أصداء

ترکيا و حساباتها الکوردية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مع إزدياد شدة الحصار الذي تفرضه ترکيا عبر قنوات عدة على حزب العمال الکوردستاني و ما يترافق ذلک من صعود "صقور"عسکرية الى واجهة القيادة العسکرية وتأثيرات و إنعکاسات کل هذا الامر على تغيير ملفت للنظر في تشدد خطابها السياسي و فعلها العسکري إزاء الملف الکوردي، بدأت انقرة تدرک رويدا رويدا أهمية النتائج المتمخضة عن سياستها الآنفة.


وقد لا يکون من الصواب إعتبار السياسة الآنفة التي شرعت بها حکومة السيد رجب طيب اردوغان، سياسة طارئة على ترکيا، بل هي في واقع أمرها إمتداد لمسار سياسي حافل إتسم في خطه العام بالتشدد، ومن المفيد الإشارة الى ما لعبته و تلعبه الورقة الکوردية من دور مهم في الصراع السياسي الدائر بين العواصم الثلاث(انقرة، طهران، دشق)ومحاولة کل منها إستخدام هذه الورقة لصالح ملفات حساسة أخرى فيما بينها، ومما يجب الوقوف عنده، هو ان ترکيا قد إستطاعت حسم أمر هذه الورقة حاليا لصالحها و لجم و تحديد تلاعب کل من طهران و دمشق بها. لکن تخلي إيران و سوريا عن ورقة الضغط الکوردية في نفس الوقت لم يأت إعتباطا ومن دون حسابات مسبقة ترتبط بالجغرافيا السياسية و الجغرافيا الاستراتيجية التي تجمع هذه العواصم"المنافسة لبعضها"، فدمشق قد تخلت عن زعيم حزب العمال الکوردستاني لصالح ترکيا و أنهت دعمها لهذا الحزب، مقابل دور ترکي مجزي و فعال في سياقات سياسية أخرى بإمکاننا الإشارة الى قضية التحقيق الدولي في إغتيال رفيق الحريري کنموذج ظاهر لها وهو أمر لم يکن بوسع الرئيس السوري بشار الاسد تجاهله وإنما اشار إليه في سياق مفاضلة ترکية ـ عربية لصالح الاولى. إلا أن الدعم الترکي کما أردفنا يرتبط فيما يرتبط بعوامل "إستراتيجية" مستقبلية حساسة تهم البلدين، ذلک إن خلخلة الوضع السوري وإعادة سيناريو مشابه للذي جرى في العراق، سوف يکون من شأنه تهيأة الاجواء التي تکفل صعودا و تألقا لدور قوي و مؤثر للکورد في سوريا، وهو أمر سوف تکون له إنعکاسات و تداعيات في منتهى السلبية على الوضع الداخلي في ترکيا.


أما طهران، فهي لم تکتف بإنهاء دعمها المالي و العسکري الذي کانت تقدمه لحزب العمال الکوردستاني، وإنما تجازت ذلک الى إشتراکها في تنسيق سياسي ـ عسکري ـ أمني فعال مع ترکيا ضد ذلک الحزب، وإذا ماکانت طهران عندما تخلت عن دعمها للحرکة الکوردية العراقية عام1975، حين أبرمت إتفاقية الجزائر مع النظام العراقي السابق، کانت قد إتفقت مع الحکومة العراقية على السماح لبعضيهما بالدخول في داخل أراضي الاخرى"لو إستدعى الامر"بحثا عن"المتمردين"الکورد، فإنها اليوم تشترک في تنسيق شن هجمات عسکرية ميدانية بکل الاتجاهات ضد مقاتلي حزب العمال الذي بات المراقبون يشيرون الى أن خريف صعب و حاسم بإنتظاره. غير إن الجمهورية الاسلامية الايرانية، لم تتخلى هي أيضا من دون مقابل عن ورقة ضغطها الکوردية ضد ترکيا، وإنما کان ذلک مقابل ثمن کانت طهران و لازالت في أمس الحاجة إليها، وذلک الثمن تجلى في وقوف ترکيا"الضمني"الى جانبها في ما يخص تداعيات صراعها السياسي المثير الذي تخوضه مع الغرب، وهو أمر له إرتباط"أيضا"لا بالشأن الکوردي لوحده فقط، وإنما بشؤون عموم القوميات الاخرى المتواجدة في إيران من عرب و آذريين و بلوش و ترکمان و غيرهم، خصوصا وأن الولايات المتحدة الامريکية قد شرعت في سياسة"القوة الناعمة"ضد إيران وهي سياسة ترتکز على ممارسة ضغوطات سياسية ـ إقتصادية متباينة بهدف إرکاعها و دفعها للرضوخ للمطالب الامريکية، وفي سياق هذه السياسة أيضا، لابد من الإشارة الى ذلک المؤتمر الذي عقدته واشنطن لممثلي الشعوب الايرانية من عرب و کورد و آذريين و بلوش بخصوص الدعوة لإيران"فيدرالية"، وهو أمر يبدو أن مدى إزعاجه قد ظهر في انقرة قبل طهران، ومن هنا کان الدعم الضمني الترکي واضح و مؤثر لصالح وقاية إيران من أية ضربة عسکرية تکون أصدائها النهائية في عمق الاراضي الترکية ذاتها. والحق إن طهران قد أصبحت في هذا المقطع الزمني من تأريخ علاقاتها المتسمة بالتوتر و التباين مع جارتها، أکثر إستسلاما و رضوخا للمشيئة الترکية. ومع ذلک، وعلى الرغم من أن السرب کله بات يغرد وفق نغمة أقرب للنغمة الترکية، لکن ذلک لا يعني أن تستسلم ترکيا لنشوة تفوقها المرحلي ـ النسبي هذا، إذ أن الملفين الإيراني و السوري هما من أسخن الملفات السياسية لافي المنطقة فحسب وإنما على صعيد العالم وهما قبلان للإتقاد في أية لحظة ولن تکون هناک نيران من دون لهيب کوردي يتصاعد من بينها.


أما الطرف الاهم في العلاقات الاستراتيجية لترکيا على الصعيد العالمي، الولايات المتحدة الامريکية، فعلى الرغم من ذلک الفتور و البرود الذي أحاط بالعلاقات الثنائية للبلدين، فإن أحدهما ليس بإمکانه التخلي عن الآخر، خصوصا وإن الذي يجمع بينهما هو أکثر بکثير من الذي يفرق بينهما، ومع أن واشنطن قد أدرکت أهمية و جدوى الورقة الکوردية في العراق من جوانب عديدة، فإنها لم تزل لحد الان مترددة في المزيد من الانجراف وراء سياسة الدعم الذي تقدمه لإقليم کوردستان العراق وإنها مازالت تشعر بحذر شديد من الطموحات الکوردية الشعبية المتزايدة والتي بات القادة الکورد العراقيين لا يملکون خيارات کثيرة للسيطرة عليها أو تحديدها على أقل تقدير، وقد تکون المسألة الاکثر إثارة للجدل و التباين بين واشنطن و الزعماء الکورد، هي قضية کرکوک التي تشکل القضية الاهم لترکيا بعد حزب العمال الکوردستاني، إذ ترى انقرة إن إستحواذ الکورد على تلک المدينة الغنية بالبترول، سوف يزيد من إحتمالات إنفصال الکورد العراقيين مستقبلا وتشکيل دولة کوردية مستقلة، ولأجل ذلک تصاعدت الدعوات مؤخرا من دوائر أمريکية عدة تنادي أو تحذر من خطر تأييد المطالب الکوردية في کرکوک. بيد أن واشنطن تدرک أيضا إنها ماتزال بحاجة الى الورقة الکوردية في الشمال العراقي، وإن إتباعها لسياسة جديدة تبتعد من خلالها عن الکورد إرضاءا لدول المنطقة و على رأسها ترکيا، سوف يکون من شأنه دفع الشعب الکوردي الى إعادة النظر بموقفه المؤيد"أکثر من اللازم"للولايات المتحدة الامريکية، وهو أمر لايخدم حاليا على الاقل الاستراتيجية التي تبني عليها السياسة الامريکية أسسها.


أما اوربا، التي تتطلع ترکيا للإنضمام الى إتحادها، فإنها مازالت غير مستعجلة من حزم أمرها تجاه ترکيا، بل وهي تکاد تکون في أحايين کثيرة غير مکترثة بالشأن الکوردي، طالما أن واشنطن تتولى بنفسها حسم تلک المسألة مع ترکيا. إلا أن القلق الاکبر يتملک انقرة سيما وأن "مبادئ کوبنهاکن"التي صارت بمثابة شعرة معاوية بيد الاتحاد الاوربي، هي ورقة الضغط الکوردية ذاتها التي حسمتها ترکيا مع العديد من الدول و الاطراف ذلک أن العديد من الدول الاوربية المؤثرة(فرنسا، النمسا، المانيا)لاتحبذ رؤية انقرة وقد أصبحت عضوة في الاتحاد الاوربي، وطالما تدرک تلک الدول أن مبررها الوحيد لإبقاء بابها مغلقا بوجه ترکيا سوف يکون الملف الکوردي، فإن تلک الدول لاتجد مناصا من التشبث بهذا المبرر الذي يرتکز في الواقع على أسس إنسانية منطقية.


