سلمان رشدي..عندما يجسد الکاتب قناعاته

عندما قرأت مؤخرا رواية"أطفال منتصف الليل"للکاتب سلمان رشدي، إستوقفني کثيرا إسلوبه الممتع و الشيق في رائعته هذه والذي زاوج و وازا فيها بين سيرة حياته الذاتية و بين إستقلال الهند، رشدي الذي أثار غضب الامام الخميني في روايته"آيات شيطانية"مما دفع الاخير لإصدار فتوى بإهدار دمه، تلک الفتوى التي کانت عاملا آخرا يضاف الى عوامل الشهرة الاخرى التي توفرت لهذا الکاتب ذو الاصول الآسيوية.
سلمان رشدي، في روايته"آيات شيطانية"، طرح قناعات معينة تعکس رؤية خاصة له بالاسلام ونبيه، ورشدي کما يصف نفسه"رجل ملحد" و"کل أصدقائه ملحدين"، ومن هذا المنطلق فليس من المعقول بتاتا أن ننتظر منه کي يکتب عملا نشم فيه عبق الايمان أو نجد عظمة الاسلام متجلية في أسطره، ولم يکن ماصادفه رشدي من الخميني بغريب عليه، إذ سبق لهذا الرجل أن تعرض الى مضايقات و تهديدات بسبب من أعماله الروائية، ففي رواية"أطفال منتصف الليل"الذي يروي قصة إستقلال الهند من خلال لسان شاب مسلم ونشره عام1981، والذي منح فيه لقب"أرملة"لزعيمة حزب المؤتمر الهندي الراحلة"انديرا غاندي" و تناول فيها أيضا الفساد الحالي المستشري في الهند، أثار حفيظة الهنود و نجم عنها لغط واسع. أما في روايته"الخجل" التي نشرها عام1983، فقد تناول فيها الشخصيات السياسية المعاصرة في الباکستان وإنتقد فيها السيدة بينظير بوتو ومنحها لقب"العذراء ذات اللباس الحديدي"مما تسبب في منع إنتشار الرواية في باکستان. سلمان رشدي الذي بات أشهر من نار على علم، هو في نفس الوقت إنسان هادئ و يحاول أن يعيد صياغة عملية رؤياه للعالم من خلال خلق عوالم جديدة يزاوج فيها ما بين الواقع و الاسطورة و التأريخ و يسعى لبيان محتواه الداخلي بالانحياز للانسان حين يقول:(في"أطفال منتصف الليل"وصفت الهند، هند طفولتي، هند جيل ولد مرافقا لإستقلال الهند. رواية"الخجل"تتعلق بباکستان. البلد الذي لجأ إليه أبواي. هذان أيضا مثل الکثير من المسلمين هربوا من ظلم و نير الهندوس. لکن بعد أن جسدت کل الذي جرى الى ذلک الحين، إبتغيت ان احاکي قسما آخرا من قصة حياتي: هجرتي لانکلترا، کنت في سن الرابعة عشر حين قدمت الى هذا البلد، کنت غريبا و نائيا عن وطني، البرد، الاهانة و التفرقة العنصرية کانت هنا في إنتظاري، لکنني بعد ذلک حصلت على عالم آخر، عالم جديد بقيم متفاوتة، و فکرة کتاب"آيات شيطانية"نبعت من هذه التجربة. رغبت أن أصف مسار هجرتي، من جهة کل ذلک الانکسار و المعاناة و الکدح، ومن جهة اخرى احببت عرض تلقي قيم جديدة". هذه الاسطر التي تعبر عن المحتوى الانساني لسلمان رشدي و تجسد مدى و عمق إحساسه الانساني في مختلف المراحل التي مرت بحياته و سعيه لمحاکاة و تجسيد ما يعانيه و ما يراه من معاناة في مختلف البيئات التي تهمه. وهذا الکاتب قد نال قبل إشتهار رواية"آيات شيطانية"المثيرة للجدل، الکثير من الشهرة و کان قد سلطت عليه الاضواء بالقدر الذي کان يکفي لمنحه صفة العالمية، إذ کان قد نال عدة جوائز أدبية ذات قيمة إعتبارية رفيعة المستوى، نظير(بوکر برايز، جميز تيت بلاک میموریال، المجلس الادبي للناطقين بالانکليزية) ناهيک عن جائزة أفضل رواية نالها في فرنسا عن رواية"الخجل"، هذا إذا وضعنا جانبا ترجمة آثاره الادبية الى أکثر من عشرين لغة. وتتجلى إمکانية هذا الکاتب الابداعية، کونه جذب إهتمام ولفت أنظار النقاد و الباحثين الى رواياته بقوة، حتى إن البعض منهم يشبهه بکاتب خالد مثل"جيمس جويس"، والبعض الاخر يرى في اسلوبه مماثلا لإسلوب الکاتب الکبير غابريل کارسيا مارکوز. وعلى الرغم من أن غالبية الاوساط السياسية و العديد من الاوساط الادبية في العالمين الاسلامي و العربي، قد أدخلت رواية"آيات شيطانية"في خانة المؤامرة(الصليبية ـ الصهيونية) وصورت سلمان رشدي مجرد کاتب مدفوع الاجر من قبل دوائر معينة وأن إنجازه لتلک الروايـة لم تکن إلا إسداء خدمة لاولياء نعمته! بل وحتى إن الجهل المفرط بماضي هذا الکاتب، دفع بالبعض الى القول بأنه قد کتب هذه الرواية من أجل نيل الشهرة فقط، ولم يتسن لاحد بالبحث في الروايات و الاعمال الادبية الاخرى لهذا الروائي القدير، وهذا بحد ذاته حالة مرضية في المنطقة، إذ أن رفض فرد ما، يقود بالضرورة الى رفض کامل تراثه و آثاره وکل ما يتعلق به من قريب أو بعيد، وهذا ماحدث بالتحديد لسلمان رشدي.
وفي الواقع إن رواية"آيات شيطانية"قبل أن تکون موجهة ضد الدين، فهي محاولة لطرح رؤية فيها مسحة من التجديد جديرة بالانتباه إليها، فهي من خلال سبر أغوار الکائنات الانسانية المتضادة تسعى لإکتشاف و إستکناه الحقيقة العارية، وهذا الامر قد يکون واضحا على لسان أحد شخوص الرواية(بدر آلي)، عندما يقول في وصف العالم:(مملوء بالنقائض. لاتنسى هذا، هنا أشباح، نازيون و قديسون کلهم في نفس الوقت يعيشون معا و في الوقت الذي تصل فيه الى ذروة السعادة في زاوية ما، فإن الجحيم في نهاية الطريق في إنتظارک. عالم أکثر وحشية من هذا لا وجود له). هذه الکلمات بالامکان القول إنها تمثل أبدع القول و اسماه في تصوير عالم اليوم خير تصوير، وإن تزامن وجود النقائض الى جانب بعضها البعض، يمثل هو الاخر فلسفة الوجود و روح الکوميديا الالهية التي يتبادل أدوارها الذرية الانسانية المتبقية من أبناء آدم.
سلمان رشدي عندما کتب آيات شيطانية، فإنه عبر عن مجموعة قناعات محددة بخصوص الواقع الموضوعي، ولم يکن الرجل في صدد تحقير و إهانة المسلمين، ذلک إنه بنفسه قد عانى من التحقير و الاهانة على يد الهندوس و البريطانيين، وإنه لم يکن يفکر في إثارة مليار مسلم بقدر ماکان في صدد لفت الانظار الى حقيقة وکنه العالم الذي ليس هو إلا حالة من جمع النقائض و الاضداد کلها في آتون واحد نسميه الحياة!

نزار جاف
nezarjaff@gmail.com