أصداء

عراق ما قبل إنقلاب 14 تموز وما بعده

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كثُر الحديث في هذه الأيام وكما هو الحال في شهر تموز من كل عام حول إنقلاب 14 تموز 1958 في العراق الذي تم فيه وعن طريق الإنقلاب العسكري إسقاط النظام الملكي وإستبداله بنظام حكم جمهوري إستمر العمل به في العراق حتى 9 نيسان 2003.. ففي مطلع تموز من كل سنة يتم تناول هذا الحدث من قبل العديد من الكتاّب العراقيين بل وحتى العرب الذين لايزال بعض منهم يراه و وفقاً لمنطلقات عاطفية وآيديولوجية سعيداً في حين بدأ البعض الآخر يراه تعيساً بل ومشؤوماً بعد أن خبر الحياة وبدأ ينظر الى الأمور بمنظار الباحث المثقف المحايد المتفحص الناقد لنفسه ولقناعاته السياسية قبل نقده للآخرين ومعتقداتهم لا بمنظار المثقف المؤدلَج المسَيّس المؤمن بصواب فكرة ومفهوم الشرعية الثورية التي خالفت بممارساتها البشعة كل الشرائع الإنسانية والسماوية وأعاقت بافكارها وأساليبها الشمولية البوليسية تطور الكثير من المجتمعات الإنسانية لقرن من الزمان كالمجتمع العراقي والمجتمع المصري والكثير من مجتمعات دول أوروبا الشرقية

إن السبب في تناول إنقلاب 14 تموز بالنقاش و وضعه على طاولة البحث من قبل المثقفين الآن وفي كل عام هو خطورة ما جرى في ذلك اليوم الذي أراه ويراه كثيرون غيري وسنظل نراه من أكثر الأيام شؤماً في تأريخ العراق فما أفرزه من ظواهر سلبية في المجتمع العراقي كانت السبب في ما وصل اليه العراق الآن من هَوان في حين كان من المفترض أن يكون العراق اليوم وبحكم أمكاناته المادية والطبيعية والبشرية واحداً من أفضل الدول أن لم يكن في العالم فعلى الأقل في منطقة الشرق الأوسط بدليل قول الكاتب بيتر مانسفيلد في كتابه ( العرب ) " لولا هذا الإنقلاب لسار العراق في طريق التقدم ولقدر له أن يكون كالسويد عند نهاية القرن العشرين ".

ففي يوم 14 تموز 1958 مزقت حراب بنادق العسكر أول وآخر دستور دائم عرفه تاريخ العراق الحديث منذ تأسيسه في 1920 وحتى إحتلاله في 2003.. فمنذ 1958 وحتى 2003 لم تقم ولا حكومة واحدة من 5 حكومات جمهورية في العراق بِسَن دستور دائم للبلاد تُشرّع على أساسه القوانين التي تنظم حياة الناس الذين بقوا طيلة هذه الفترة رهائن بيد شِلل من العسكر وبعض المدنيين كانت تسطوا بين الحين والآخر على السلطة متى ما أرادت كما كانت مصائر الناس مرتبطة بجرة قلم تخطها يد الزعيم الأوحد أو الأب القائد أو القائد الضرورة وغيرها من المسميات التي أطلقت على أناس طارئين على مهنة السياسة والسلطة ألا أنهم وفي غفلة من الزمن وبفضل الشرعية الثورية أصبحوا رؤساء وقادة لأعرق شعب من شعوب العالم قاطبة

وقبل 1958 أي في العهد الملكي كانت المعارضة البرلمانية تمثل قوة ضغط ومحاسبة يَحسِب لها مسؤولوا ذلك العهد ألف حساب أما في العهد الجمهوري فقد اصبحت كلمة المعارضة سبة ثم جريمة تذهب بصاحبها الى ساحة الأعدام بوصفه خائنا للزعيم الأوحد والقائد الضرورة والحزب القائد.. كما كان واقع الحال داخل أروقة البرلمان العراقي أيام العهد الملكي يختلف كلياً عن الصورة المشوهة التي رسمتها له أحزاب ذلك العهد القومية واليسارية في أذهان الناس في الوقت الذي كانت فيه هذه الأحزاب نفسها لا تنطق ببنت شفة وتتغاضى عن القمع والديكتاتورية التي كانت تنتهجها دول كانت هذه الأحزاب تعتبرها نماذجاً تحتذى في الحكم كما هو حال الأحزاب اليسارية في تعاملها مع نظام ستالين الديكتاتوري الشمولي والأحزاب القومية في تعاملها مع نظام عبد الناصر الديكتاتوري العنصري.. فوجود نخبة حاكمة كانت تتصارع وتتنازع داخل قبة البرلمان في العهد الملكي دفاعاً عما كان يراه كل طرف منها مصالح الشعب العراقي أمر يسجل لعراقيي ذلك الزمن ويحسب على عراقيي هذا الزمن ممن عجزوا طوال السنوات الثلاثة الماضية عن الوصول الى حد أدنى من التوافق فيما بينهم

كما أن الإنتخابات التي كانت تجري في ذلك العهد لإختيار الحكومات كانت سلبياتها التي لا تُنكر أفضل بكثير من الإستفتائات الصورية التي كانت تجري للزعيم الأوحد والقائد الضرورة في العهود الجمهورية التي سبقت 9 نيسان وأكثر نضجاً وشفافية ونزاهة ومصداقية بكثير من الإنتخابات التي تجري في هذه الأيام.. فالمجتمع العراقي لم يكن حينها منقسماً الى كانتونات طائفية وإثنية ولم تكن القوائم الإنتخابية مقسمة طائفياً وقومياً كما رأينا في الإنتخابات الأخيرة أي بمعنى آخر لم يكن الإستقطاب الطائفي والقومي الذي ينخر اليوم في جسد الدولة العراقية موجوداً في ذلك الوقت فالسني كان يصوت للشيعي والعكس والكردي كان يصوت للعربي والعكس والمسلم كان يصوت للمسيحي والصابئي واليزيدي والعكس أما اليوم فكل طائفة وقومية متقوقعة على نفسها حيث لها قوائمها الإنتخابية الخاصة بهذه الطائفة أو بتلك القومية التي تضع نصب عينيها النظر في مصلحة الطائفة والقومية قبل النظر في مصلحة العراق ككل وهذا ما لم يكن موجوداً البتة لا في مجتمع ذلك الزمان ولا في سياسييه الذين لا نجد الاّ قلة تشبههم في هذا الزمان وهم مُحارَبون اليوم بكل معنى الكلمة لأنهم يسبحون عكس التيار بل أن البعض يعمل على تشويه صورتهم أمام أنظار عوام العراقيين يوماً بعد يوم.

وبعد أن كانت الصحف في العهد الملكي تنشر لكل الأقلام حتى تلك التي كانت تنال من شخص الملك وولي العهد ورئيس الوزراء أصبحت الصحف في العهود الجمهورية تنشر لقلم واحد فقط وهو القلم الذي يُمجِّد الحزب الحاكم والزعيم الأوحد والقائد الضرورة.. وبعد أن كان المطرب العراقي يتجه نحو دار التلفزيون ليذيع أغنيته التي تهجو وتنال من الحكومة على الهواء ومعه بطانيته تحسباً لمداهمة الشرطة له وإقتياده الى السجن أصبحنا نرى بعض المطربين العراقيين يتغنون ويتغزلون بشخص الزعيم الأوحد والقائد الضرورة.. وبعد أن كانت المظاهرات تخرج في العهد الملكي لمهاجمة الحكومة وإنتقادها ومطالبتها بإجراء إصلاحات دستورية أو إجتماعية أو إقتصادية أو بالتراجع عن قرار قد أتخذته هذه الحكومة كما حدث مع معاهدة بورتسموث التي أبرمتها الحكومة آنذاك مع بريطانيا ثم تراجعت عنها بسبب ضغط الشارع الغير واعي والمدفوع آنذاك بشعارات القومية والبروليتاريا الفارغة تلاشت هذه المظاهرات بشكل كامل ونهائي ثم ألغيت نهائياً بقرارات رسمية في العهد الجمهوري وجائنا ذلك العهد الأسود بتقليعة جديدة من تقليعات الموجة اليسارية والقومية إسمها المسيرات كان يتغنى منظموها والمشاركون فيها بالأب القائد والقائد الضرورة والزعيم الأوحد ويدعونه علناً الى قتل وسحل وإعدام معارضيه بل وصل الحد ببعضهم الى حد رفع شعارات كانت تدعوا الى ما يشبه تأليه رئيس الدولة وتأيده على أدخاله البلاد والعباد في حروب ومواجهات خاسرة مع الآخرين كان حطبها المشاركون في هذه المسيرات وأبنائهم

لقد قضى العهد الجمهوري بحكوماته الديكتاتورية الشمولية المتعاقبة على الديموقراطية التي كانت وليداً سليماً معافى في عراق العهد الملكي وداست بساطيل العسكر الذين ترأسوا تلك الحكومات على بذور الديمقراطية التي بدأت تؤتي ثمارها في نهايات ذلك العهد.. فقد بات العراق يحكم في العهد الجمهوري من ثكنات الجيش وأقبية المؤامرات بدلاً من مؤسسات الحكم الدستورية التي أقامها رجال العهد الملكي بعقولهم الواعية وأصبحت الديموقراطية سُبّة في العهد الجمهوري بعد أن كانت محور نضال المخلصين والشرفاء في العهد الملكي.. وفي الوقت الذي تمكنت فيه حكومات العهد الملكي من وضع اللبنات الأولى لديموقراطية صحيحة في العراق كانت ستؤتي ثمارها في هذا الوقت الذي نعيشه اليوم جائت الجمهورية وحكوماتها لتقضي على هذا الأنجاز العظيم لرجال ذلك العهد ولتدخلنا في عهود ديكتاتورية باتت مضرباً للمثل في جميع أنحاء العالم مما حدى بأربعين دولة وعلى رأسها أمريكا الى التدخل لأنهاء هذه الماساة التي يعيشها العراقيون منذ أربعة عقود وليعود العراق محتلاً كما كان منذ قرن من الزمان ولتبدأ مرحلة بناء جديدة للديموقراطية ولكنها للأسف ديموقراطية مريضة مشوهة كسيحة محكوم عليها بالفشل كونها تبنى على أنقاض ما خلفته تلك الجمهوريات من تشويه للمجتمع العراقي لم ولن نجني منها سوى فوضى مدمرة للعراق وتمزيق لأرضه ونسيجه الإجتماعي

لقد كان عراق ما قبل إنقلاب 14 تموز 1958 أي عراق العهد الملكي ( الرجعي ! ) عراق الود والمحبة والتآلف والسلام.. عراق الدستور والبرلمان والإنتخابات والقانون وتداول السلطة.. عراق المجتمع المدني والحريات الخاصة والعامة.. عراق الإنفتاح والتقدم والإزدهار والحرية والتقدمية والمدنية.. عراق راقٍ بجميع ملامحه بإسمه وبجغرافيته وبفنّه وبثقافته وبمجتمعه وبنظامه السياسي وبسياسييه.. أما عراق ما بعد إنقلاب 14 تموز 1958 أي عراق الجمهوريات ( الثورية ! ) فواقعه هو الذي ترونه وتسمعون عنه اليوم والذي يمثل حصيلة ( إنجازات ! ) العهود الجمهورية المشؤومة.. عراق مخرب ومهدم ومشوه ومحطم لم يبق من ملامحه العظيمة العملاقة الجبارة سوى الإسم وربما هو أيضاً الى زوال لاسمح الله.

لذا فأن إستمرار إقرار الحكومة الحالية وبعض القوى السياسية التي تدّعي اليوم الديموقراطية بأعتبار يوم 14 تموز مناسبةً وعيداً وطنياً يعد خطأً جسيماً بل جريمة بحق العراق والشعب العراقي نتمنى أن تكون هفوة يسارع الى تداركها السياسيون.. وبالتالي فخلاف ذلك يستدعي أن نقرع نواقيس الخطر من أفكار ونزعات وآيديولوجيات لاتزال عالقة في عقول البعض ممن إدعوا الى حين بأنهم من دعاة الديموقراطية والمجتمع المدني اللذان كانا من أهم ملامح وميّزات العهد الملكي ولم يتركا العراق الى غير رجعة سوى عندما أجهزت عليهما بنادق ودبابات ذلك الإنقلاب المشؤوم الذي لايزالون يطبلون ويزمرون له

مصطفى القرة داغي

karadachi@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف