أصداء

داعية اللاعنف المهاتما غاندي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كلما دقت طبول الحرب وارتفعت فرقعات السلاح في أرجاء المعمورة ووقعت حوادث العنف والقتل والإرهاب تذكرنا سيرة داعية السلام غاندي الذي دخل ميدان السياسة بسلاح الصدق والإخلاص والوضوح واللاعنف من أجل تحرير بلاده من الاستعمار الانكليزي.و ما أحوجنا اليوم إلى رجل من طرازه. قد يستغرب البعض ويراني متفائلا جدا أو غير واقعي إن قلت إن زمن الحرب قد ولى ومصير المؤسسة العسكرية إلى زوال.وان مسلمة كلاوسفيتز القديمة في فن الحرب قد طواها الزمن. إن الحرب لا عقلانية ولم تهدأ وتضع أوزارها إلا بين الكبار، ليس بسبب أخلاقي بل بسبب تطور آلة الحرب التي تجاوزت حجم مليون ديناصور.والسؤال الكبير والمحير هو لماذا الحرب؟ كيف يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ كيف نشأت الحرب وتطورت؟ ماهي جذور العنف والحرب؟ أين وصلت اليوم ؟ما مصيرها في المستقبل؟. عندما اختلف ولدا آدم وقال أحدهما للآخر لن أحل المشكلة بالقتل ولو قتلتني أنت (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين). وقال الثاني سوف أدمرك (لأقتلنك). بعد ذلك نشأ مذهبان في التاريخ لحل المشكلات من يؤمن بالقتل ومن يؤمن بالسلام.

والصراع الأساسي الجاري الآن هو بين الحضارة والهمجية وبين التسامح الديني والتعصب الأعمى، وبين الأنظمة الديمقراطية والاستبداد السياسي، وبكلمة أخرى بين من يؤمن بالقتل حلا للمشكلات ومن يؤمن بالسلام.ولهذا نقول لا يوجد صراع حضارات مختلفة ولكن صراع بين الحضارة الإنسانية والكونية من ناحية وبين الجهالات الحاقدة على التقدم البشري من ناحية أخرى. وأجمل ما في سيرة داعية السلام الهندي المهاتما غاندي أنه قام بالتطبيق الميداني لفلسفة اللاعنف واستطاع في النهاية أن يهزم أعظم إمبراطورية على وجه الأرض وبكلفة قليلة ويحقق استقلال الهند. لقد سمى غاندي فكرة اللاعنف قوة الحقيقة ويرى غاندي أن فكر اللاعنف يقوم على مبدأ "قوة الحق". والحق لا يحتاج لأسلحة وعضلات، فطبيعة الحق قوية، وطبيعة الباطل ضعيفة ومن يؤمن بذلك ليس بحاجة إلى قتل الباطل وإنما إلى توضيح الحق. وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وأما الكتب والمؤلفات التي تأثر بها غاندي فهي ( نشيد الطوباوي) وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعا أساسيا يستلهم منه أفكاره.و ( موعظة الجبل ) في الإنجيل، وكتاب ( حتى الرجل الأخير ) للفيلسوف الإنجليزي (جون راسكين)، وكتاب ( الخلاص في أنفسكم )، للأديب الروسي الشهير (تولستوي) وأخيرا كتاب الشاعر الأميركي ( هنري ديفد تورو ) ( العصيان المدني ). ويبدو كذلك تأثر غاندي بالبراهمانية التي هي عبارة عن ممارسة يومية ودائمة تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك وعن طريق الطعام واللباس والصيام والطهارة والصلاة والخشوع والتزام الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع.. وعبر هذه الممارسة يتوصل الإنسان إلى تحرير ذاته قبل أن يستحق تحرير الآخرين. ولد غاندي في عائلة محافظة لها باع طويل في العمل السياسي.و عاش طفولة عادية ثم تزوج حسب التقاليد السائدة وله من زواجه هذا أربعة أولاد. سافر غاندي إلى بريطانيا لدراسة القانون وحصل على شهادة جامعية تخوله ممارسة مهنة المحاماة.وبعد ذلك عاد إلى الهند و لما لم يجد فرصة عمل في الهند ذهب إلى جنوب افريقيا عام 1893 بعد أن تلقى عرض للعمل من مكتب للمحاماة بجنوب افريقيا التي كانت يومها مستعمرة بريطانيا حيث عاش فيها22 عاما وتعتبر تلك الفترة التي قضاها بجنوب أفريقيا من أهم مراحل تطوره الفكري والسياسي، واختبر هناك أسلوبا في العمل السياسي أثبت فعاليته ضد الاستعمار البريطاني. و قد تكللت جهوده آنذاك بالثمار اليانعة في ميادين شتى نذكر منها:

إنشاء صحيفة "الرأي الهندي" التي كان يدعو عبرها إلى فلسفة اللاعنف.

تأسيس حزب "المؤتمر الهندي لنتال" ليدافع عبره عن حقوق العمال الهنود.

إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة وتخليصهم من عقد الخوف والنقص ورفع مستواهم الأخلاقي

محاربة قانون كان يحرم الهنود من حق التصويت.

تغيير ما كان يعرف بـ"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على الهنود تسجيل أنفسهم في سجلات خاصة.

مكافحة قانون إلغاء عقود الزواج غير المسيحية.

عاد غاندي إلى الهند عام 1915، و أصبح الزعيم الهندي الأكثر شعبية في غضون سنوات قليلة. وقد ركز عمله العام على النضال ضد الظلم الاجتماعي من جهة وضد الاستعمار من جهة أخرى. تميزت مواقف غاندي من الاحتلال البريطاني بالصلابة المبدئية التي لا تلغي أحيانا المرونة التكتيكية، فقد تعاون غاندي مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ضد دول المحور، وشارك عام 1918 بناء على طلب من الحاكم البريطاني في الهند بمؤتمر دلهي الحربي، ثم انتقل للمعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 1918 و1922 وطالب خلال تلك الفترة بالاستقلال التام للهند. وفي عام 1922 قاد حركة عصيان مدني صعدت من الغضب الشعبي الذي وصل في بعض الأحيان إلى صدام بين الجماهير وقوات الأمن والشرطة البريطانية مما دفعه إلى إيقاف هذه الحركة، ورغم ذلك حكمت عليه السلطات البريطانية بالسجن ست سنوات ثم عادت وأفرجت عنه في عام 1924. وفي يوم قامت المظاهرات في وجه بريطانيا من كل جانب واشترك فيها المسلمون والسيخ والهندوس ثم حدثت مظاهر عنف وقتل للشرطة فأعلن غاندي الصيام، فجاءه نهرو وهو لا يصدق، وسأله هل تريد منا إيقاف المظاهرات وقد عمت كل البلد وليس بيننا وبين طرد بريطانيا إلا شعرة؟ قال غاندي ليس المهم طرد بريطانيا بل طرد الشيطان من قلوبكم، وليس المهم أن يتظاهر الناس ولكن كيف يتظاهرون سلميا بدون قتل؟ واعتبر (نهرو) يومها أن هذا سذاجة في علم السياسة. ولكن غاندي اعتبر أن اجتماع الناس لا يعني شيئا بل كيف يجتمعون؟ وطلب من (نهرو) فك المظاهرات واستمر في الصيام حتى توقفت المظاهرات. ثم طلب (غاندي) أن يعتذر المتظاهرون علنا لمركز الشرطة وطلب الصفح وتقديم التعويض عما حدث!. ولقد تحدى غاندي القوانين البريطانية التي كانت تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية، وقاد مسيرة شعبية توجه بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك، وفي عام 1931 أنهى هذا العصيان بعد توصل الطرفين إلى حل وسط ووقعت "معاهدة دلهي". قرر غاندي في عام 1934 الاستقالة من حزب المؤتمر والتفرغ للمشكلات الاقتصادية التي كان يعاني منها الريف الهندي. وفي عام 1937 شجع الحزب على المشاركة في الانتخابات معتبرا أن دستور عام 1935 يشكل ضمانة كافية وحدا أدنى من المصداقية والحياد. وفي عام 1940 عاد إلى حملات العصيان مرة أخرى فأطلق حملة جديدة احتجاجا على إعلان بريطانيا الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تنال استقلالها، واستمر هذا العصيان حتى عام 1941 كانت بريطانيا خلالها مشغولة بالحرب العالمية الثانية ويهمها استتباب أوضاع الهند حتى تكون لها عونا في المجهود الحربي. وإزاء الخطر الياباني المحدق حاولت السلطات البريطانية المصالحة مع الحركة الاستقلالية الهندية فأرسلت في عام 1942 بعثة عرفت باسم "بعثة كريبس" ولكنها فشلت في مسعاها، وعلى أثر ذلك قبل غاندي في عام 1943 ولأول مرة فكرة دخول الهند في حرب شاملة ضد دول المحور على أمل نيل استقلالها بعد ذلك، وخاطب الإنجليز بجملته الشهيرة "اتركوا الهند وأنتم أسياد"، لكن هذا الخطاب لم يعجب السلطات البريطانية فشنت حملة اعتقالات ومارست ألوانا من القمع العنيف كان غاندي نفسه من ضحاياه حيث ظل معتقلا خلف قضبان السجن ولم يفرج عنه إلا في عام 1944. بانتهاء عام 1944 وبداية عام 1945 اقتربت الهند من الاستقلال وتزايدت المخاوف من الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيمها إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وحاول غاندي إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل.وتم ذلك بالفعل في 16 أغسطس/آب 1947، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية عموم الهند وبلغت من العنف حدا تجاوز كل التوقعات فسقط في كلكتا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف قتيل. وقد تألم غاندي لهذه الأحداث واعتبرها كارثة وطنية، كما زاد من ألمه تصاعد حدة التوتر بين الهند وباكستان بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/1948وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالبا بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة. وفي يوم واجه "غاندي" انفجار العنف بين الهندوس والمسلمين في "كلكتا"، وسالت الدماء، فأعلن غاندي "الصيام". حتى إذا شارف على الموت، دخل عليه رجل مفجوع بولده وألقى إليه بقطعة خبز وقال له: كل حتى لا أكون سببا في موتك. تابع: هل تعلم ماذا فعلوا بابني؟ لقد قتلوه. وأنا قتلت من قتل ابني؟ نظر إليه غاندي برحمة وهو بالكاد يفتح عينيه من الإعياء وقال له: هل أدلك على ما هو أفضل مما فعلت فيأخذك إلى الجنة؟ أن تأخذ الولد الذي قتلت أباه فتربيه على الدين الذي كان أباه يريد أن ينشئه عليه. اغرورقت عينا الرجل بالدموع، وانكب على قدمي غاندي فقبلهما. وهنا كانت مظاهر العنف قد توقفت في كلكتا، وهدأ الناس عن ذبح بعضهم بعضا، فقال غاندي لمن حوله: أعطوني كأسا من الليمون. بعدها بقليل، قرر غاندي أن يزور باكستان وهو يقول، سوف أكشف عن الشيطان الموجود في قلوب الهندوس والمسلمين معا. لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها داعية السلام المهاتما غاندي صريعا عن عمر يناهز 79 عاما. وهكذا قدر لداعية اللاعنف أن يموت على يد العنف والبذرة التي يقدر لها أن تنبت تدفن في التراب كما تقول الحكمة. والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

صبحي درويش

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف