ولكن شبّه لنا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أذكر أنني تماثلت كثيرا في حينه مع مارسيل خليفة وهو يؤدي أغنيته عن التاريخ الذي "طعمانا كف". أولا، لأنني تتلمذت على مدرّس في التاريخ كان جعل لنا من التاريخ قصصا وسوالف وحكايا على غرار ما كان على لسان الحكواتي فإذ بالتاريخ العام وبـ"تاريخنا" الشخصي يتلقيان صفعة تلو صفعة عندما استعانت المدرسة بأستاذ آخر لمادة التاريخ يُعيننا على تجاوز امتحان التوجيهي في هذه المادة. وثانيا، لأنني أدركت بمساعدة الأستاذ ما كان حجبه عني المدرّس من إن التاريخ ليس ما حصل في الماضي بل هو في الأساس ما يحصل لي الآن. وفي غفلة من تاريخ حجبت أغاني الأجساد والمهيّجات البصرية أغنية مارسيل أو أجّلتها لكنها لم تستطع وقف تدفق التاريخ وأحماله إلى منطقتنا مكتسحا مساحات التصحّر في العقول كما في اليابسة. وها نحن أمام التاريخ على مهابته نبحث عن ذريعة جديدة نُبرر بها عجزنا التاريخي عن قراءة التاريخ أو مواكبة حركته أو موازاته في خط سيره. فما يحدث في العراق تاريخ للآتين وكذلك ما حدث ويحدث للبنان وما سيحدث لسوريا. والشعور ذاته ينتابنا كلما يممنا شطر المغرب العربي لا سيما الجزائر التي لم ترتو، كما يبدو، بأسطورة المليون شهيد فألحّت على طلب المزيد كما كانت يطلب النيل أو الآلهة زيادة في القرابين، وهذه المرة بطعنات الأخوة الأعداء فصاروا يطلبون الحماية وينشدون الأمان في ربوع الأعداء الأصدقاء! دورة مغلقة للتاريخ على أعناق الجزائريين فكأنههم لم يبرحوا زمن المقاصل.
عادة ما يحصل التاريخ في غفلة منا. ينفذ من عقارب الساعة، يهرب من حدود اللغات ويباغتنا. ينقضّ علينا فلا يُبقى حصى على حصى. وهو الحاصل لنا، الآن. و"لنا" هنا هي تلك الدالّة على العرب أجمعين أسميناهم أمّة أو أمتنعنا. بل يخيّل إليّ أحيانا أن حالي الجغرافية هنا في فلسطين التاريخية غير ذات أهمية قياسا بحالي القومية الممتدة عبر الجغرافيا. أو إن زماني/تاريخي الحاصل على مرأى مني يطغى على مكاني تماما بل يلغيه. يفقد المكان العربي زمانه العربي فيفقد الوجود معناه. نحضر في المكان غائبين عن الزمان/عن التاريخ. لم يعد مقنعا ما نستذكره كأنه المطلق الخلدوني من إن لكل أمة حقبات أفولها أو إن لكل جواد كبوة. لم يعد مقنعا أن نقول بنظرية الاستعمار التركي الذي دام أربعة قرون وقضى على كل مساحة عقل فينا - الأتراك يتهمون المسلمين والإسلام بالتسبب في شرقنة تركيا ومنع تأوربها فأتى أتاتورك بمشروع التتريك تمييزا وتميّزا عن العُرب. لم يعد شافيا لعًُصاب الأسئلة ذاك الحديث عن الاستعمار الحديث وما تركه من نُدب في الروح العربية ولا عن مبنى القوة الذي ننحكم له براغي في ماكنات القوى الأقليمية ودروعا بشرية لجنودها. لم تعد تنطلي تلك الأحاديث عن الصحوة الإسلامية أو فجر الإسلام الذي لا بدّ آت كما أتى الجيش الأحمر لتحرير فلسطين! شيء ما معطوب على نحو غير قابل للعلاج بما توفّر من أعشاب الليل أو خلطات العطارين، ولا بما أوفدته حداثة القرنين التاسع عشر والعشرين من قومية واشتراكية وفاشية أو ما أمكننا من توليفات بينها، ولا بما استطاع الأصوليون منا سبيلا إلى حلولهم الإطلاقية. أما كان ممكنا لمصر أن تكون غير ما هي عليه الآن من مباركية في إثر ساداتية وفي إرث ناصرية؟ أما كان لسوريا الآن أن تقفز فوق نار جهنم منذ عقدين أو عقد أو العام 2000؟ أما كان للبنان أن يتجاوز حربا ومحنة والوقوف على حد السيف مشرعا على الصدفة؟ أما كان ممكنا للعراق أن يظل عراقا؟
شيء ما يصنعه لنا الآخر، آمنُا بنظرية المؤامرة الكبرى أو لم نؤمن، وشيء آخر يحصل لنا من تلقائه، لكن أشياء أخرى نصنعها لنا بأيدينا نحن، نتفنن فيها كما يتفنن السجانون في رواية عبد الرحمن منيف وكما يتجلى البيروقراطيون في "أرجوحة" محمد الماغوط التي انشدّت على عنقي أنا القارئ كأنها في الزنزانة مرة أخرى! أينما نظرنا كانت الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات الواعدة الباعثة على الأمل المسنود بشواهد ونصوص واجتهادات وتجربة ومعرفة.
الفضاء العربي يبدو مفخّخا تماما في نهاية قرن ونيّف من التجربة والخطأ. حالة لايصحّ معها أن نفسّرها بغياب الديموقراطية أو بتعثّر عملية التحويل الاقتصادي أو نمو المراكز المدينية العربية. ولا يمكننا أن نفسّرها، أيضا، بالقول إن الأصولية التي تحوّلت إلى إرهاب قصمت ظهر ما تبقّى من معقولية المشاريع المجرَّبة المُخفِقة أو بالقول إن استبداد النُخب وتفرّدها في الحكم ومراكز القوة هو السبب. تبدو لي قائمة التفسيرات والذرائع على هذا النسق ظواهر دالة على المأزق لا سببا مُفضيا إليه. ونحن في مأزق إذا ما فهمناه على إنه تراكم الأزمات وتعدد مستوياتها بحيث تنسدّ الطريق وينعدم أفق الخروج. ومن هنا اعتقادنا بالحاجة إلى تفكيك المعادلة حتى نخاعها وعدم الاكتفاء باللهو على سطح المأزق. أما التفكيك فيكمن ليس في البناء على فرضيات أو قوالب ورثناها أو أنتجناها على نسق المستورد من النظريات بل الهدم التام لما كان ومن الأساس حتى لا نبني على اللبنات المعطوبة القائمة. فهل الفكر القومي العربي في منشأه أو تطوره قام على عافية في "جسمه" و"روحه"؟ وهل نظريات البعث لاحقا التي اعتُبرت استكمالا للمشروع القومي ورافدا فيه ليست أقرب إلى الفاشية من أيّ شيء آخر؟ ألم تكن الناصرية المدمجة بالاشتراكية ضحية شعبويتها فأُكلت كما تأكل الثورة أبناءها؟ ألم يكن الماركسيون العرب ضحية دوغمائيتهم مثلما كانوا ضحية الأنظمة؟ هل لأن ثقافة العرب الاقتصادية تجارية قي أساسها استعصى عليها التحوّل والتحويل فتريّفت المراكز المدينية بدل أن تتمدن الأرياف؟ هل لأن الثقافة العربية تقوم في الأساس على موروث ديني بهذه الصفات؟ وهل لأن اللغة العربية ظلّت، بحجة القداسة، أسيرة الأعرابي منذ ألف وأربعمائة عام دون أن يفكّ عقالها ويتوكّل فما تحررنا نحن من الأسر ولكن شبّه لنا!
شيء ما معطوب منذ البدايات في الفكرة وفي تطبيقاتها، في فرضيات النظرية والممارسة بحيث ينبغي علينا أن نسأل عن الخطأ في الفِكر الأولى مثل الأمة والاستقلال والحرية والتحرر والاشتراكية والقومية والدولة والوِحدة والدين الحلّ والتقدم والحداثة، وليس أين أخطأنا في التطبيقات والتجارب والاستراتيجيات. أخطأنا هناك، في "البداية"، فحصدنا ما نحصده الآن في "النهاية". إما إننا أردنا أن نحرق مراحل التاريخ فاحترقنا بناره، أو إننا لم نقرأه سليما مثل مدرّسنا الأول فداستنا خيله. كان للعرب تاريخهم وتأريخهم، لكن حتى هذه الحقيقة الموضوعية لم يحسنوا قراءتها. وهنا السؤال عن نقطة البيكار، هل المعرفة متوفّرة لغرض القراءة السليمة والنطق السليم وسواء السبيل؟ نسأل الآن تمهيدا لزمن نُجيب فيه!
مرزوق الحلبي
دالية الكرمل