أصداء

في الطائفية السياسية والاجتماعية 3-4

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

3-4

كان ما سبق وصفاً للجوانب السياسية لقضية التعصب الطائفي قبل نشوء الدولة الحديثة في العراق. أما على المستوى الاجتماعي في تلك المرحلة، فقد كان الإسلام في العراق قوة فصل أكثر منه قوة دمج، إذ أنه أقام انشقاقاً حاداً بين الشيعة والسنة. ونادراً ما اختلط هؤلاء وأولئك اجتماعياً، على الأقل في بدايات القرن السابق وقبيل تأسيس الدولة الحديثة وما بعدها. وكقاعدةٍ عامة لم يكن هنالك أي تزاوج بينهما. وكانوا، حتى في المدن المختلطة، يعيشون في أحياء منفصلة، حيث لكل منهم حياته. وكانت الحكومة العثمانية التي تقود المسلمين السنة، تعدُّ بالنسبة للشيعة المتشددين مغتصبة للسلطة. وفي رأي هؤلاء لم تكن هذه الحكومة تملك حتى مؤهلات تطبيق قوانين الإسلام، ولذلك فقد كانوا يشعرون بالاغتراب عنها، وكان قليل منهم يبالي بالخدمة فيها أو الذهاب إلى مدارسها().
ثم نشأت الدولة الحديثة في العراق، بعد الاحتلال البريطاني للعراق، واضطر الشيعة للتأقلم معها. فكان الملك فيصل الأول عاهل العراق سنياً ولو من أهل البيت، وغلبت الأصول العثمانية على أكثرية المحيطين بـه. كان الشيعة في العراق أسرى إقصائهم التاريخي عن السلطة. لكن إقصائهم عن السلطة لم يتخذ يوماً شكلاً مطلقاً. بل حاولت العصبيات المهيمنة إشراك بعضهم في صورة شكلية أو حقيقية حسب الظروف.
وقد اتخذ الإنكليز موقفاً سلبياً واضحاً من إشراك الشيعة في الحكم بفعل عوامل ومؤثرات عدة، أولها موقفهم المتشكك والحذر تجاه المؤسسة الدينية الشيعية، والعشائر التي تتأثر بفتاوى هذه المؤسسة، والدعوة التي تبنتها بالجهاد ضدهم إلى جانب العثمانيين المسلمين، عكس ما بادر إليه الكثير منزعامات السنة والضباط العراقيين في الجيش العثماني من دعاة تأسيس دولة عربية، ممن عملوا ضمن تنظيمات سرية وعلنية معادية للسيطرة العثمانية وإسنادهم لثورة الشريف الحسين بن علي ضدها، ثم ما أعقب ذلك من كون الشيعة كانوا القوة الرئيسية في ثورة العشرين ووقائعها، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن تأسيس الدولة الحديثة اعتمد على بطانة وأتباع فيصل بن الحسين وجلّهم من الضباط من عرب الوسط السنة، كذلك فإن الكادرالإداري الذي كان متاحاً من (الأفندية) من بقايا الإدارة العثمانية كان في معظمه من السنة المتعلمين من مدن شمال وغرب العراق، لأنهم الأكثر تهيؤاً آنذاك من ناحية مستواهم التعليمي، والأكثر رغبة واندفاعاً، بالمقارنة مع ندرة أشباههم من وسط وجنوب العراق، وعزوف القلة المتعلمة وعدم رغبتها بالانضمام لإطار الدولة الجديدة، استنكافاً أو إذعاناً لموقف المؤسسة الدينية الشيعية، خصوصاً في البداية. أما بعد ذلك فقد لعبت الصلات القرابية والتكتلات على أساس المناطق دورها في تقليل الفرص المتاحة أماممنافسيهم وإفساحها أمام من يرتبط بهم وهو عامل طبيعي تماماً في الظروف التاريخية التي يعيشها العراق ولم يكن يحمل، ابتداءً، في ثناياه أي عداء أو قصد اجتماعي، إنما نجم ذلك عنه لاحقاً كنتيجة، فالموظف من بلدة (عانة) مثلاً، كان يشعر بالرغبة، بل والواجب في أن يتيح الفرصة أو الشاغر الوظيفي أو التعليمي لابن بلدته(عانه)، بدلاً من ابن بلدة (راوه) القريبة، أو سامراء البعيدة، فما بالك بإبن (الناصرية) أو (البصرة) ونحن بإزاء رابطة وصيرورة فتيةهي الرابطة الوطنية! ().
وكان لابد للعراق، بحكم موقعه من أن يكون ساحة صراع بين العثمانيين والفرس، كما سبقت الإشارة، وقد انعكس ذلك على طبيعة الصراعات الاجتماعية خلال قرون، أما بعد تأسيس الدولة الحديثة فقد تجلى تأثير الصراع بين العثمانيين والفرس في العراق: فالتأثير الإيراني من خلال المؤسسة الدينية الشيعية نظراً للتوافق المذهبي، مما كان يثير باستمرار حفيظة العرب السنة واتهامهم للشيعة بالتبعية الإيرانية من جهة، وتأثير المحيط العربي الذي قام دائماً للأسف على أساس شك وسوء فهم أنتج باستمرار مواقف عدائية تجاه العرب الشيعة وبالتالي اتجاه غالبية المجتمع في العراق. وقد ولدَّت هذه المواقف بالنتيجة شكوكاً قوية لدى الشيعة، وحذراًمبرراً إزاء دعاوى القومية العربية والنظام العربي عموماً، والذي برهن ويبرهن حتى الآن على انه جدير بهذه المخاوف والشكوك، وانه يتعامل مع العراقيين فعلاً على أسس طائفية().
إن حدة الانقسام الطائفي تزداد في مدينة بغداد وديالى وكركوك والموصل وتكريت، وإذا ما كانت المدن الأخيرة ذات غالبية سنيّة، فإن العاصمة بغداد تسكنها غالبية شيعية. وقد كانت التركيبة الديموغرافية للعاصمة قد تغيرت مع تكون الدولة العراقية. إذ شجع نمو العاصمة وما توفره من خدمات وفرص ثمينة في ذلك الزمان، قياساً إلى واقع الحياة في أجزاء البلاد الأخرى، وحفز الهجرة والنزوح إليها وكانت مناطق شمال وغرب العراق هي السباقة في ذلك حيث استلزم الطلب على الموظفين والعسكريين وغيرهم أن يهاجر هؤلاء وعوائلهم وأقاربهم، ممن بات يحلم بفرصة في بغداد إليها وفضلوا السكن في جهة النهر القريبة من مواطن نزوحهم في كرخ بغداد وتكتلوا في أحياء على أساس قرابة الدم أو منطقة الانحدار الجغرافي(). لقد ساهم هذا الأمر بعد ذلك في تفعيل مشاعر الانتماء الثانوي على أسس المناطقية أو العشائرية، وهذا أمر طبيعي، وسهلَّ قيام الروابط والتنظيمات السياسية على أساس هذه الصلات، وهو أمر حصل ولا زال يحصل في معظم أنحاء العراق، حيث غالباً ما تشمل دائرة التأثير السياسي العائلة والأقارب، بفعل مستوى التطور التاريخي للمجتمع العراقي، حيث عمق تأثير الرابطة القرابية، وندرة أن يتحدد الوعي السياسي على أساس الخيار والتجربة الذاتية.
أما المصدر الثاني للهجرة والذي تلى ذلك من ناحية التوقيت فهو جنوب وجنوب شرق العراق، فتحت ضغط علاقات الملكية المشوهة شبه الإقطاعية وأساليبها البالية والخراب الاقتصادي والفاقة، هاجر مئات الألوف من فلاحي الجنوب ومعدميه إلى بغداد وبعض المدن، وقد نالت العاصمة حصة الأسد منهم، وسكنوا في بيوت من التنك وصرائف الطين والقصب في تجمعات تتاخم العاصمة، كانت تفتقر إلى أي من مستلزمات السكن والاجتماع الإنساني اللائق بل وحتى الضروري().

الحلقة الثانية

د. علي وتوت
باحث في سوسيولوجيا السياسة
witwitali@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف