ليتهم ابتلعوا ألسنتهم!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
(1)
لو صيغت عبارة على نحو "إن لنا الحق الكامل في استخدام الوسائل كلها في مواجهة (الارهابيين) واسترجاع أسرانا لديهم، واستعادة أراضينا المحتلة"، فإن أحدا لن يستنكر أن تصدر عن الرئيس الأمريكي جورج بوش، لكن صدورها عن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، حتما سيستمطر عليه وعلى حزبه اللعنات من قبل "العالم الحر".
حسنا، إن الادارة الأمريكية التي تبشر بحقوق الانسان، ومعاقبة الأنظمة "الشريرة" التي تمتهن كرامته، ترتكب أفظع أخطاء، لا يمكن حتى لكتاب متحذلقين مدافعين مقربين من المحافظين الجدد، مثل توماس فريدمان، القفز على النتائج الكارثية التي يمكن أن تفضي إليها.
ففضلا عن أن هذا الغطاء السياسي الذي توفره واشنطن لوحشية إسرائيل، وضربها عرض الحائط بكل المواثيق الدولية، وارتكابها جرائم فظيعة ضد المدنيين، يزري أكثر فأكثر بمكانتها كدولة مدافعة عن الديمقراطية، فإنها تتغافل عن التنامي الفظيع في الشارعين العربي والإسلامي، لتيارات التعصب والتشدد الديني، ليس ضدها وضد تل أبيب فحسب، وإنما ضد قيم الديمقراطية ذاتها.
وعوض أن تدعم واشنطن الديمقراطية في المنطقة، فإنها تغذي الكراهية، وتمنح حتى الارهابيين فرصة ذهبية لاستقطاب مناصرين آخرين. وتبدو المسألة أخلاقية أكثر لو طرح السؤال الرئيس في هذه الأزمة على النحو الآتي: ما هو الفعل اللا أخلاقي سياسيا، الذي ارتكبه حزب الله بخطفه جنديين إسرائيليين؟
غالبية الكتاب الذين انتقدوا حزب الله ركزوا على خطأ التوقيت، أو المغامرة العسكرية السياسية التي اقترفها، لكنهم لم يجزموا أبدا، لا هم ولا حكومات المنطقة، بأن حزب الله مخطيء في مبدأ خطف الجنديين. ثم، هل يستوي أن تدك آلة عسكرية جبارة بلدا بكامله، وتعاقب شعبا بأطفاله ونسائه وشيوخه، جراء خطف جنديين، عوض أن تعمد لعملية تبادل للأسرى ؟
(2)
ويلفت النظر في هذه الأزمة، الاهتمام العربي الرسمي والشعبي الضخم، والتبرعات التي انهالت على لبنان، وتخصيص وسائل الإعلام العربية جل أوقاتها على الهواء، وغالبية صفحاتها للأزمة اللبنانية. وما من كاتب على امتداد العالم العربي، إلا وكتب مؤيدا المقاومة، أو ناقدا وناقما عليها، أو محللا بهدوء ما يحدث.
وما من بيت عربي إلا وشرع الهواء الساخن للأزمة أبوابه. العالم العربي تأثر جدا وانفعل بما حدث لأطفال "قانا"، وبكى من أجلهم. وهذا كله مشروع، بل وأخلاقي جدا من زاوية النظر الانسانية الصرفة. لكنه يطرح سؤالا "أخلاقيا" مهما، يهز القناعة تماما في الضمير الجمعي العربي، خصوصا على المستويين الرسمي والإعلامي. والإعلامي هنا يشمل طوائف المثقفين من المحيط إلى الخليج.
السؤال هو: إذا كان الضمير العربي حيا ومتيقظا لهذه الدرجة، وصارما في ادانته قتل الأطفال، وتشريد المدنيين، والعنف الذي يرتكب بحقهم، فلماذا اهمل العرب المأساة الأكبر من نوعها في العالم حاليا، وأعني دارفور؟
(3)
إذا كان هناك ثمة انفعال "مبرر" بما يجري في لبنان وفلسطين والعراق، لماذا يصبح الدم السوداني رخيصا إلى هذه الدرجة بنظر العرب؟
خلال أربعة أعوام فحسب، سقط في دارفور 180 - 300 ألف وتشرد ما لا يقل عن مليونين من السودانيين. وقتل في القاهرة على يد رجال الأمن المصريين ما لا يقل عن 60 غالبيتهم من الأطفال، وهو ما جرى أيضا في لبنان خلال مجزرة "قانا الثانية"، لكن ردود الفعل تفاوتت على نحو مدهش بين المجزرتين.
وما زال مئات الآلاف من السودانيين يعانون قساوة الظروف الطبيعية وانعدام الأمن، والجوع في معسكرات بائسة في دارفور وتشاد، لا يؤمها غالبا إلا منظمات الإغاثة الغربية، فيما الحكومات العربية ومعها المنظمات الانسانية والشعوب العربية تتجاهل الأزمة تماما في منحاها الانساني !!
السودانيون في دارفور يكابدون هذه الظروف بالغة القسوة، وما من مجيب لآهاتهم ودموعهم سوى بعض المنظمات الغربية التي تمنعها حكومة الخرطوم من أداء واجباتها الانسانية بذريعة أنها مؤسسات تؤدي أدوارا استخباراتية !!
وحين اندلعت حرب لبنان الأخيرة، انفعل السودانيون بها، لكنها من جانب آخر كشفت عن وجه آخر بات يتعمق تدريجيا في الأوساط السودانية. يقول بعض المثقفين السودانين: حسنا، إن التعاطف الانساني مع ضحايا الحرب في لبنان، هو واجب يمليه الضمير، وتوجبه الانسانية. لكن، ماذا عن العرب وحتى اللبنانيين أنفهسم، الذين صمتوا صمت القبور طيلة أربعة أعوام عما يحدث في دارفور ؟
(4)
الجدل المستعر الذي اندلع في أوساط النخب السودانية، ليس منبتا. فهو موصول بشكل عميق بـ"جدل الهوية السودانية"، أهي عربية، أم إفريقية، أم "سودانوية". ويرى عدد متزايد من المثقفين السودانيين، أن لمواطنيهم الحق في التعاطف مع اللبنانيين، والتظاهر ضد إسرائيل، إنما من مواقعهم كبشر، لا كعرب !!
الأنكى من ذلك كله بالنسبة لبلد فقد مليونين من الأرواح في الجنوب، يضاف إليهم 180- 300 ألف في دارفور، ليس في ظل صمت عربي، وتجاهل مريع، بل وتواطؤ أيضا بدعاوي "العروبة" ورفض التدخلات الخارجية في الشؤون السودانية بحجج "اليورانيوم" في دارفور، و"النفط" في الجنوب !!
يصر بعض الكتاب والمثقفين ورجال الدين العرب اصرارا غريبا على رفض دخول قوات أممية لحماية المدنيين في دارفور، لأن تلك القوات ستأتي من أجل مصالح اقتصادية متمثلة في اليورانيوم والنفط، وثروات السودان الطبيعية. ويتهم هؤلاء بعض السياسيين السودانيين والمثقفين الذين انحازوا تلقائيا لـ"انسان" دارفور، والأطفال هناك، بالخيانة وقبول مجيء قوات أممية بدل القوات الإفريقية العاجزة أصلا.
وهؤلاء لم يفعلوا شيئا إلى غاية الآن من أجل الأطفال. لم يطالبوا بوقف الحرب. لم يتظاهروا ضدها كما يحدث الآن من أجل لبنان. لم تصدر منهم مناشدة واحدة من أجل تبرعات تخفف عن أطفال دارفور معاناتهم التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ من نوعها في العالم اليوم.
ليت هؤلاء ابتلعوا ألسنتهم، وتركوا السودانيين لحال سبيلهم !!
ليتهم كفوا أذاهم عن أطفال دارفور الجياع الأيتام، وبناتها المغتصبات، وتركوا شأن دارفور، بل وشؤون السودان كله، لأهله، ولجيرانه الأفارقة الذين بذلوا جهودا كبيرة لوقف الحروب الأهلية في السودان. السودانيون الآن، يشعرون بامتنان عميق لـ"نيروبي" الكينية التي احتضنت مفاوضات السلام في الجنوب، ولـ"أبوجا" النيجيرية التي احتضنت مفاوضات السلام في دارفور، في مقابل مذبحة 60 من السودانيين في "أكبر عاصمة عربية" !!
(5)
إنها الخرطوم يا عرب !!
إنها الخرطوم التي جاء إليها عبدالناصر مهزوما فضمدت جراحه، وبعثت الأمل في قلبه.
إنها الخرطوم التي احتضنت قسما من مناضلي منظمة التحرير الفلسطينية بعد إجلائهم من بيروت في 1982.
إنها الخرطوم التي جاء إليها الملك فيصل وجمال عبدالناصر وهما على خصام تام في مرحلة دقيقة، فسعت من خلال كبارها آنذاك (الرئيس إسماعيل الأزهري ووزير الخارجية محمد أحمد محجوب) لردم الهوة بين القاهرة والرياض، وكانت قمة الخرطوم 1967 إيذانا بنصر أكتوبر 1973.
إنها الخرطوم التي لم تتوان عن ارسال وحدات عسكرية من القوات المسلحة السودانية إلى بيروت منتصف السبعينات لحقن الدماء العربية جنبا إلى جنب وحدات سورية وسعودية وإماراتية.
إنها الخرطوم التي ظلت تنزف منذ مطلع الثمانينات، وتعامل على أساس أنها "عاصمة من عواصم الهامش" مثلها مثل مقديشو ونواكشوط !!
إنها الخرطوم التي يموت انسانها اليوم - في دارفور - من المسغبة، ويظهر أطفالها على الشاشات "الغربية" هياكل عظمية دون لحم، من دون أن يفكر عربي واحد في تنظيم مجهود انساني من أجلها !!
إنها الخرطوم التي حين يعن للمثقفين العرب أن يكتبوا عنها، فإنهم يطالبونها فقط بألا تقبل بمجيء قوات أممية تحمي المدنيين !!
إنها الخرطوم التي يذبح أبناؤها في 2005 في القاهرة !!
(6)
إنها الخرطوم التي يفكر مثقفوها وسياسيوها "غير العروبيين" ألف مرة في عبارة المفكر الكيني البروفسير علي المزروعي: فضّل السودانيون أن يكونوا "ذيل العالم العربي" على أن يصبحوا "قادة إفريقيا"، أو كما قال!!
خالد عويس
* روائي وصحافي سوداني
khalidowais@hotmail.com