أما إقليم کوردستان العراق، الذي وجد نفسه بين فکي کماشة جمعتها و تجمعها مسألة السعي للحيلولة دون قيام أي کيان کوردي مستقل في المنطقة، فقد رأت أن واشنطن قد کشفت عن جانب من وجهها"البراغماتي"حين رمت الکرة في داخل الملعب الکوردي و العراقي ونأت بنفسها"في الوقت الحاضر"بعيدا عن القضية، وکل الذي کان بوسع حکومة الاقليم القيام به، هو ممارسة المزيد من الضغط على حزب العمال الکوردستاني کما هو حال مختلف القوى الدولية بخصوص تعاملها مع هذا الحزب، والحق إن هذا المنطق يجسد حقيقة مرة بالنسبة لعموم الشعب الکوردي، إذ هو يجسد منطق محاسبة الضحية دون الجلاد، فليس هناک حاليا صوت واحد يعلو لمطالبة انقرة بإتباع سياسة منصفة تجاه الشعب الکوردي. وفي کل الاحوال، فإن حکومة إقليم کوردستان التي لم تجد بدا من لجوئها الى موقف الضغط على حزب العمال، سوف ترى أن ساسة و جنرالات انقرة سوف لا يکتفون بقص"ظفر"حزب العمال الکوردستاني، وإنما سوف يتجاوزونه الى مديات أوسع و أشد سلبية في تأثيرها على المستقبل السياسي لحکومة الاقليم ذاتها.


ويبقى حزب العمال الکوردستاني و مشروع السلام الذي أعلن عنه من خلال وقفه المزمع لوقف إطلاق النار مع ترکيا إعتبارا من الاول من ايلول"اليوم العالمي للسلام"، والذي واجهته ترکيا بعدم إکتراث و لا أبالية متقصدة حين إندفعت للمزيد من حشد قواتها العسکرية على حدود الاقليم الکوردي، وهو أمر يعني أن ترکيا تضع هذا الحزب أمام خيارين لاثالث لهما، وهما، إما قتال غير متکافئ يصيب شرارته الاقليم الکوردي العراقي ذاته، أو الإستسلام للمشيئة الترکية بدون أية شروط.


في التأريخ مقاطع مهمة و ذات عبر و دروس بليغة لمن يفهمون مغزاها، وهي أن مابني على الباطل سوف لن يستمر الى مالانهاية وإن ذلک البناء سوف ينهد من أساسه في ذات يوم، ونظرة الى قصة إقليم الباسک مع اسبانيا، والتي تميزت بتجاهل مستمر لمدريد لمطالب شعب ذلک الاقليم، وهاهي اسبانيا تنصاع اليوم لمنطق العقل وتجلس الى طاولة المفاوضات مع ثوار الباسک لإنهاء المشکلة عن طريق الحوار، ويظهر إن ترکيا التي حرصت لا على تجاهل حزب العمال الکوردستاني فحسب وإنما هي تتجاهل أمة برمتها وترفض الاقرار بوجودها على أرض الواقع، لکن إستمرار الرفض الترکي سوف لا و لن يکون الى مالانهاية ولابد من يوم أن تذعن أنقرة ورغم أنفها على الجلوس الى طاولة الحوار و الإستماع مذعنة الى مطالب الشعب الکوردي، وقبل هذا کله لابد من ذکر حقيقة أهم وهي إن إنهاء و تصفية"حزب العمال الکوردستاني"لو قدر لترکيا ذلک، سوف تکون بمثابة الشرارة التي تشعل آتون الغضب و الثورة في الامة الکوردية وسوف تمنح المزيد من أسباب تماسک و توحد هذه الامة على طريق بلوغ أهدافها، وهو أمر سوف لن يکون من السهل على أمريکا و الغرب إيجاد المبررات الکافية له للإستمرار في تجاهله إکراما لدولة مازالت تعتبر الاعتراف بالهوية القومية لأکثر من عشرين مليون کوردي مسألة فيها أکثر من نظر!

نزار جاف

nezarjaff@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف