اللص والكلاب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لغاية الأسف لم أقرأ كثيرا من روايات الراحل الباقى نجيب محفوظ، ولكن إن إمتد بى العمر وشفى البصر فسأعيد قراءة ما قرأته، وقراءة قدر ما يمكننى مما فاتنى. وأظن أن أى مصرى لم يقرأ لنجيب محفوظ ولو قصة واحدة على الأقل هو مصرى ناقص المصرية. إبداعات نجيب محفوظ - ولا أقول الفقيد - كثيرة، ولكنى وعلى قدر تذكرى بهرتنى روايته "اللص والكلاب" ولا زالت تبهرنى لليوم. سبب إنبهارى ليس إسلوب كتابته فقط ولا تصويره للوقائع بدقة متناهية ولا إسقاطاته الباهرة الذكاء، رغم إحتواء كل ذلك على دواعى الإنبهار. ما يبهرنى حقيقة هى الفكرة التى حوتها الرواية فى تفاصيل دقيقة تبدو وكأنها غير مقصودة او عادية جدا ولكنها تحمل من المعانى والأفكار كل ما هو جدير بالتمعن.
فكرة القصة وإن كنت أظن أن الغالبية قد قرأتها، أو على الأقل شاهدتها فيلما جميلا بذات الإسم، تحكى قصة شخص هو لص وآخرين هم فى حقيقتهم كلاب. الرواية تبدأ بتعريف القارى على اللص " سعيد مهران"، أنه شخص يسرق إما ليأكل أو لينتقم ليشفى غليله من ظلم المجتمع! الكلاب التى أبدع فى تصويرها نجيب محفوظ هم ذاتهم كلاب كل زمان ومكان... أهم كلاب الرواية هو طالب العلم المتفلسف "رؤوف علوان" الذى تضامن مع اللص سعيد مهران فى أول الرواية وأنقذه من دفع ثمن جريمة سرقة بسيطة. هل أراد الكاتب أن يقول أن الكاذب الفاسد رؤوف علوان يحمى زميل المهنة حتى ولو كان المستوى فى عالم الإجرام مختلف أشد الإختلاف بين لص حقير ومجرم آخر بدرجة طالب علم؟ أم هل أراد أن يقول أن حتى المجرم "الكلب" هو نتاج مجتمعه وليس شيطانا رجيما بالكلية؟
الكلب الآخر الذى يعرفنا عليه نجيب محفوظ هو "عليش" شريك مهران فى اللصوصية ولكنه يزيد عنه فى أنه أيضا من فصيلة الكلاب. عليش لم يكن يسرق فقط مثل سعيد مهران ولكنه أيضا وشى به وإستولى على زوجته أثناء قضائه لعقوبة بالسجن بتواطؤ مع الزوجة الخائنة، وقد إستحقت الزوجة بذلك أن يقدمها الكاتب أيضا بصفتها إحدى كلاب المجتمع. وبين اللص سعيد مهران والكلاب "رؤوف علوان" و"عليش" والزوجة الخائنة دفع المجتمع الثمن. دفعه الساكن الجديد لمسكن عليش فقتل بدلا منه... دفعه ايضا بواب فيلا رؤوف علوان الذى قتل أثناء محاولة سعيد مهران الإنتقام ممن يعرف كل المعرفة أنه كاذب وغاش ومجرم ويستحق القتل... دفعته أيضا بائعة الهوى "نور" عشيقة سعيد مهران، والتى أظن أن الكاتب قد ضمها إلى فئة الشعب المسكين فى لفتة راقية منه تفيد إلى أنه يوحد آخرين مثل زوجة مهران السابقة أشد منها خطيئة وعهرا!
ننظر حولنا ونفكر كم من نماذج رواية "اللص والكلاب" لازال يعيش بيننا؟ كل اللصوص التى لا يخلو منهم مجتمع هم سعيد مهران ويلفظهم المجتمع وتتابعهم السلطة ويدخلون السجون. وهذه حقيقة بسيطة، أما الحقيقة الأقسى فهى كم عليش بيننا يزيدون عن أنهم لصوص لكنهم أيضا كلاب؟ كم لصا لا يكتفى فقط بأن يسرق أو ينشل نقودا ولكنه يخطف أطفالا مثلا أو يقرن السرقة بالقتل ولربما بالإغتصاب وأيضا بالخيانة. وهؤلاء فى القصة وفى الحياة هم الأبعد عن دفع ثمن جرائمهم ولهم علاقات إلى حد ما مع السلطة التى كانت بدرجة مخبر فى القصة. ورغم أن مهران دخل السجن لكن عليش أفلت بحصيلة سرقاته وبزوجة مهران.
الحقيقة الصاعقة أنه صار لدينا ملايين رؤوف علوان. كان رؤوف علوان إعلامى فى القصة وكأن الكاتب جراح نكأ جرحا ممتلىء بالصديد. أكثر الرؤوف علوانيين الذين يعيشون بين ظهرانينا هم أيضا للأسف يطلق عليهم أنهم إعلاميون! الكاتب الذى يكذب وينافق ويزور الحقائق ويزيف وعى الجماهير هو رؤوف علوان آخر لا زال يعيش بيننا! الإعلامى الذى يسرق محل عمله ويتلقى عمولات ورشاوى و"هدايا قيمة" ويبتز الأثرياء وإلا أساء لسمعتهم هو رؤوف علوان! الإعلامى الذى يتمسح بالدين ويصنع منه سبوبة للعيش هو أيضا رؤوف علوان وأكثر.... أيضا المحافظ الذى يستغل سلطاته، والطبيب الذى يغتصب مريضاته، والقاضى الذى لا يحكم بالقانون، والمدرس الذى لا يدرس، ومدير البنك الذى يسرق، وكل موظف وصاحب مركز ونائب منتخب لا يقوم بما اؤتمن عليه هو رؤوف علوان...
ليرحمك الله ياأستاذ نجيب...
عادل حزين
نيويورك
Adel.hazeen@gmail.com