أصداء

التوريث، الإخوان وأزمة الأحزاب السياسية في مصر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تشغل قضية خلافة الرئيس المصري حسني مبارك وما قد يترتب عليها من احتمالية اعتلاء نجله جمال لسدة الحكم اهتمامات قطاعات كبرى من المجتمعات المحلية والعربية والدولية. رغم أن المعطيات الراهنة تؤكد على أن القضية مؤجلة حتى إشعار أخر، إلا أن الكتابات والمظاهرات والتكهنات تجعل من القضية تبدو كما لو كانت ملحة. لست أجد هدفاً منطقياً واحداً لإثارة القضية في الوقت الراهن إلا قطع الطريق على التصعيد المتدرج لمبارك الإبن الذي قد يفضي في النهاية إلى توليه المنصب بصورة عملية ورسمية. لقد رأيت في الماضي ومازلت أرى أنه ليس من المتوقع أن تشهد القضية تصعيداً كبيراً في الوقت الحالي لثلاثة أسباب أولها أن الرئيس مبارك يبدو ممسكاً جيداً بمقاليد السلطة التي تأتي القوات المسلحة على رأسها، وثانيها أن الرئيس مبارك يبدو متمتعاً بصحة جيدة وذهن حاد وذاكرة قوية، وثالثها أنه من غير المتوقع أن يتنازل الرئيس عن فترة الخمس سنوات المتبقية له في فترة الرئاسة الحالية، والتي بانقضائها يكون الرئيس قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره.

يتفق المعارضون للرئيس مبارك على أن الوقت قد حان لاستبدال القيادة السياسية العتيقة، التي يؤمنون بانتهاء صلاحيتها منذ امد بعيد، بقيادة جديدة تستطيع تلبية المتطلبات الوطنية، ويجمع المعارضون أيضاً على أن مبارك الإبن ليس خياراً مطروحاً على الإطلاق لاستبدال والده. ويرى معظم المعارضين ضرورة اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة تأتي بنظام جديد قادر على حكم مصر في المرحلة المقبلة. ولكن يغيب على هؤلاء أن الساحة السياسية في مصر حالياً تفتقد الشخصية الكاريزما التي توحد المصريين خلفها. منذ رحل الرئيس جمال عبد الناصر، لم يأت الرجل الذي يملأ هذا الفراغ. فعلى الرغم من قوة شخصيتي الرئيسين السادات ومبارك، إلا انهما غالباً ما افتقدا الدعم الجماهيري الحاشد الذي حصل عليه عبد الناصر. لقد افتقد نظاما حكم الرئيسين السادات ومبارك المشروع القومي الذي يجمع شتات المصريين، في الوقت الذي نجح فيه عبد الناصر في توحيد القوى الوطنية خلف مشروعه الحلم العروبي بصورة شبه كاملة. ولقد جاء تعثر الرئيسين السادات ومبارك في الحصول على الدعم الجماهيري الذي حصل عليه عبد الناصر رغم أن تجاربهما الخارجية والعسكرية لم تكلف الشعب المصري مثل ما كلفت مغامرات عبد الناصر طيلة السنوات الست عشرة التي قضاها في الحكم.

ثارت منذ أسابيع قليلة زوبعة كبيرة حول تصريحات أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية التي عبر فيها عن رغبة الرئيس مبارك في اعتزال السياسة والتخلي عن منصبه شريطة وجود شخصية مؤهلة لتحمل المسئولية، وهو الأمر الذي لا يعتقد مبارك بتوافره. تصريحات الباز على قسوتها بحق الـ 75 مليون مصري، إلا أنها تحمل جانباً واقعياً يجب عدم انكاره. فالأحزاب المصرية، التي انغمس معظمها في مستنقع الخلافات الداخلية، لم تعد تفرز شخصيات ذات وزن وثقل سياسي يرشحها لحكم الدولة الأكبر في المنطقتين العربية والشرق أوسطية. جميع أحزاب المعارضة المصرية افتقدت البرامج السياسية الجيدة، ومن ثم سقطت في اختبار اجتذاب رجل الشارع، وأصبحت مثل الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية التي لا باع لها مطلقاً بالسياسة. لقد كان فؤاد سراج الدين الرئيس السابق لحزب الوفد الجديد وخالد محيي الدين الزعيم التاريخي لحزب التجمع، على الرغم من فشل الثاني في الانتخابات النيابية الأخيرة، أخر ما قدمت الاحزاب المصرية من رجالات الدولة الذين يعتد بهم في عالم السياسة، ومن بعدهما أزعم ان الأحزاب المصرية لم تنجب رجالاً مؤهلين لحمل المسئولية السياسية الضخمة.

إذا ما ألقينا النظر على رجال أحزاب المعارضة المصريين في المرحلة الحالية من تاريخ مصر، فلن نجد سوى أشباه رجال سياسة، فهم غير قادرين على وضع مناهج وبرامج سياسية عملية وجذابة، وهم غير قادرين على التعبئة الجماهيرية التي تعد من اهم الوسائل التي تتبعها الأحزاب للتعبير عن تواجدها في الحياة السياسية، وهم غير قادرين على قراءة المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية. وعلى الرغم من وجود شخصية عقلانية مثل الدكتور رفعت السعيد على رأس حزب التجمع التقدمي، إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبح يقترب من رومانسية المفكر منه إلى واقعية السياسي، وهو الأمر الذي أثر في جماهيرية حزبه التي تركزت على نحو كبير في النخبة اليسارية. ربما كان الوحيد الذي القى بعض المصريين بثقلهم خلفه في السنوات الاخيرة هو أيمن نور رئيس حزب الغد الذي احتل المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية التي أجريت العام الماضي، والذي نجحت الحكومة المصرية في الإيقاع به واغتيال مستقبله السياسي عبر استصدار حكم قضائي بحقه بتهمة تزوير توكيلات أعضاء الحزب. وعلى الرغم من شخصية نور الحماسية، إلا أنه كغيره من قادة الاحزاب الأخرى يبقى بعيداً عن شخصية رجل الدولة المثالي القادر على لم شمل المصريين.

وعلى الرغم من ظهور حركة "كفاية" كجماعة ترفع شعارات سياسية لافتة للنظر، وتسهم بفاعلية في الاحتجاجات على سياسات نظام الرئيس مبارك، وتشارك بحماس في الصخب الدائر حول قضية خلافة الرئيس، إلا أن الحركة اكتفت بالنشاط المعارض دون الإسهام الفكري والعملي في تغيير المناخ السياسي. تكاد مبادئ "كفاية" تقتصر على معارضة الرئيس مبارك، ومناهضة فكرة التوريث من خلا شعار "لا" الشهير، وهو ما يعني سقوط لقب البديل السياسي عنها، إذ أن وجود الحركة مرتبط بالأساس باستمرار الرئيس مبارك، ووجود نجله كمرشح للرئاسة. يضاف إلى ذلك أن الحركة لم تتبلور كحزب سياسي له اتجاهاته وبرامجه المميزة، فالحركة كما تبدو للوهلة الأولى ليست إلا تجمعاً هشاً يضم ممثلين لتيارات سياسية متباينة التوجهات لا يجمعها إلا معارضة نظام الرئيس مبارك ومقاومة التوريث. ولعل تمثيل اليسار مع اليمين والتيار الديني في الحركة خير دليل على أن لا أيديولوجيا تحكم فكر "كفاية". فضلاً عن أن الحركة تظل إلى حد بعيد غير معبرة عن رجل الشارع العادي كون عضويتها تكاد تقتصر على الصفوة والمثقفين. إلى ذلك فالحركة لم تفرز بعد شخصية قيادية متفردة تجعل منها زعيماً سياسيا فذاً تلتف حوله الطبقة الوسطى السفلى السائدة في المجتع المصري، فالوجه الإعلامي للحركة جورج اسحق لا يبدو قائداً مؤهلاً لعدة عوامل لعل أبرزها عامل الديانة.

الحركة الوحيدة التي ربما يعتقد عدد كبير من المصريين بأنها مؤهلة لقيادة مصر في المرحلة الراهنة هي حركة الإخوان المسلمين. فالحركة تكتسب يوماً بعد يوم أرضيات جديدة في الشارع المصري بفعل تأثير توظيف الدين لخدمة أهداف الحركة. رغم أن الحكومة كثيراً ما تعلن أن الحركة محظورة رسمياً، إلا ان أحداً لا يكاد يصدق ذلك، فالحركة لها تمثيل قل نظيره في معظم النقابات العمالية والمهنية والحركات الشعبية والجماهيرية، بل أنها تمثل في البرلمان بعدد 88 نائباً، ما يجعلها تمثل المعارضة الحقيقية للحزب الحاكم. رغم أن الحركة تعد تحدياً حقيقياً لمبادئ العلمانية والمجتمع المدني والحريات والتسامح والوطنية، إلا ان اليأس الذي يبدو أنه قد أصاب غالبية المصريين من حدوث التغيير المنشود في نظام الحكم ومن ثم تحسين مستوى المعيشة قد دفعهم لتصديق الشعارات الزائفة الرنانة للحركة، والبحث عن ضالتهم في الإخوان الذين يحتلون المركز الأخير عن جدارة من حيث قدرتهم على إحداث تطوير حقيقي في حياة المجتمع المصري.

لا شك في ان ترتيب البيت الداخلي للمعارضة المدنية الشرعية يعد الوسيلة المثلى للنظر في قضية خلافة الرئيس مبارك، ولكن ذلك لا يبدو متاحاً في الوقت الراهن بسبب الوضع المخزي الذي صارت إليه أحزاب المعارضة، وهو الوضع التي نجحت حركة الإخوان المسلمين في استغلاله لمصلحتها عن طريق اختراقها لكافة فئات المجتمع المصري، وفرض نفسها كبديل وحيد لنظام الرئيس مبارك ونجله. وإذا ما كانت أزمة أحزاب المعارضة ستظل تلقي بظلالها على النفوذ الذي تمثله في الشارع المصري في الأمد القريب، فإن الصورة ستزداد قتامة يوماً تلو الأخر، لأن الإخوان المسلمين سيستمرون دون كلل أو ملل أو عناء في زرع السموم وحصد المزيد من الجماهير اللاهثة خلف التجديد، لا سيما لو ارتدى ثوب الدين. لذا فإني أرى في المرحلة القادمة دوراً إيجابياً وحيوياً وخطيراً للقوى المدنية الصامتة يتمحور في طرح البديل المناسب للنظام الحاكم وللتيار الديني. وأرى أنه يجب على هذه القوى توحيد طاقاتها وجهودها خلف شخصية مدنية غير حزبية وغير مستهلكة لخوض نزال مع نجل الرئيس ومرشد الإخوان. فمصر لن تفرغ أبداً من أولادها المؤهلين القادرين على تحمل المسئوليات حتى وإن كانت جسام.

جوزيف بشارة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف