أصداء

العقيدة في حياة الإنسان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لعل كل إنسان قد فكر يوما ما بمغزى الحياة، كونه إحدى القضايا "الأزلية" التي تقلق كل إنسان، مهما كان بعيداً عن العلم والفن والسياسة. والإجابة عن هذا السؤال يحدّد موقف الإنسان إزاء العالم الذي يعيش فيه ويعمل، كما يعين المبادئ الذي يمارس نشاطه عملاً بها.
وعند معالجة مسألة مغزى الحياة يقف الإنسان على الدوام أمام الاختيار، فالصورة الخيالية للفارس الواقف في مفترق الطرق لاختيار سبيله هي أحد رموز الاختيار العقائدي. فعلى سبيل المثال ؛ كان لابد من أن يقوم بالاختيار كلّ من جوردان برونو وغاليليو، وتوماس مور وبيير راموس وبريستلي وحسين مروة ومحمود طه وعبد الكريم سروش وغيرهم كثير. وليس القيام بالاختيار أمراً هيناً، فهو يتطلب في كثير من الأحيان الصمود والإرادة والشجاعة.
فما هي، إذن، العقيدة التي ضحى البشر في سبيلها بحياتهم وكافحوا وحقّقوا النصر ؟ إن مفهوم "العقيدة" متعدّد الدلالات. فنحن نتكلم عن عقيدة الفيلسوف والعالِم والكاتب والفنان..الخ، وعن العقيدة الفلسفية والدينية والدارجة.
ويحدّد المفكرين أشكالاً شتى للعقيدة ؛ هي الإحساس بالعالم (تقبّل العالم)، تفسير العالم، فهم العالم. إذ ليس ثمة عقيدة "عمومية". فالعقيدة يحوزها أفراد معينون يقطنون بلداً معيناً، في فترة تاريخية معينة. والعقيدة غير قابلة للانفصال عن نشاط الإنسان، وهي دائماً ملك لشخصية معينة.
وإذا أردنا أن نقدم تعريف علمي لهذا المفهوم، يمكننا القول: إن العقيدة هي منظومة آراء الإنسان في العالم، وفي مكانته في هذا العالم، وهي مجموع قناعات وأفكار الإنسان الدينية والفلسفية والعلمية والأخلاقية والجَمالية.
والعقيدة هي لب الفرد ونواته التي تتجسد فيها مبادئه وأفعاله ومُثله وأهدافه في الحياة. والعقيدة تقوّض في الكثير من الأحيان حياة الفرد الشخصية. كما أن العقيدة ليست جميع الآراء والتصورات عن العالم المحيط، إنما هي التعميم الأقصى لها فقط.
إن الإنسان في نشاطه يميز نفسه عن سواه، ويعي ذاته وأفعاله في العالم. والعالم بالنسبة للإنسان في نشاطه وحركته يبدو وكأنه "ينشطر" إلى قسمين:
الـ "أنا" والـ "لا- أنا"، علماً بأن الإنسان حين يؤثر في الطبيعة ويغيّرها يتغيّر هو نفسه. وفي سياق هذه العملية تبرز علاقة الذات - الموضوع، وتولد الحاجة العقائدية، والمسألة الأساسية للعقيدة، والعقيدة بحد ذاتها.
إن "موضوع" العقيدة ؛ هو ما يحيط بالإنسان، أي الطبيعة والمجتمع والعالم بأسره. أما " ذات" العقيدة ؛ هي من الناحية الفعلية الفرد أو الفئة الاجتماعية.
وللعقيدة مادة بحث ؛ هي علاقة عالم الطبيعة بعالم الإنسان أو - كما يقول الإغريق - بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، أو مفهوم العالم ومفهوم الإنسان.
أما المسألة الأساسية للعقيدة، فهي مسألة علاقة الإنسان بالعالم، حيث أعطى العالم للإنسان لا في حد ذاته، بل في نشاطه وحركته. وهذه المسألة تشمل مسائل أصل العالم وجوهره ومستقبله باعتباره أساس كينونة الإنسان، ومغزى الوجود البشري، وإدراك العالم وإدراك الذات، والخير والشر، والحقيقة والضلال، والعدالة والظلم.. الخ.
ولكن، ما هي العقيدة العلمية، وكيف تتناسب مع العقيدة العادية (الدارجة) ؟ إن العقيدة العادية ( الإحساس بالعالم، تقبّل العالم ) ترتبط بالوعي العادي للوجود البشري. وهي تنشأ على أساس تجربة الإنسان الشخصية. إنها قناعات الإنسان وتصوراته وانفعالاته، كذلك طروحاته عن العالم التي تنشأ بشكل عفوي.
وفي العقيدة العادية يسترشد المرء باحتياجات واهتمامات اليوم الراهن، ويتصرّف بلا مبادئ مدركة، ولا يضع أمام نفسه أهدافاً تتعلّق بمغزى الحياة، ولا يراجع المُثل العليا. إذ ليس كل فرد يحوز عقيدة علمية (فهماً علمياً للعالم)، ذلك أنها تتطلب توفر المعارف وسعة الإطلاع والثقافة العامة، وإيمان الإنسان بصواب مُثله وأهدافه.
وإذا كانت العقيدة تشكل نواة الشخصية، فإن العقيدة العلمية هي "نواة في النواة". كما أن العقيدة العلمية هي منظومة الآراء المادية في العالم، وفي مكانة الإنسان في هذا العالم، منظومة القوانين الأعم والأشمل لتطوّر التفكير والطبيعة والمجتمع.
ثمة دور خاص للفلسفة في تكوين العقيدة. فلماذا تشغل الفلسفة مكانة خاصة في العقيدة ؟ إن الفلسفة ترتبط أوثق ارتباط بمختلف ظواهر الحياة الاجتماعية، وتؤثر في الصراع السياسي والنشاط العلمي، في الحركات الدينية والإبداع الفني، وتترك بصماتها على العصر وعلى الفرد. وإذ تعالج الفلسفة مهمات التعليل النظري للعالم ومكانة الإنسان فيه، إنما تكوّن الأساس النظري للعقيدة، كونها فهماً للعالم.
والفلسفة علم عقائدي، ذلك أن مسألة العالم وسمته النهائية واللانهائية، ومكانة الإنسان فيه، وإمكانية معرفة كنه العالم، هي المسألة الأساسية للفلسفة.
ينبغي تأكيد أن ثمة أهمية عقائدية مبدئية تكتسبها في عصور تاريخية معينة مسائل تغيرت بفعل حلّها تصورات البشر عن لوحة العالم. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من بين هذه المسائل تعاليم كوبرنيكوس (ت 1543) عن بنية المجموعة الشمسية، وفي القرن التاسع عشر نظرية تشارلز دارون (ت 1882) الارتقائية عن أصل الأنواع، وفي القرن العشرين اكتشاف العالم "المجهري" ألبرت اينشتاين (ت 1955) النظرية النسبية.
إن تطوّر المعارف يوسّع ويعمّق تصورات الإنسان عن العالم، ويغير فهمه للعالم بمنحه توجهات جديدة في نشاطه. ولكن ليس هناك علم محدَّد يشكّل عقيدة بحد ذاته، رغم أن كل علم من العلوم يتطوّر بمساعدة العقيدة.
إن عقيدة الشخص هي مقدار فهمه لعلاقاته مع الحياة (الطبيعة) والمجتمع، وإدراكه لمكانته فيه، علماً بأن فهمه للعالم قد يندمج بإحساسه به. وفي العقيدة ثمة "حضور" دائم للذات وموقفها الحياتي الذي لا ينفصل عن نشاطها، وفكرتها الأساسية المعنوية ومشاعرها ومعاناتها.
وكما أسلفنا، فإن العقيدة قد تكون عادية (عفوية، ساذجة) وقد تكون معلّلة نظرياً ومفعمة بمبادئ فلسفية معينة.
بيد أن العقيدة لا تولد مع الإنسان، بل تُربّى وتكوّن لديه. وفي سياق تربية الشخصية اجتماعياً تتحوّل الثقافة الروحية التي تستوعبها من مجموع معارف عن العالم إلى برنامج لسلوكها الاجتماعي، وبالتالي لسلوكها الشخصي.
وتتحوّل معارف الشخص، كونها عاملاً لسلوكه بالذات، إلى قناعات لديه. وبفضل ذلك تؤثر العقيدة تأثيراً فعالاً بالغ الشدة في الحياة، وفي جميع جوانب نشاط الإنسان المعرفي والعملي.

عقيل يوسف عيدان
ayemh@yahoo.com
* باحث وكاتب كويتي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف