اجهزة السلطة في اقاليم الدولة الفيدرالية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اصبحت موضوعة الفيدرالية واحدة من القضايا الاكثر اثارة في الحياة السياسية العراقية في الوقت الراهن، الأ ان ما كتب عن الفيدرالية لحد وما نوقش حولها لا يؤلف سوى النزر القليل من الموروث الغزير الذي خلفته تجربة البلدان التي اتخذت من الفيد رالية شكلا للدولة، والتي تؤلف الاقطاب الاكثر اهمية على الخارطة السياسية لعالمنا المعاصر. من هنا الاهمية البالغة للخوض في الجوانب المختلفة لموضوعة الفيدرالية، النظرية منها وتلك التي تتناول تجارب الشعوب في تنظيم اجهزة السلطة في اقاليم الدولة الاتحادية وتلك التي لا تتمتع بصفة الطرف الفيدرالي القانونية.
تتميز اجهزة السلطة في اقاليم الدولة الفيدرالية والوحدات التي لا تتمتع بصفة الاقليم في الدولة بالاختلاف والتنوّع. وربما كان لأختلاف اساليب نشوء تلك الفيدراليات وخصوصيات مكوناتها القومية والاثنية والدينية والطائفية، وحتى الثقافية واللغوية، اثر في ذلك التنوع والاختلاف. فاستعراض ما يزيد عن العشرين دولة فيدرالية تظم 300 اقليما (جمهورية وولاية ومقاطعة واقليم ومحافظة...الخ) واكثر من 20 وحدة لا تتمتع بصفة الاقليم الفيدرالي، تدلنا على مدى تمتع اجهزة السلطة فيها بسمات جوهرية مميزة وغير مكررة. لكن مهمة البحث المستفيض في خصائص تلك الاجهزة تبدو عسيرة وغير واقعية، لا سيما في مقالة محدودة المساحة. لذا اجد ضروريا تناول السمات الاكثر عمومية وشمولا لاجهزة السلطة في اقاليم الدولة الفيدرالية ووحداتها الغير متمتعة بصفة الاقليم (الطرف) الفيدرالي. وهنا اجد لزاما التنويه الى ان الكثيرين، حتى من بين الحقوقيين ورجال الدولة باتوا يطلقون تسمية الفيدراليات على اطراف الدولة الفيدرالية (اي اقاليمها)، ما يجعلنا نقف امام حالة التباس المفاهيم. فالفيدرالية كمفهوم سيا - قانوني تعني الدولة التي تؤلف مساحة وحداتها الادارية ومكوناتها، المساحة التي تسري عليها سلطة الدولة العامة وقوانينها، وهما العنصران اللذان يجسدان مبدأ سيادة الدولة على كامل ترابها الوطني (مساحتها). حتى انه يبدو غريبا، وربما نشازا ايضا، القول بان الدولة الفيدرالية (الاتحادية) تتألف من فيدراليات (اتحاديات). فعبارة فيدراليات الدولة الفيدرالية تولد انطباعا بتجزأة الدولة وليس اتحاد اقاليمها، ما يعتبر مخالفا للنظرية والواقع على حد سواء. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن تسمية اقاليم الدولة الفيدرالية بالفيدراليات تضعنا امام اشكالية التمييز بينها وبين مكونات ووحدات الدولة التي لا تتمتع بصفة الاقليم الفيدرالي، ذلك انها (التسمية) ستضعنا امام اشكالية تحديد المركز الفيدرالي (الاتحادي)، الذي ينبغي ان ترتبط به تلك الوحدات. من هنا اجد ان اطلاق تسمية الاقاليم او الاطراف الفيدرالية الاكثر دقة، وهذا ما بات معروفا سواءا في نظرية القانون الدستوري او في تشريعات الدول الفيدرالية المعاصرة، مثل الدساتير والقوانين وكذلك العقود التي تنظم العلاقة بين المركز الاتحادي وسلطات مكوّنات الدولة الفيدرالية (جمهوريات، ولايات، اقاليم، محافظات....الخ).
وحدات الدولة الفيدرالية التي لا تمتلك صفة الطرف الفيدرالي، كما اقاليمها يمكنها ان تمتلك اجهزة تمثيلية منتخبة، غير ان انتخاب تلك الاجهزة في الاقاليم يبدو اكيدا ومنتظما، ما عدا الحالات التي تقوم السلطات المركزية فيها بايقاف نشاطها كالحالات التي ترافق اعلان حالة الطوارئ في جميع انحاء الدولة او عند تفعيل مبدأ التدخل الفيدرالي في بعض من اقاليمها،فيما تخلو وحدات الدولة الادارية الغير متمتعة بصفة الاطراف الفيدرالية من تلك الاجهزة في بعض الدوّل (الهند مثالا). بالاضافة الى ذلك فأن كيفية انتخاب اجهزة الاقاليم التمثيلية وتحديد بنيتها الداخلية واشكال نشاطها عادة ما تحال لقواعد التشريع المحلي. ففي الوقت الذي نجد فيه ان الغالبية العظمى من الولايات الامريكية تمتلك برلمان المجلسين يكتفي نصف الولايات الهندية بانتخاب برلمان المجلس الواحد. اما في روسيا الفيدرالية فان اغلب الاقاليم ذهبت الى التأسيس لنظام المجلس الواحد حيث لا نجد برلمانا بمجلسين سوى في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي.
ان واحدة من الصفات التي يمكنها ان تمتلك قيمة جوهرية في مسألة التمييز بين اقاليم الدولة الفيدرالية ووحداتها الادارية هو حجم الصلاحيات الممنوحة لاجهزتها التمثيلية - التشريعية، والدور الذي من الممكن ان تلعبه تلك الاجهزة في حياة الاقليم الفيدرالي. ففي الوقت الذي تعتبر فيه تلك البرلمانات اجهزة لسلطة الاقاليم، لا يعدو دور الاجهزة التمثيلية للوحدات الادارية (ان وجدت طبعا) ان يكون استشاريا، ذلك انها عادة ما تكون تابعة لمحافظي تلك الوحدات ومديري اجهزة الادارة المحلية فيها والذين يعيّنون من قبل السلطات المركزية. بالاضافة الى ذلك فان الاجهزة التشريعية للاقاليم تقوم، في اغلب الاحيان، باتخاذ قوانينها الاساسية (الدساتير والانظمة واللوائح...الخ) والتي يتطلب لسريانها اجراء الاستفتاء المحلي احيانا. فيما تخلو الوحدات التي لا تمتلك صفة الطرف الفيدرالي من تلك القوانين، وان امتلكت تلك الاجهزة بعض اللوائح والتشريعات لتنظيم نشاطها فانها عادة ما تكون مشرعة من قبل البرلمان الفيدرالي (في الولايات المتحدة الامريكية مثلا). وقد اتاحت تشريعات بعض الدول الفيدرالية لاجهزة تلك الوحدات سن بعض اللوائح لتنظيم الشؤون المحلية (تسمى القوانين في كل من الهند واستراليا)، شريطة المصادقة عليها من قبل الاجهزة المركزية. وبخصوص الصلاحيات الممنوحة للاجهزة التمثيلية للوحدات غير المتمتعة بصفة الاقليم الفيدرالي فليس هنالك من اختصاصات مشتركة بين الاجهزة الفيدرالية (المركزية) واجهزة تلك الوحدات، فيما تعتبر قراراتها لاغية اذا لم تتم المصادقة عليها من المحافظ (العمدة)، الذي يعتبر ممثلا للسلطات الفيدرالية في تلك الوحدات، كما اشرنا سابقا. ما يدلل على ضآلة الصلاحيات الممنوحة لسلطات تلك الوحدات.
وتمتلك اجهزة السلطة التنفيذية في اقاليم الدولة الفيدرالية ووحداتها الادارية اهمية استثنائية اثناء الحديث عن خصائص تلك الاجهزة وسماتها الجوهرية، وتتأتى هذه الاهمية من طبيعة الاجهزة التنفيذية ذاتها والتي عادة ما يكون نشاطها محكوما بقواعد الالزام (وحتى الاكراه احيانا). فمهمة تفعيل مبدأ التدخل الفيدرالي، على سبيل المثال، لا يتم من خلال الاجهزة التمثيلية للأقليم،وانما من خلال الاجهزة التي تمتلك ادوات ذلك التدخل ووسائله. وهنا اجد مناسبا الاشارة الى ان بعض الدوّل ذهبت الى منح مواطني اقاليم الدولة امكانية انتخاب مسؤولي تلك الاجهزة (الولايات المتحدة الامريكية وبعض اقاليم روسيا الفيدرالية). فيما ذهبت اخرى الى اعتبار مهمة اختيار مسؤولي الاقاليم من صلاحيات كتلة الاغلبية في برلمان الاقليم (الهند والمانيا الفيدرالية). وتميزت كل من روسيا الفيدرالية وجمهوريات يوغسلافيا بوجود رؤساء للجمهوريات المؤلفة للفيدرالية ونواب لهم. وهنا تجدر الاشارة الى ان روسيا الفيدرالية تعتبر الاكثر تعقيدا من بين البلدان التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة ذلك ان مساحتها تتألف من مساحة الجمهوريات والدوائر والاقاليم الفيدرالية اضافة الى المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي، حيث تشكل الاجهزة التنفيذية (حكومات الاقاليم) امتدادا للحكومة الفيدرالية ومنفذا لأوامرها. وبهذا الخصوص تنبغي الاشارة الى ان التشريع الروسي اعتبر جميع جمهوريات الدولة ومكوناتها متساوية سواءا فيما بينها او بالعلاقة مع المركز الفيدرالي (المادة 5 من الدستور الروسي لعام 1993).
شانها شأن الاجهزة التمثيلية تفتقر الاجهزة التنفيذية للوحدات الادارية التي لا تمتلك صفة الطرف الفيدرالي الى الاستقلالية الممنوحة لبرلمانات الاقاليم. فمسؤولي تلك الوحدات من محافظين ومديرين ان لم يعينوا مباشرة من قبل السلطات الفيدرالية فان اختيارهم من قبل المجلس المحلي يتطلب مصادقة السلطات المركزية للدولة، فيما تحمل قرارات المجالس المحلية صفة استشارية وغير ملزمة. وربما كانت قرارات المجالس واللجان التابعة للمحافظين اكثر قوة من قرارات ولوائح تلك المجالس.
اثارت المنظومة القضائية في الدولة الفيدرالية، وما تزال تثير، جدلا واسعا بين فقهاء القانون الدستوري ورجال الدولة والسياسيين على حد سواء. ففي الوقت الذي يذهب الكثيرون منهم الى اعتبار السلطة القضائية من الاجهزة السيادية الغير قابلة للتقاسم بين المركز الفيدرالي واقاليم الدولة، وجد اخرون ان من حق اقاليم الدولة الفيدرالية امتلاك منظومتهم القضائية الخاصة نظرا للتنوّع الكبير والخصوصية الدينية والتأريخية والثقافية التي تتمتع بهما الكثير من اقاليم تلك الدوّل. فقد منح تشريع الكثير من الدوّل الفيدرالية السلطات المحلية فيها اعتماد العرف والقضاء الديني (بما في ذلك الطائفي والمذهبي) لحسم قضايا الاحوال الشخصية وما شابهها، شريطة عدم الاخلال بقواعد الدستور وخرق الحقوق الاساسية للمواطنين. من هنا الاختلاف الملحوظ في النظام القضائي للدوّل الفيدرالية. ففي الولايات المتحدة الامريكية تمتلك الولايات منظوماتها القضائية الخاصة والتي تكاد تستنسخ النظام القضائي الفيدرالي، حيث تحتل المحكمة العليا للولاية قمة هرم النظام القضائي. اما في الهند فقد حدد التشريع حقوق تلك المحاكم سالبا منها مهمة النظر في القضايا الخاصة بالرقابة الدستورية ذلك ان الولايات الهندية لا تمتلك دساتيرها الخاصة. بالمقابل ذهبت بعض الدوّل الفيدرالية الى اعتماد المركزية في مجال السلطة القضائية مفضلة احادية المنظومة القضائية، وهنا ارى مناسبا الى الاشارة الى ان اعتماد مبدأ المركزية لا يلغي امكانية تمتع اجهزة القضاء في الاقاليم بقدر من الاستقلالية. فمن الناحية التنظيمية تخضع محاكم الاقاليم في روسيا مثلا الى محاكم الصلح المعينة اساسا من قبل تلك المحاكم. ويبدو مبدأ المركزية والتبعية للسلطات الفيدرالية اكثر تجليا في الوحدات الادارية التي لا تتمتع بصفة الاطراف الفيدرالية، حيث تقوم سلطات القضاء المركزية بتعيين محاكم تلك الوحدات والاشراف الكامل على نشاطها، واذا كان ثمة مجال لتمتع تلك المحاكم باستقلالية نسبية فذلك في مجال الاحوال الشخصية وربما اتيح لتك المحاكم، بقدر محدود جدا، النظر في نزاعات الملكية، فيما يبدو النظر في القضايا الجنائية امرا مستحيلا بالنسبة لتلك المحاكم.
انني ارى ان المهم اثناء التفكير بايجاد اليات البناء الفيدرالي للدولة هو تنسيقها بالشكل الذي يؤمن التناغم بين شكل الدولة (المساحاتي) وشكل الحكم فيها ونظامها السياسي، ذلك ان فقدان التوازن بين عناصر الدولة تلك سيؤدي، كما يعلمنا التأريخ، الى زرع بذور انهيارها الاكيد.
د. فلاح اسماعيل حاجم
موسكو
ايلول - 2006