صواريخ حزب الله بين قنابل ذكية وسياسات غبية2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صواريخ حزب الله بين قنابل ذكية وسياسات غبية ( 2 )
أعتقد أنه يتعين علينا كشعوب عربية أن نقرأ الموقف فى لبنان وغزة القراءة الصحيحة إذا أردنا حقا أن نعرف حقيقة ما يجرى هنا وهناك، وهذا فى رأيى لا يتحقق بالنظرة العاطفية للأمور أو بالمزيد من مشاعر الإنفعال والغضب، فكلنا يعتصرنا الألم لما حدث ويحدث فى المنطقة سواء للشعب العراقى أوالشعب الفلسطينى والآن للشعب اللبنانى بكل طوائفه، وهذا حقنا جميعا لكن علينا أن ندرك فى الوقت ذاته أن كل مشاعر الإنفعال والغضب مهما بلغت لن تغير الواقع العربى المؤلم إذا نحن لم ننجح فى فهم ما يجري الفهم الصحيح وهذ لا يتحقق إلا من خلال رؤية واضحة وعقل بارد وتفكير هادئ.
من حق أى عربى غاضب وساخط أن يمتطى جوادا عربيا أصيلا ويرمح به كما يشاء شاهرا سيفه أو رمحه لكن عليه ألا يتوقع من هذا الجواد ومهما بلغت سرعته أن يطير فى السماء ليضرب بسيفه طائرة إف 16 أو طائرة أباتشى أو صاروخ كروز توما هوك، وحتى لا يجلب على نفسه المزيد من مشاعر الإحباط وخيبة الأمل.. إذا أردت أن تغير الواقع الذى ترفضه عليك أن تكون واقعيا فى تفكيرك وحتى فىأحلامك.
لقد تحول العالم العربى منذ الحرب العالمية الأولى فى القرن الماضى إلى رقعة هائلة من الشطرنج للقوى الكبرى ولم يعد مقبولا فى القرن الحادى والعشرين أن تستمر هذه اللعبة إلى مالا نهاية فهذه القوى الكبرى ومعهم إسرائيل يلعبون معنا لعبة "الشطرنج" ـ لعبة العقل والذكاء ـ بينما نحن نلعب معهم لعبة " الطاولة" أو "السيجا"!!.
إن الضحية الأولى لأى حرب هى الحقيقة وأقول لمن يريد حقا أن يعرفها ألا يتوقع أن يعثر عليها من مصدر واحد أو من مقال واحد أو فى كتاب واحد أو عشرة كتب، أو أن يجدها كلها على قناة الجزيرة أو العربية وإنما من مصادر كثيرة ومتنوعة.. مصادر عربية وأوروبية وأمريكية وكندية وإسرائيلية وغيرها وبعد أن يتوفر لديه أكبر قدر من المعلومات الصحيحة، ومعظمها فى الغالب يكون متناثرا كالشظايا، عندئذ فقط تستطيع أن تكون لنفسك رؤية أكثر وضوحا وأقرب ما تكون الى الحقيقة، وهذا هو ما أحاول دائما أن أفعله قدر إستطاعتى. علينا أن ندرك أن أى إعلام فى العالم إنما يخاطب جمهوره المباشر أولا، وتختلف التغطية للحدث الواحد من إعلام لأخر، فمثلا قناة الجزيرة أو العربية تغطى الحدث بطريقة معينة لأن جمهورهما بالدرجة الأولى من المشاهدين العرب، ونفس الحدث يغطيه الإعلام الأمريكى بطريقة أخرى لأنه يخاطب المواطن الأمريكى بالدرجة الأولى، ونفس الشئ يحدث فى كندا وفرنسا وبريطانيا وأى بلد، والإختلاف يكون فى درجة التركيز وكمية المعلومات المتاحة من بلد لأخر.
وبالنسبة للإعلام العربى فهو لا يزال فى مجمله يعتمد على مصادر الإعلام الغربية والأجنبية من وكالات الأنباء وشبكات التلبفزيون العالمية، صحيح أن الإعلام العربى قد حقق طفرة كبيرة وتقدما فى السنوات العشر الأخيرة فى تحديث الأجهزة والمعدات التقنية وإنتشار الفضائيات الإ أن هذا للأسف لم يواكبه طفرة نوعية وتقدما كبيرا فى المادة الإعلامية المقدمة للمشاهد العربى. إن عرض أنصاف الحقائق هو نوع من التضليل المتعمد على أسوأ تقدير، أو الجهل المطبق على أقل تقدير.
وإذا نحن أمعنا النظر فى الصراع العربى الإسرائيلى فسوف نكتشف بسهولة أنه سلسلة طويلة من الأخطاء المتراكمة من جانب كل أطراف الصراع ـ خاصة العربى، وهو صراع حضارى فى المقام الأول، وما الصراع العسكرى إلا أحد مظاهره، والذى يدفع الثمن الباهظ لهذه الأخطاء هى الشعوب العربية التى لا صوت لها أو إرادة فى قرارات الحرب والسلام المصيرية، وليست الأنظمة العربية المستبدة التى لا يهمها سوى البقاء فى كراسى الحكم والسلطة وتوريثهما، يستوى فى ذلك النظم الملكية والجمهورية.
وهذه الشعوب العربية التى تسودها كل مظاهر الفرقة والإنقسام تعانى من كل مظاهر القهر والإستبداد والتخلف والجهل وقصور النظر، وهى شعوب عاطفية إنفعالية ومغيبة عقليا ومسلوبة الإرادة بحكم طبيعتها الثقافية الموروثة، وبتأثير الخطاب التعبوى المتجمد بشقيه السياسى والدينى الذى يرفع من شأن أصحاب الحناجرعالية الصوت المستغرقة فى أحلام الماضى،.. خطاب يعطى مكانة الشرف لمحترفى المزايدات السياسية والمعارك "الدونكيشوتية"، ويخفت من صوت العقل والحكمة والتدبر المشغول بالمستقبل، فإنعكس كل هذا على نظرة الجماهير المشوشة للأمور، فباتت لا ترى الأشياء كما هى بالفعل على أرض الواقع، ولا تريد أن تسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فهى تكذب على نفسها تارة
وتتجمل تارة أخرى، ودأبت على التسرع فى إصدار الإتهامات والأحكام بطريقة عشوائية دون بحث أودراسة أوتمحيص، وحتى فى الأمور المصيرية المتعلقة بقضايا الحرب والسلام،.. ولأنها لم تتعود فى نشأتها على ثقافة نقد الذات - وهى مبدأ أصيل فى ثقافة الغرب وأحد أسباب تقدمه المادى - وأصبحت لا تفرق بين نقد الذات وجلدها، فقد غاب عنها بالضروة الإحساس بالمسئولية Responsibility عن الفعل ولو جزئيا فى ظل إفتقاد حكامها وزعمائها لمبدأ " المحاسبة" Accountability سواء عن أخطاء سياساتهم وأفعالهم أو عن تقصيرهم، فتتكرر الأخطاء، وتتوالى النكبات كنتيجة حتمية لعدم الإستفادة من دروس الماضى، وغياب إستراتيجية عربية ثابتة واضحة المعالم،. إستراتيجية لا تتغير مع تغير الحكام أو وفق أهوائهم فى مواجهة عدو له إستراتيجية ثابتة لا تتغير ولا يتردد فى تغيير تكتيكاته وأساليبه التى تخدم إستراتيجيته حتى ولو كان من بينها التنكر فى ثياب الصديق الذى يسعى للسلام، وهو بالفعل يريد السلام ولكن بشروطه وأولها أن يكون وحده الطرف الأقوى دائما، والذى يمتلك وحده كل أسلحة الدمار الشامل فهى حلال له حرام على خصمه، وثانيها أن يتحقق الأمن الإسرائيلى على حساب الأمن العربى، وأن تتحقق مصالح الحليف والراعى الأمريكى على حساب المصالح العربية والإستنزاف المستمر لثروات العرب لضمان المحافظة على الحد الأدنى من رفاهية المواطن الأمريكى.
إن الحرب الراهنة فى غزة ولبنان هى أخطر جولات الحروب العربية الإسرائيلية، وأكثرها جدلا، فلم يحدث فى كل الحروب السابقة أن إنقسم الشارع العربى إزاء حرب مع إسرائيل كما أنقسم مع هذه الحرب وخاصة فى لبنان بين إسرائيل وحزب الله، ولعل مبعث الإنقسام يعود بالدرجة الأولى إلى إختلاط الحابل بالنابل فى العديد من القضايا الشائكة والمفاهيم المغلوطة بالإضافة إلى نقص فى المعلومات الصحيحة الخاصة بكل أطراف الصراع المباشرين ومن يقفون وراءهم فى كواليس المسرح السياسى والعسكرى.
وفى محاولة جادة لفهم ما يجرى فقد يكون من المفيد والضرورى أن نقوم بعملية فض إشتباك لكثير من هذه القضايا وتحليل الحرب الراهنة وومواقف أطرافها إلى عناصرها الأولية بالتأكيد على النقاط و الحقائق التالية:
التشخيص الموضوعى للحرب
هذه الحرب كما ذكرنا آنفا تختلف عن كل الحروب العربية - الإسرائيلية السابقة، فهى ليست حربا تقليدية Conventional War وإنما هى فى الواقع خمسة حروب مختلفة تجرى رحاها فى آن واحد:
- حرب باردة Cold War
- حرب بالوكالة War By Proxy
- حرب " موازية" Asymmetric War
- حرب دفاعية Defensive War
- حرب هجومية تقليدية Offensive War
حرب باردة Cold War
هى حرب باردة بين دولتين: الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، الأولى هى القوة العظمى الوحيدة فى العالم اليوم، أو الأمبراطورية الأمريكية فى القرن الحادى والعشرين أو هى " روما الجديدة"، والثانية
هى سليلة الإمبراطورية الفارسية القديمة، والقوة الإقليمية التقليدية فى منطقة الخليج العربى ( الفارسى) والتى كانت فى الماضى القريب - إبان حكم الشاهنشاه وقبيل تهاوى عرش الطاووس " رجل الشرطة الأمريكى " فى المنطقة، وهى دولة عريقة تاريخيا وغنية بتروليا وتتمتع بقاعدة صناعية كبيرة بمقاييس الشرق الأوسط بالإضافة إلى قاعدة سكانية كبيرة تزيد عن 65 مليون نسمة،.. ومن منظور تاريخى ترى إيران نفسها الدولة الوحيدة ذات الكيان السياسى والوزن الإستراتيجى التى يجب أن تهيمن على منطقة الخليج العربى، ولذا فإن نظرتها إلى معظم البلدان العربية - بإستثناء مصر - هى نظرة فوقية متعالية، وعنصرية فارسية ومهما حاولت التنكر خلف ستار الإسلام الذى تسبقه حقائق الدولة الفارسية الراسخة فى القدم، الضاربة فى أعماق التاريخ. كما أنها دولة ومنذ إندلاع الثورة الإسلامية وعودة الإمام الخمينى إلى طهران لها إيديولوجية وإستراتيجية ثابتة لم تتغير ( تصدير الثورة الإسلامية إلى باقى دول المنطقة)، كما أن إعتقاد إيران بحقها الطبيعى بالهيمنة على الخليج كان لابد أن يضعها فى موقف تصادمى مع الولايات المتحدة الأمريكية التى ترى أن منطقة الخليج العربى ومنابع البترول هى خط أحمر لا يجب تجاوزه، وهى قد تقبل بوجود أتباع ووكلاء لها لكنها ترفض رفضا باتا وجود شركاء لها فى تلك المنطقة الإستراتيجية الحساسة سواء كانوا من داخل المنطقة أو خارجها.،.. كذلك فإن إيران دولة لها ميراث تجارب ثرية وطويلة فى التعامل مع دول الغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة، مكنها فى السنوات الأخيرة من إدارة الصراع والأزمات بحرفية ومهارة عالية أربكت ولو جزئيا خطط الرئيس بوش وجماعة المحافظين الجدد من إحتلال العراق ومخططاتهم السياسية والإستراتيجية الخاصة بالشرق الأوسط.
بعد إدراج الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش إيران ضمن دول محور الشر المارقة، وبعد الغزو الأمريكى للعراق وتداعياته إرتفعت درجة حرارة الحرب الباردة بين واشنطن وطهران وإزدادت سخونتها مع إزدياد نشاط المخابرات الإيرانية ورجال الحرس الثورى الإيرانى فى العراق لإثارة القلاقل والإضطرابات ضد الوجود الأمريكى، وهذه الحقيقة إعترف بها الجنرال "جون أبو زيد" قائد القوات الأمريكية فى المنطقة فى العام الماضى للمذيع الأمريكى " تيم راسرت" فى برنامجه التليفزيونى الشهير " لقاء الصحافة".
حرب بالوكالة War By Proxy
لقد إنتهت الحرب الباردة بين القوتين العظميين فى عام 1989، بعد سقوط حائط برلين وتفكك الإتحاد السوفييتى، ولكنها لم تنتهى فى منطقة الشرق الأوسط،... كل ما طرأ من تغيير هو خروج روسيا من هذه الحرب الباردة وإستبدالها بأطراف إقليمية مثل إيران وسورية، لهما مصالحهما الخاصة وأجندتهما السياسية، وما الحرب الراهنة فى غزة ولبنان إلا حربا بالوكالة، والوكلاء فى هذه الحرب هم حماس وحزب الله وإسرائيل، والأطراف المتصارعة وراء الكواليس الذين يمدون الوكلاء بالمال والسلاح والعتاد هم الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وسورية، وحماس وحزب الله يحاربون نيابة عن سورية وإيران جزئيا وليس كليا، وسوف نوضح هذه الجزئية بالتفصيل لاحقا، أما الولايات المتحدة الأمريكية فليس سرا أنها شنت الحرب الأمريكية على العراق نيابة عن إسرائيل ودون إراقة نقطة دم جندى إسرائيلى واحد، والآن حان دور إسرائيل لتحارب نيابة عن أمريكا فى لبنان وغزة، ذلك لأن الحرب بين الولايات المتحدة وإيران مؤجلة فى الوقت الراهن نظرا لوقوع أمريكا فى المستنقع العراقى والحسابات الخاطئة التى إكتنفت الغزو الأمريكى على العراق.
هى حرب بالوكالة كما أوضحنا،.. قلنا هذا من قبل ونعيد تكراره مرة أخرى حتى يفهم "الشطار" الذين إعتادوا إخفاء رؤوسهم فى الرمال كالنعام، ويفضلون العيش فى الأوهام لأن الواقع العربى مخجل والنظام العربى مهترىء.
حرب " موازية" Asymmetric War
وهى حرب لا تعتمد على إستخدام أرتال الجيوش وفرق المشاة سواء المترجلة أو الميكانيكية أو ألوية المدرعات.. إنها حرب عصابات تعتمد أسلوب " إضرب وإجرى" Hit and Run. يظهر فيها المحارب فجأة ويختفى فجأة بحيث يشعر العدو أنه يحارب " أشباح"، والتخطيط والتنفيذ لهذه الحرب يعتمد على إستغلال نقاط الضعف عند العدو مع التركيز على كل الإحتمالات التى قد تستبعدها تقديرات مسئولى المخابرات الحربية والأمن القومى لتحقيق عنصرى المفاجأة والرعب، وتهدف هذه الحرب إلى إستنزاف قدرات العدو وطاقاته وإلحاق أكبر قدر من الخسائر فى الأرواح والعتاد والإقتصاد،.. وهذه الحرب الموازية هى التى تتبناها ميليشيات حزب الله فى حربها الراهنة ضد إسرائيل، وقد نجحت حتى الآن فى إستخدام أساليب وتكتيكات " الفييتكونج" ضد الأمريكيين فى حرب فيتنام، وتكتيكات المجاهدين الإسلاميين فى أفغانستان ضد القوات السوفيتية، مستغلة الطبيعة الجغرافية المميزة لمنطقة الجنوب اللبنانى من جبال ومرتفعات وتلال ووديان كلها ملائمة لحرب عصابات وغير ملائمة لحرب تقليدية، وهذه الحرب بدأها حزب الله فى حقبة التسعينات من القرن الماضى ضد قوات الإحتلال الإسرائيلى فى جنوب لبنان حتى إضطرت إسرائيل إلى الإنسحاب المفاجىء من جانب واحد فى صبيحة الرابع والعشرين من مايو عام 2000
فى أعقاب إنسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان فى مايو عام 2000، بعد إحتلال دام 18 عاما سارعت ميليشيات حزب الله بإحتلال كل المواقع التى كانت تتمركز فيها القوات الإسرائيلية قبل إنسحابها المفاجئ، وأصبح حزب الله عمليا يفرض سيطرته وسلطته ونفوذه على الجنوب اللبنانى بالكامل فى الوقت الذى لا وجود فيه على الإطلاق لا للحكومة اللبنانية ولا للجيش اللبنانى، وبناء عليه أصبح حزب الله فعليا وواقعيا هو الجار الشمالى لإسرائيل، ومثل هذا الوضع يمثل مشكلة كبيرة لإسرائيل لأنه يعنى ببساطة أن حزب الله فى نظر إسرائيل والولايات المتحدة قد أصبح بمثابة دولة داخل الدولة، وهو وضع قد عرفته الدولة اللبنانية فى مطلع السبعينات من القرن الماضى عندما تحولت قوات منظمة التحرير الفلسطينية فى لبنان إلى دولة داخل الدولة ولكن مع فارق كبير فى حالة حزب الله لا يمكن تجاهله ألا وهو أن أفراد ميلشيات حزب الله ليسوا ضيوفا أو غرباء وإنما هم من أبناء الدولة والشعب اللبنانى، وبالتالى يضفى عليهم صفة المقاومة الشرعية. مثل هذا الوضع قد تصبر عليه إسرائيل طويلا وربما لعدة سنوات لكنها لا تستطيع أن تحتمله إلى مالا نهاية، وكان معروفا أن الحرب ستقع لا محالة، ولم يكن السؤال المطروح هو ما إذا كانت ستقع وإنما متى ستقع الحرب بين إسرائيل وحزب الله.
كان إسراع حزب الله بشغل الفراغ الناجم عن إنسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان بمثابة مفاجئة تامة لإسرائيل وللمحللين العسكريين والسياسيين فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إذ أنه طوال حقبة التسعينات من القرن العشرين كان الإعتقاد فى إسرائيل أن الجيش اللبنانى سوف ينتقل إلى الجنوب بمجرد إنسحاب إسرائيل من جنوب لبنان أو على أقل تقدير سيطرة القوات السورية المتواجدة فى لبنان، غير أن شيئا من هذا لم يحدث وأصبحت السيطرة الكاملة على الجنوب من نصيب حزب لله كما ذكرنا سالفا.
هذا الوضع الجديد الذى خلقه حزب الله على الأرض صاحبه تغيير إستراتيجى، فقد أصبح حزب الله يعتمد بالدرجة الأولى على الدعم الإيرانى وتلاشى النفوذ السورى فى الجنوب تدريجيا، وخلال تلك الفترة إزداد الدعم العسكرى الإيرانى لحزب الله الذى حصل ولأول مرة على عدد كبير من صواريخ كاتيوشا ذات مدى يتراوح مابين 70 كم إلى 80 كم، وتقدر المصادر الإسرائيلية والغربية عدد هذه الصواريخ المعروفة باسم " الفجر " بحوالى عشرة آلاف صاروخ، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الصواريخ مثل " المهاجر"، وخيبرـ 1، وخيبر ـ 2، وزلزال 1، وزلزال 2، والصاروخ الأخير هو أخطر أنواع الصواريخ فى ترسانة حزب الله، وأطولها مدى، وهو صاروخ إيرانى الصنع، يبلغ طوله نحو ثمانية أمتار ونصف مترا، وويصل مداه إلى نحو 250 كم، ويبلغ وزن العبوة المتفجرة نحو 650 كجم، وهذا الصاروخ لم يستخدمه حزب الله حتى الآن،.. كذلك يمتلك حزب الله طائرة المهاجر - 4 وهى طائرة تجسس تعمل بدون طيار، وهى أيضا إيرانية الصنع، وتحمل متفجرات، وقد دخلت هذه الطائرة المجال الجوى الإسرائيلى لأول مرة فى نوفمبر عام 2004، ودون أن تكتشفها أجهزة الرادار الإسرائيلية، ثم دخلت مرة أخرى فى أبريل 2005.
حصول حزب الله على هذا الكم الكبير من الصواريخ وبهذا المدى يعنى أن حزب الله أصبح فى مقدوره أن يضرب أية أهدافـ مدنية أو عسكرية فى قطاع الشمال الإسرائيلى بالكامل، ولعل هذه الحقيقة والتطور الكبير فى موقف حزب الله العسكرى يفسر لنا سبب إحجام شارون وإسرائيل عن القيام بالرد على مواقع ميليشيات حزب الله فى الجنوب فى شهرى ابريل ويولية عام 2001 والإكتفاء بالهجوم الجوى على محطات الرادار السورية فى لبنان.
هذا الوضع الجديد قد منح حزب الله قوة ومكانة غير مسبوقة جعلت منه أكبر قوة متواجدة على الساحة اللبنانية كما جعلت منه أيضا قوة سياسة فاعلة، وأصبح فيما بعد ممثلا فى البرلمان اللبنانى بحوالى 14 نائبا، وفى الحكومة بثلاثة وزراء، وبدأ الأمين العام لحزب الله الشيخ حسن نصر الله يشعر بهذه القوة الجديدة إلى درجة أنه صرح فى مقابلة مع تليفزيون المنار فى 6 يونية عام 2000 قائلا: " إننا نرى أن إسرائيل التى تمتلك ترسانة أسلحة نووية، وأقوى سلاح طيران هى أضعف من بيت العنكبوت".
عندما شنت إسرائيل غارات جوية على محطات رادار سورية فى لبنان فى ربيع وصيف عام 2001 ردا على هجمات حزب الله على مواقع اسرائيلية فى مزارع شبعا المحتلة، ودون أن ترد سورية حدث أن قام حزب الله بتحذير إسرائيل أنه إذا استمرت فى إعتداءاتها ضد سورية فإن حزب الله سيرد بقصف الشمال الإسرائيلى، وكان هذا التحذير بمثابة تطورا بالغ الدلالة إذ أنه قد وضع سورية فى موقف شديد الحرج فى لبنان فمن ناحية أن سورية قد دخلت لبنان فى عام 1976 لحفظ الأمن والدفاع عن لبنان وها هى القوات السورية فى لبنان تتعرض لإعتداءات إسرائيلية متكررة دون أن تقوم سورية بالرد على إسرائيل، ومن ناحية أخرى فإن ذلك يعنى أن حزب الله هو الذى أصبح يوفر الحماية للقوات السورية فى لبنان وليس العكس، وهذا التطور الكبير من شأنه أن يدحض أية دعاوى أو ذرائع سورية لتواجدها العسكرى فى لبنان، ويعطى سندالقوى المعارضة اللبنانية فى المطالبة برحيل القوات السورية من الأراضى اللبنانية، وهو ما حدث بالفعل فى 30 أبريل 2005 بعد تزايد الضغوط الدولية على سورية فى أعقاب إغتيال رفيق الحريرى رئيس وزراء لبنان السابق فى فبراير من نفس العام.
حرب دفاعية Defensive War
يعتقد عدد كبير من المراقبين والمحللين السياسيين العرب والغربيين أن العملية العسكرية الجريئة التى شنها حزب الله على أحد المواقع الإسرائيلية فى 12 يوليو الماضى وأسفرت عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر جنديين قد تمت تلبية لأوامر إيرانية لشغل الأنظار مؤقتا عن الملف النووى الإيرانى والذى كان على مطروحا على رأس أجندة قمة الدول الصناعية الثمانية قبيل موعد إنعقادها فى سان بطرسبرج فى روسيا بثلاثة أيام فقط، أو لتخفيف الضغط العسكرى الإسرائيلى على حماس فى غزة، ومثل هذا الإعتقاد ـ فى رأينا ـ ينطوى على تبسيط شديد للأمور وفهم خاطىء للعلاقة بين حزب الله وإيران، ولا نستطيع أن نتفق معه.
ومن يتبنى هذا الإعتقاد يفترض أن علاقة حزب الله بإيران هى علاقة " التابع والمتبوع" وهذا غير صحيح، إنها علاقة معقدة وشائكة،.. نعم هناك الإرتباط العقائدى بينهما ولا يمكن التقليل من شأنه، كما أنه لا ينبغى أن نبالغ فى تأثيراته أيضا،.. وهناك الدعم المادى الذى تقدره مصادر غربية بما لا يقل عن مائة مليون دولار سنويا، وهناك الدعم العسكرى، غير أن الشىء المؤكد هو أن العلاقة بينهما تحكمها المصلحة المتبادلة، وإذا كان حزب الله يستفيد من إيران ماديا وعسكريا، فإن إيران أيضا تستفيد من العلاقة ربما أكبر من الفائدة التى يجنيها حزب الله الذى مكن إيران من أن يكون لها موطىء قدم ونفوذ فى لبنان، ودخولها كطرف غير مباشر فى الصراع العربى الإسرائيلى، وهذا النفوذ الذى تحصل عليه طهران لا يقدر ثمنه بالدولارات وإنما بإكتساب النقاط والمزايا فى الحساب الختامى الإستراتيجى فى صراعها مع الولايات المتحدة والقوى الكبرى.
وبناء عليه فنحن نعتقد أن حزب الله قد دخل هذه الحرب دفاعا عن حزب الله نفسه وعن كيانه ووجوده، بعد أن بدأ يشعر بوطأة الضغوط الدولية والداخليه عليه لنزع سلاحه تطبيقا للقرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن فى سبتمبر2004 والذى يقضى بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية، وأكبر ميليشيا فى لبنان منذ إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية هى ميليشيات حزب الله، كذلك فإن حسن نصر الله الأمين العام للحزب بدأ يتخوف من حكومة فؤاد السنيورة والتى تتمتع بتأييد الولايات المتحدة وإدارة الرئيس بوش، وحزب الله يعلم تماما أن نزع سلاح حزب الله هو مطلب إسرائيلى فى المقام الأول، وأن نزع سلاحه سوف يعنى بالضرورة قص أجنحة الحزب وتقليم أظافره وبالتالى تقليل نفوذه داخل الساحة اللبنانية، وهذا أمر ليس هينا فى بلد صغير به 18 طائفة دينية وكل طائفة لها الميليشيا الخاصة بها، وهذه الميليشيات أقوى من الجيش اللبنانى ذاته، وهذا وضع قديم وشاذ فى آن واحد، فالطائفية هى أس البلاء فى النظام اللبنانى كله، وليس حزب الله أو حسن نصر الله، وهذا ليس دفاعا عنهما وإنما هى حقيقة الأوضاع فى لبنان منذ عشرات السنين. ربما كان توقيت العملية العسكرية فى 12 يولية الماضى قد خدم مصالح إيران وسورية لكن تظل هناك حقيقة أن كل طرف له حساباته ومصالحه الوطنية والإقليمية.
حرب هجومية تقليدية Offensive War
وهذه هى الحرب التى تشنها إسرائيل فى غزة ولبنان بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية أولا، وهى تدعى أن حربها مع حزب الله، غير أنها منذ أول يوم فى الحرب وهى تضرب فى كل لبنان ودمرت بنيته التحتية، حتى المناطق المسيحية مثل حى الأشرفية تعرض للقصف الإسرائيلى، وهى تضرب المناطق المأهولة بالسكان بقصف بربرى وهمجى بالطيران على أمل أن يلوم اللبنانيين حزب الله وتندلع حرب أهلية جديدة، وهو ما لم يحدث لأن اللبنانيين عانوا من ويلات الحرب الأهلية طوال خمسة عشر عاما لم يحصدوا منها سوى الدمار والخراب،.. وإسرائيل تضرب فى المدنيين للتغطية عن عجزها الحقيقى فى التخلص من ميليشيات حزب الله الذى يشن عليها حرب عصابات، وإسرائيل تعلم أن حزب الله كان يعد لهذه الحرب طوال السنوات الست الماضية فزرع عشرات الآلاف من الألغام ضد الأفراد والمركبات والمدرعات وزاد من تحصيناته فى التلال والمرتفعات، وبنى فى الجنوب كله شبكة من المخابىء والأنفاق المكدسة بالمؤن والذخيرة التى تكفى لإطالة أمد الحرب لأكثر من ستة أشهر متواصلة، وإسرائيل لا تستطيع بكل أسلحتها وعتادها العسكرى أن تقتلع حزب الله بالكامل من الجنوب اللبنانى بدون شن حرب عصابات إسرائيلية والقتال فى إلتحام مباشر مع ميلشيات حزب الله الذين لا يهابون الموت،وهو ما يعنى تكبد إسرائيل خسائر فادحة فى الأرواح لا تقدر المؤسسة العسكرية ولا المجتمع الإسرائيلى على تحملها.
فى الحقيقة يستطيع أى مراقب منصف ومحايد أن يلحظ بوضوح التخبط الإسرائيلى فى إدارة هذه الحرب، فرئيس الوزراء إيهود أولمرت جديد فى منصبه، ويترأس حكومة إئتلافية ضعيفة، وقد قذفت به الأقدار إلى رئاسة الحكومة بسبب مرض شارون ووقوعه فى غيبوبة منذ يناير الماضى، ومن الصعب على أولمرت أن يملأ الفراغ السياسى والعسكرى لرجل حرب مثل سلفه شارون، كما أنه لا يتمتع بخبرة عسكرية كبيرة، كما أن وزير دفاعه ميرتس أيضا ترك الخدمة العسكرية منذ عام 1974، وأولمرت يحاول أن يثبت أنه " راجل من ظهر راجل " كما يقول أهل الصعيد فى مصر، والذى يدير هذه الحرب الراهنة فى غزة ولبنان ليست القيادة السياسية أو مكتب رئيس الوزراء أو وزارة الحرب المصغرة وإنما المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وجنرالاتها، الذين شعروا بمهانة كبيرة عندما إصدر إيهود باراك قرار الإنسحاب الإسرائيلى المفاجىء من جانب واحد فى عام 2000، وكان أرييل شارون ودان حلوتس رئيس الأركان الحالى من بين الذين إعترضوا على قرار الإنسحاب، لكن باراك جنرال إسرائيلى سابق وله تاريخه العسكرى ولا يستطيع أحد أن يزايد عليه، وهؤلاء الجنرالات يتخبطون اليوم فى إدارة الحرب لأنهم يحاربون دفاعا عن هيبتهم وسمعتهم وغرورهم الذى تمرغ فى وحل الجنوب اللبنانى على يد ميليشيات وليس فى حرب مع جيوش عربية.
إن أى حرب لا بد أن تخدم تحقيق هدف أو أهداف سياسية محددة وإسرائيل فشلت حتى الآن وبعد مرور أربعة أسابيع كاملة فى هزيمة حزب الله أو فى نزع سلاحه لذا فهى قد خسرت الحرب، والدليل على ذلك أن شيمون بيريز كان يقول خلال الأيام الأولى للحرب " نحتاج أسبوع أو عشرة أيام فقط للتخلص من حزب الله"، والآن يقول بيريز " ليس من الضرورى أن ننتصر فى هذه الحرب فنحن لم نبدأها ولكن المهم الآن أن نوقف هذه الحرب"!!...
قنابل ذكية، وسياسات غبية إسرائيلية وأمريكية
والآن ما هى مواقف أطراف الصراع فى الحرب الراهنة : الولايات المتحدة، إيران، سورية، حزب الله، حماس وإسرائيل والنتائج المحتملة لهذه الحرب وتداعياتها؟
الإجابة على هذا السؤال هو موضوع الحلقة القادمة والأخيرة بعون الله وتوفيقه.
صوراريخ حزب الله بين قنابل ذكية وسياسات غبية 1
مسعد حجازى
كاتب وصحفى مصرى - كندى