القوي والجبار.. كتاب مادلين اولبرايت الجديد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
القوي والجبار.. كتاب مادلين اولبرايت الجديد
منذ ان نشر شمعون بيريز كتابه ذائع الصيت: الشرق الاوسط الجديد الذي ترجم بسرعة البرق إلى العربية بعد معاهدة وادي عربة عام 1994 بين الاردن وأسرائيل، والعالم والعالم العربي يتلقى الدعوات تلو الاخرى نحو ما يعرف بالشرق الاوسط الجديد. مرة من حيث الواقع السياسي الحالي واخرى من حيث التاريخ القديم خاصة. ومناقشة القوة والجبروت البشريتين لا تحلو للباحثين إلا بعد أن يأتي الشرق الاوسط فيحضر بتاريخه المفعم بالحضارة والصراعات الدموية في آن.
القوة والجبروت: مسألتان طالما شغلتا العقل البشري منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. ومن الصعب على البشرية تجاوزهما في كلّ عصر. فقد عمل الرسل و الانبياء والمصلحون على نقل القوة والجبروت إلى الله سبحانه او إلى الجماعة وما تتفق عليه لكي يمنحوا البشر قدرا اكبر من السلام بينهم.
لكن تلك المحاولات الكبيرة على الرغم من جديتها وسلامة مواقفها لم تحقق ما تصبو إليه البشرية من سلام شامل ودائم. وبقيت في حالة صراع مستمر بين الاقوياء والجبارين والمستضعفين في كلّ عصر منذ ان قتل قابيل هابيل لتحدث اول جريمة مسجلة رسميا في التاريخ المكتوب.
ومادلين اولبرايت المرأة القوية في البيت الابيض سابقا تريد ان تخبرنا بالقصة من جديد وعلى طريقتها المشكوك فيها سلفا. فطوال مدة ولايتي الرئيس بيل كلنتون شغفت السيدة اولبرايت دائما بوضع (البروج) على الصدر: كانت تضع (كوبرا) على الجهة اليسرى حينما عينت سفيرا للولايات المتحدة في الامم المتحدة، وبعد ان أصبحت وزيرة لخارجيتها أيضا. ربما كانت الحية التي (خدعت) سيدنا آدم في التوراة هي شعارها الفلسفي والعملي، سواء ادركت ذلك ام لم تدرك! فقد اولت التوراة للحية ما يكفي من عناية فكرية واسطورية في الوقت نفسه مما لا يدع مجالا للشكّ بأهمية طريقة تفكير اولبرايت الفلسفية والتاريخية.
عملت مادلين على مناقشة القوي والجبار من وجهة نظر (اولبرايتية بحتة) لتهتم بالشان الدولي والشرق اوسطي خاصة. وليس اعتباطا ان ركزت اولبرايت طروحتها على منطقة الشرق الاوسط الإسلامي، حيث تكون واحدة من مناطق التصادم الدائمة منذ الحرب اليونانية الفارسية في التاريخ القديم.
فالشرق الاوسط كان وما يزال موضع اهتمام العالم، ليس لأن الخليقة بدأت من الشرق الاوسط، او الكتابة ظهرت فيه لأول مرة، او النظم السياسية، او الديانات السماوية والرسالات الإلهية، بل لأن الشرق الاوسط هو روح العالم منذ البداية وهو كينونته الاولى. ويبدو ان (قدره التاريخي) هو ان يبقى كذلك.
وجدت اولبرايت وهي المتحدرة من اوربا الشرقية ضالتها في التعبير عن روح العالم الذي لم تدرك مقاصده جيدا، لأنها بقيت حبيسة الرؤى القديمة التي تعتور في راسها والمتمثلة بالعلو اليهودي والجبروت الاميركي في الوقت نفسه. من الصعب على السيدة اولبرايت ان تدرك طبيعة التحولات التي تجتاح العالم، وخاصة تلك الاحداث التي تعصف باميركا اللاتينية وظهور قوى اليسار الجديد فيها.
وهاهي تعود إلى اوراق قديمة في البحث عن القوي والجبار.. ومصير العالم المتعلق بالشرق الاوسط.. هذا الشرق المفعم بالرسالات الإلهية والديانات والبترول أيضا. يمكننا ان نختصر العالم القديم كله بعالم الشرق الاوسط؛ باوراقه ومدوناته. ربما قبل ظهور اليهودية نفسها التي تهتم اولبرايت بالانتماء إليها بحكم الطبيعة البيتية المتشددة التي ورثتها عن أسرتها.
تجد اولبرايت صعوبات كبيرة ليس في تفهم التركيبة التاريخية للشرق الاوسط وطبيعة رؤاه المختلفة والموحدة بازاء الإنسان، ولا في تفسير التشدد فيه الذي ظهر اخيرا بين ظهراني المسلمين، بل في تلك الرؤية التوراتية التي طالما طاردت مادلين مذ كانت صغيرة وهي تحتمل افكار القدوم من التشدد الاوربي الشرقي إلى عالم حرّ. فجزء من التشدد الاولبرايتي يعود إلى الثقافة التوراتية التي هيمنت على الوزيرة السابقة. فهي في سلوكها الفكري لا تستطيع فكاكا عن ذلك، وطالما بقيت في حدود المواقف التوراتية القديمة التي لم تحاول اولبرايت مناقشة مدى ضيق افقها ومدى تزييفها للوقائع.
انعكس الوضع بقوة على سلوك مادلين السياسي وطريقة حديثها التي تعجب جون بولتن سفير الولايات المتحدة الآن لدى الأمم المتحدة: السخرية وعدم التروي والهجوم على الثوابت. فإن اولبرايت طالما عملت على هدم الثوابت الإنسانية المتعلقة بالحصار الأعمى الذي رسم لأبادة الشعب العراقي طوال 13 عاما سوداء.
أهتمت اولبرايت في الدعاية لكتابها بعلاقتها الحميمة باختها الجمهورية المس كونداليزا رايس، فذكرتنا اولبرايت بالعلاقات الحميمة التي تربطها بوزيرة الخارجية على الرغم من ان الاخيرة تتحدر من الافارقة وهي من حزب غريم تاريخي؛ فرايس كان قد أشرف والد اولبرايت الأستاذ الجامعي للعلوم السياسية على رسالتيها في الماجستير والدكتوراه والمتعلقتان بسياسة مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، وطرق تعامل الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة مع اكبر قوة نووية عرفها العالم في القرن المنصرم.
وتذكرنا اولبرايت دائما بكولدا مائير تلك المراة التي تمتلك ما يكفي من (الحديدية المتصهينة والمعجّنة بتوراتية في دمها) قبل مارجريت تاتشر صاحبة اللقب العتيد بعد ذلك. فاولبرايت تشبه في سلوكها السياسي المتشدد وقتذاك (قريبتها) العتيدة (كولدا مائير) رئيسة وزراء أسرائيل السابقة التي تعد واحدة من أهم صناع القرار في أسرائيل في النصف الثاني من القرن العشرين.
ربما وجدت سيدة السياسة الاميركية على مدى ولايتين في عقد التسعينات ما يكفي من الصعوبات في فهم توجهات السياسة الخارجية في عهد الصقور المغامرين في البيت الأبيض. وهاهي لا تبخل عليهم بنصائحها (الديمقراطية) لأنها قد تجد نفسها معهم في خندق واحد. ومادلين على الرغم من أنها (ديمقراطية) فهي لما تزل تحظى باستشارات من البيت الابيض الذي يديره الصقور الجمهوريون الآن، وهي تقدم كلّ معلوماتها المفيدة وغير المفيدة إلى اولئك الذين تجد في نياتهم رسم خارطة جديدة للشرق الاوسط، صراحة - كسايكس بيكو جديدة- وكما عرض ذلك موقع Armed Forces Journal خريطتين للشرق الأوسط قبل وبعد وتناقلها البريد ووسائل الاعلام.
تظهر الخارطة الثانية تقسيم الشرق الاوسط بتفتيت الوحدات الكبرى فيه كالعراق وإيران والسعودية.. وهي النظرية الإسرائيلية القديمة التي تدعو إلى نشر الطائفية والعرقية في جميع مناطق الشرق الأوسط محاولة لرسم سبل جديدة في الهيمنة الجديدة وضرب حزام ما يعرف بدول الطوق التي تخلى معظمها عن المواجهة العسكرية وما تزال سوريا على القائمة أيضا.
ولمادلين اهمية شبه استثنائية ولأقوالها وتحديداتها في السياسة الخارجية الاميركية وقع خاص في أروقة الإدارة الحالية. لاشكّ بانها قد حزنت كثيرا الآن على المصير الذي آل إليه ليبرمان الديمقراطي الصديء المدافع عن بشاعات الصهاينة وسياساتهم اللاإنسانية.
كانت مادلين - من اجل تحسين صورتها البشعة- قد اعتذرت قبل مدة عن تصريحات سابقة بشأن أطفال العراق، وعما إذا كانوا يستحقون الموت في عهد العقوبات المفروضة على نظام صدام. لكنه جاء أعتذارا متأخرا ولا موقع له بعد ان فقدت منصبها بإدارة جمهورية جديدة. ولو كانت صادقة بالاعتذار المزعوم ذاك فلربما جاء إبان مدة بقائها في المنصب، او بعد مدة قصيرة من قدوم الجمهوريين إلى البيت الابيض في الاقل. لكنه اعتذار بارد جدا ولم يعد ذو معنى الآن بعد ان قضى اكثر من مليون طفل عراقي على الأسرة البيض..
وهاهي مادلين اولبرايت أبنة السياسي وأستاذ الجامعة اللاجيء التشيكسلوفاكي في الولايات المتحدة، تهتم بما هو قادم، وتنهمك في المستقبل الشرق اوسطي من وجهة نظر قديمة لرسم خارطتة المستقبلية. ولا تجد أولبرايت تناقضا واضحا في ذلك. فالافكار القديمة يمكن ان تسهم في بناء المستقبل أيضا!!
لقد حصلت اوابرايت على ما يكفي من تعليم في وطنها الجديد الولايات المتحدة مما أهلها للوصول إلى أعلى المناصب، وهاهي تعمل من اجلها بروح استعلائية مقيتة احيانا. فقد عرف عن الوزيرة السابقة تجهمها وشعورها الدائم بالحزن اللامبرر.
حسنا، هاهي تعود إلينا من جديد بعد ان استبدلت (بروج) الحية ببروج الفراشة.. فهل تريد السيدة اولبرايت أن تفهم الآخرين وداعتها الجديدة بعد ان عملت على إذكاء روح العداوة بينها وبين الشعب العراقي؟
ربما على أولبرايت ان تقدم هي والإدارة الأميركية السابقة والإدارة الحالية أيضا ملايين الأعتذارات إلى الشعب العراقي المظلوم في كلّ وقت وفي كلّ حين. فهي تعلم قبل غيرها ان (العقوبات الدولية الصارمة) التي طالت معظم أبناء الشعب العراقي لم تطل رموز النظام ولا العناصر الموالية له، ووقعت بالدرجة الاساس على الطبقات الفقيرة والمعدمة منه ليس إلا.. كانت السيدة الفريدة تصرّ وبقوة على بقاء المذبحة اليومية للعراقيين.. أفلا يستحق الشعب العراقي جميعا الأعتذار الآن عن مجمل السياسات الخاطئة واللاإنسانية؟
من هو القوي ومن هو الجبار بنظر اولبرايت؟
هاهي التقارير الدولية تترى حول عدم تمكن العقوبات الصارمة السابقة من أسقاط نظام صدام حسين بل هي تحذر من تكرار التجربة في أي بلد آخر في العالم، لأن العقوبات لن تطال دائما إلا الفقراء والمعدمين والمهمشين اجتماعيا. اما رؤوس النظام فهي غالبا ما تحتفل بأعياد ميلادها بعربة من ذهب.. أليس كذلك؟
مرة اخرى: من هو القوي ومن هو الجبار في الشرق الاوسط بالنسبة لمادلين اولبرايت؟
من المفيد ان نذكر بان عديدا من الساسة الاميركيين بعد تقاعدهم او أنسحابهم من الاضواء لا يلجأون إلى كتابة مذكراتهم كما فعل رئيس أولبرايت السابق بيل كلنتون، بل هم قد يلجأون إلى الكتابة في التاريخ أوالثقافة، أوكيفية الحصول على منصب في بلد حرّ عن طريق الإنتهازية الشرعية. فتحقق هذه الكتب على العموم مبيعات عالية بعد ان تجرى لها سلسلة من الدعايات الواسعة كما يجري الآن لكتاب اولبرايت: القوي والجبار..
تحاول اولبرايت في كتابها أن تدرس الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهي تجهد نفسها لإيجاد الوشائج بينها.. على الرغم من ان تلك المحاولة قد جرت من عديد من الباحثين الاكاديمين في كليات حوار الأديان او دراسات الشرق الأوسط القديم. وخاصة تلك الوشائج التي تدعو إلى السلام بين الديانات الثلاث.. لكن محاولة اولبرايت في توظيفها في الشرق الأوسط الجديد هو الجديد في المسألة.
فالسلام بين الديانات الإلهية الثلاث ليس اختراعا اوليبرايتيا بل هو حقيقة قائمة يدركها كلّ من عمل في حقل التعايش السلمي بين الديانات الرئيسة الثلاث في الشرق الأوسط. فإن نزعة السلم بين الشعوب في الشرق الاوسط هي الثابتة والقائمة، وما وضعية الحرب او الإرهاب إلا حالة طارئة يذكيها أصحاب المصالح والنفوذ والهيمنة بكل اشكالها.
ويبدو ان اولبرايت لم تبذل كبير جهد في ذلك لأن جميع الديانات مصدرها واحد هو الله سبحانه، وهي تدعو إلى الخير والسلام والحرية لجميع البشر. اما ما حرّف او شوه او وضع في غير موضعه عن هذا الدين او ذاك فهو ردّ.. واولبرايت لا تسوق كتابها المزعوم عن القوي والجبار بدوافع إنسانية او اكاديمية بل من اجل وضع (برواز) غير مناسب لعملية ما يعرف بالشرق الاوسط الجديد.
من المفيد ان نذكر بان شعوب الشرق الاوسط تعمل على وضع أسس لشرق اوسط جديد بعيدا عن الهيمنة والتحكم الاميركيين. فشرق اوسط لن يكون في ظل سيطرة أقتصادية اسرائيلية وضياع كامل لحقوق الشعب الفلسطيني في العيش في دولة حرة ومستقلة على ترابه الوطني. كما انه لا يكمن ان يعيش في ظل انظمة اقل ما يقال عنها انها دكتاتورية عفنة تعمل على الضد من حقوق الإنسان دائما.
ومن هنا فإن قضية الشرق الاوسط لا تحل إلا بإرادة شعوب الشرق الاوسط نفسها وليس على وفق إرادة من خارجه. فليس ثمة مكان لديمقراطية (السردين) التي تحاول الولايات المتحدة تصديرها إلى المنطقة من حين لاخر. وعلى الرغم من ان الرئيس بوش قد أشتكى مؤخرا من عدم تفهم الشعوب - وخاصة الشعب العراقي وحكومته- للدور الاميركي.. إلا ان الواقع لا يتعلق بتفهم الشعوب والحكومات لقضية الحرية والديمقراطية بل بالطريقة التي يعمل على تطمينها.. فالولايات المتحدة بمجموع اخطائها المعترف او غير المعترف بها- في العراق حصرا- تشكل حجر الزاوية في سؤ الفهم ذاك..
كتاب اولبرايت ليس دعوة إنسانية بزغت فجاة في عقل قاتلة الاطفال العراقيين، بل هو يصبّ في مشروع ما يعرف بالشرق الاوسط الجديد ومقولته: لم تتقاتلون ومصدركم واحد: أبراهيم او أبرام؟ الكتاب على العموم ليس بحثا تاريخيا بل هو يصبّ في الاتجاه الاميركي لبناء ما يعرف بالشرق الاوسط الجديد. وإذا كان ثمة ما يلفت النظر إليه هو هذا التوقيت الفريد في دعوات كوندا ليزا رايس وصدور الكتاب..؟
إن القوي والجبار ليس الخالق والسياسي الحاكم، وما هو ذلك الجدل القديم بين الديني و الدنيوي؛ بل هو ذلك الصراع المقيت بين طلاب السلطة والهيمنة والأستحواذ غير المشروع دائما.
القوي والجبار هي الولايات المتحدة التي تأمل ان تحوز على الصفتين في الشرق الاوسط: القوة والجبروت.
د. رياض الأسدي