل غياب الايدولوجيا والأفكار المتماسكة أصبحت البرجماتية هي التي تحكم الإنقاذ. كل هذه تحديات قوية قد تعصف بما تبقى من الإنقاذ إن لم ينقذها منقذ آخر.
أما حزب "الثورة" المؤتمر الوطني فهو حزب صنيعة الإنقاذ الذي اختزلت فيه الحركة الإسلامية السودانية فتحول إلى اتحاد اشتراكي آخر، وأصبح ولاءه مقسما بين البيوت والأسر المستنفذة في الإنقاذ، كما صار ناديا لاقتسام غنائم السلطة والصراعات بين أقطاب الحركة. وبعد أن كان مقررا له أن يصبح الحزب الوحيد في الدولة وضعته الأقدار إلى جانب شركاء آخرين داخل قبة البرلمان ففقد الأغراض التي من اجلها صنع. وسوف يشهد هزيمة نكراء في أول انتخابات حرة ونزيهة تشهدها البلاد.
ونتيجة لهذه الأزمات السياسية المتفاقمة والقضايا التي تورط فيها قادة الإنقاذ يبدو أنهم عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم ناهيك عن الدفاع عن حركتهم التي بنوها وثورتهم التي أتوا بها. وهكذا انتهت ثورة الإسلاميين في السودان!.
إبراهيم علي إبراهيم المحامي
واشنطن
* متخصص في شئون الكونجرس.