أصداء

سيكولوجية العنف وضرورة بناء ثقافة اللاعنف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إن مسألة العنف واللاعنف مسألة وجودية وقد كان أول تساؤل وجهته الملائكة إلى الله سبحانه لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود الإنسان القاتل على الأرض ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ).فلم تقل أتجعل فيها من يكفر بك بل أتجعل فيها من يفسد ويقتل ويسفك الدماء؟؟.إن ظاهرة العنف قديمة جدا وأول جريمة قتل حدثت على الأرض كانت بين ولدي آدم والجميع يعرف قصة قابيل الذي قتل أخاه هابيل والحوار الذي دار بينهما. ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين.لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ).

ومن هذه القصة نشأ تلقائيا مذهبان في التاريخ لحل المشاكل: مذهب يِؤمن بالقتل والحرب ويهدد ويقتل. ومذهب يؤمن بالحوار والسلام و لا يهدد، ولا يخاف من التهديد، ولا يمد يده بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل وهذا يعني أن مسألة العنف اللاعنف هي مسألة التاريخ. في الواقع ان البحث في ظاهرة العنف الإنساني ليس سهلا لذا كان من المناسب.لفهم هذه الظاهرة وتفكيكها أن نعتمد على أدوات بحث معرفية تستفيد من حزمة من العلوم المعاصرة، مثل علوم النفس والاجتماع والتاريخ والتكنولوجيا والانثروبولوجيا(علم الإنسان ). والسؤال الهام الآن هو : هل العنف بيولوجي أم ثقافة؟؟.

في الواقع ان الإنسان كائن محير وشديد التعقيد وكل فرد هو مجموع من الصفات المتناقضة والمتداخلة وهي صفات تتناوب في الظهور.وحسب فرويد فان الإنسان تتنازعه غريزتا الحياة والموت.أما الماركسية فقد اعتبرت العنف شيء طبيعي بسبب الصراع الطبقي ودعت إلى العنف الثوري ورأت في العنف وسيلة وحيدة لهدم البنى القديمة كما جاء في البيان الشيوعي وطبقه ستالين بموت عشرين مليون إنسان. وأما دارون فرأى أن صراع البقاء يقوم على العنف، والطبيعة تظهر لنا أن القوي يأكل الضعيف.وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي يرى أن العقل لا يبحث عن الحق كما يزعم، بل لا يزيد عن آلة لصراع البقاء، مثل الأنياب للسبع والقرون للثور والناب للأفعى.وحسب مالتوس فان تكاثر السكان الهندسي لا يوازيه تكاثر الغذاء الحسابي والحرب والمجاعات هي في النهاية تحصيل حاصل، ولذا فالعنف عنصر أساسي في الاقتصاد الإنساني. ومن يطالع التاريخ يصل إلى إحصائية مخيفة تقول: أن كل 13 سنة من التاريخ سادت فيها الحرب يقابلها سنة واحدة من السلام، كما اكتشفها غاستون بوتول الذي درس ظاهرة الحرب. إن العنف جنون، والحرب قمة الجنون. وأما بيير فيو فيقول: (العنف ليس حادثا عابرا مؤسفا من حوادث السلوك الإنساني، بل هو يندرج في وضع مألوف من التوترات والمجابهات. فالعلاقات الإنسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وعلائق القوى. والعنف يكمن فيها كتهديد دائم وهو ينفجر أحيانا كالبركان تحت ضغط نار داخلية لا يخمد لهيبها على الإطلاق). وحسب تحليل الفيلسوف البريطاني برتراند راسل: لقد كان انتقال الإنسان من الغابة إلى الدولة خيارا ذو اتجاه واحد من الفوضى إلى الطغيان. فلم يكن السلام ممكنا بين الناس في الغابة، كما لم يستتب السلام بين الدول حتى اليوم. إن مشكلة العنف هي في قلب البدايات كما عبر الشاعر الألماني "غوته": "في البدء كان الفعل" في الوقت الذي ابتدأ الإنجيل بالكلمة "في البدء كانت الكلمة" أي اللوغوس وأول كلمة نزلت في القرآن كانت اقرأ. ومن هنا فإن أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود هي اللوغوس مقابل العنف وكما يقول ب. ريكور: "إن القول والعنف هما أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود الإنساني وإن تأكيد ذلك باستمرار هو الشرط الوحيد لاكتشاف العنف في مكمنه".

ولكن الشيء الغريب أن مذهب العنف تطو ر بأخطاء كروموسومية غير قابلة للحياة والاستمرار في تاريخ الحضارة وتشكلت بها ثقافة كونية، وما زالت ثقافة العنف تمارس إعادة إنتاج نفسها ولكن العلم والتكنولوجيا هي التي أوصلتنا عتبة السلام.وولد السلم من رحم العلم.وها هي أمم الشمال دخلت عالم السلام و لكن لا تزال أمم الجنوب تستحم في مستنقع الدم والعنف والحروب وبناء أجهزة الرعب وشراء الأسلحة وتكديسها. وأما الغرب فقد ودع استخدام القوة وبدأ يتخلص من ترسانة السلاح ولكنه لا أخلاقي ويمارس السحر وينتج الأسلحة ويبيعها للجنوب الفقير حتى يحافظ على امتيازاته.و لقد كان وصول العلم إلى صنع السلاح النووي سلاما على الجنس البشري وهو سلاح ليس للاستخدام ويعني استخدامه نهاية الجنس البشري وبذلك قاد العلم إلى السلم بالرغم من أباطرة الحرب.العنف هو الاستخدام غير المشروع للقوة و يبدأ من البرمجة الذهنية واستيلاء مشاعر الكراهية ومرورا باللفظة السامة وانتهاء بالعمل الفيزيائي، كما يقول عالم النفس التحليلي سكينر: (إن الحروب إنما تبدأ في عقول الناس وهناك شيء انتحاري في الإنسان، ربما غريزة الموت، يؤدي إلى الحروب). وأما اللاعنف فهو تحقيق ما نصبو إليه بدون إيذاء الآخر ي ن وهو فضاء معرفي كامل واليوم نرى نشوء مؤسسات لاعنفية عريقة في الغرب وصدور قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي وأجمل ما قرأت في الآونة الأخيرة قاموس اللاعنف باللغة الفرنسية لجان ماري ميللر. إن أسلوب اللاعنف إنساني وأخلاقي واقتصادي وهو سلاح الأقوياء ومنهج الأنبياء.وهو أسلوب يحقن الدماء ويحفظ الكرامة الإنسانية.فاللاعنف أداة قوة و إستراتيجية للتحرر وهو الفعل مستندا إلى المبدأ، معمولا به على نحو تكتيكي يفعل الجانب الأخلاقي على نحو أشد ما يكون فعالية. أن أعتى نظام سياسي يمكن إسقاطه بدون سفك قطرة دم واحدة. وكثيرا ما يلعب النشاط اللاعنفي الناجح دور المحرض على حشد الدعم المعنوي والسياسي لتغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية. لقد كانت مسيرة غاندي الهادفة، سلاميا، إلى احتلال الملاحات في الهند شديدة الفعالية لأن العديد من القوم تحلوا بالشجاعة على مواصلة السير حتى المدخل حيث كان الحراس ينهالون عليهم ضربا بالهراوات. يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي رفض الاشتراك في الحرب العالمية الأولى: (إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبية بإصرار وإرادة عازمة وبنفس القدر من الشجاعة والانضباط اللذين يظهرهما الآن في الحرب، فبإمكانها أن تحقق حماية اكبر وأتم لكل ما هو جيد في الحياة العامة مما تستطيع أن تحققه القوات البرية والبحرية وبدون أي من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة التي ترتبط بالحرب الحديثة).إن النشاط اللاعنفي يتطلب شجاعة والشجاعة ليست هي التهور وكل نشاط مدمر لذات المرء ومؤيديه عن قصد أو عن طيش نشاط مؤذ وبالتالي عنيف وظالم في صميمه.فاللاعنف
هو فن من فنون القوة ونشاط يقود إلى العدالة والسلام في آن معا. وهو وسيلة لتعاطي القوة وإستراتيجية مصممة للاستعمال ضد خصم عنيف يمارس القوة العسكرية.و كذلك إستراتيجية مصممة للاستعمال ضد خصوم يتعذر دحرهم بالعنف.ومن أسلحة اللاعنف الاحتجاج والتدخل اللاعنفي وعدم التعاون اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. ويمكن لدعاة السلام واللاعنفيين الاستفادة من تجارب المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ وكذلك من تقنيات جين شارب الأميركي وميللر الفرنسي في هذا المضمار.وحتى ينجح اللاعنف لابد من وجود إستراتيجية ذات أهداف قابلة للتحقيق ووجود حركة تقوم بذلك وتتكيف مع التغيير مع الالتزام بقيم وأخلاقيات اللاعنف. لقد نجحت الإستراتيجية اللاعنفية في السنوات الأخيرة في شيلي و جنوب أفريقيا و بولونيا والمجر وبورما وأوكرانيا وجورجيا. وكذلك استعمل اللاعنف لإسقاط نظام الطاغية سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا. وقد مارست الإستراتيجية اللاعنفية تاريخيا قوة لا يستهان بها في النزاعات عندما طُبقت ببراعة، وكثيرا ما جابهها الخصوم بقمع وقسوة. وردة الفعل تلك تكشف عن قوة اللاعنف. وفي الواقع فإن قسوة القمع ضد اللاعنفيين تزيد من المقاومة وتثير المشكلات في معسكر الخصوم وتستنفر جهات ثالثة تأييد ومناصرة اللاعنفيين.إن فكرة اللاعنف تزداد رسوخا و ثباتا مع الأيام.ونجاح أسلوب اللاعنف هنا وهناك يفتح أمام أعيننا أساليب جديدة للتغيير في الشرق الغارق بالدم والطغيان ولن تشرق شمس الديمقراطية عندنا حتى نؤمن بالحوار والسلام ونمارس الكفاح السلمي

صبحي درويش

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف