الفاتيكاشوعية في زمن العلمانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
المتابع لمحاضرات بابا الفاتيكان السادس عشر "بنديكت" قبل إعتلائه عرش البابوية يلمس حقيقة إعتزاز وفخر "البابا" بعصر الدولة البيزنطية التي مارست العِداء للإسلام بشكل واضح وصريح. والبابا "بنديكت" يَعي جيداً التاريخ اللاهوتي للمنطقة العربية التي أنزلت وتناوبت عليها ثلاث ديانات سماوية كان آخرها بالطبع الإسلام، وهو يستشهد على الدوام بكل ما يشير إلى الإسلام بمظهر سلبي ومشكِك في آن معاً. ففي إحدى المحاضرات التي ألقاها البابا "بنديكت" قبل أن يتبوأ "البابوية" تحت عنوان "البعد الأخلاقي والروحي للحضارة الأوروبية"، وفي محاولة منه لبناء نقد ذاتي يمر عِبر رحلة طويلة تحاول أن تُعرّف أوروبا ليس بشكل جغرافي، ولكن عبر خارطة ثقافية - دينية. ويرى أن أوروبا وآسيا وأفريقيا كانت كتلة ثقافية واحدة تتمحور حول البحر الأبيض المتوسط. غير أن هذا التكتل تفكك فجأة عام 700 بانطلاق الحضارة الإسلامية، ونشر دعوتها في الأجزاء الجنوبية والشرقية لهذا البحر. مما دفع الحضارة المسيحية - الأوروبية إلى الهجرة إلى الشمال، إلى ألمانيا وبريطانيا والبلدان الإسكندنافية، وهو يتحدث عن سقوط روما، وقيام الدولة البيزنطية، وأطوار عزها ومن ثم انحدارها في القرن الخامس عشر. ويرى أن البيزنطيين بدورهم هاجروا إلى الشمال الشرقي حيث بزغت القوة الروسية بكنيستها ولغتها السلافية، وأصبحت موسكو عاصمة جديدة للحضارة الشرقية لأوروبا.
هنا نشهد عقلية متعصبة جداً لكل ما يمُت بصلة للحضارة المسيحية - الأوروبية لا بل يُحمل الحضارة الإسلامية المسؤولية على إندحار وتراجع المسيحية الكاثوليكية وتقدم المسيحية الأرذوكسية القريبة في حضارتها إلى الثقافة الشرقية المحافظة، وخير دليل على ذلك تسيد المسيحية الأرذوكسية المنطقة العربية في مسيحها العرب. وتجلت نقمة البابا على الحضارة الإسلامية بشكل واضح في المحاضرة التي ألقاها حديثاً في جامعة ريغينسبورغ الألمانية عن العلاقة بين العقل والعنف في الديانة الإسلامية، واستشهاده بكتاب الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني من القرن الرابع عشر، ويقحمها في محاضرته ليس لغرض إلا أنه اعتاد على التشكيك الدائم لكل ما له صلة بالإسلام الذي يحمله البابا المسؤولية على ما أصاب التبشير النصراني كي تعم المسيحية العالم أجمع، لاسيما أن هذا الامبراطور كان خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرض لها السلطان مراد الذي تقلد أمر الدولة العثمانية عام 1421 ميلادية، وعمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة وكان محباً للجهاد في سبيل الله والدعوة للإسلام في ربوع أوروبا. فلم يكن مستغرباً من استشهاد بابا روما بهذا الامبراطور المتعصب والعدو للإسلام، فعندما كان البابا "بنديكت" كاردينالاً ومدرساً للاهوت امتاز بمعاداته للإسلام وكان متعصباً جداً للمسيحية وتجلى هذا التعصب حينما عارض بشدة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وحجته في ذلك أنها بلد مسلم ولا تنتمي إلى النسيج الأوروبي الذي هو نسيج مسيحي بشكل كامل.
الكاردينال جوزيف راتزينغر الذي يسمى حاليا ببابا الفاتيكان "بنديكت" ألقى عظة في وقت حساس جداً من تاريخ الفاتيكان كانت في القداس الإلهي الذي أقيم قبل انتخاب الحبر الأعظم الجديد بعد وفاة البابا الخامس عشر يوحنا بولس الثاني، أناط من خلالها بعض اللثام عن الوجه الحقيقي لتعصب البابا "بنديكت"، كرس خلالها الكاردينال راتزينغر قسماً من العظة للدفاع عن عقيدة الكنيسة القويمة وأدان بشدة "ديكتاتورية النسبية". يقول "بنديكت": أن يكون عند المرء إيماناً واضحاً حسب ما تعلّمه الكنيسة، يُصنِّفه عالم اليوم في خانة الأصوليَّة، فيما النسبيَّة، أي السير حسب ما تمليه رياح العقائد المغلوطة يميناً ويساراً، تظهر وكأنَّها تصرَّفاً حكيمًا على مستوى متطلِّبات زماننا الحاضر. ويضيف "بنديكت": إن مقياسنا الوحيد كمؤمنين هو (إبن الله)، أي سيدنا عيسى عليه السلام، الإنسان الحقيقي. هو وحده مقياس الإنسانيّة. فالإيمان الناضج ليس اتباع آخر موضة عصرية، إنما هو الصداقة العميقة المتجذِّرة بالمسيح.
لا أريد أخوض كثيراً فيما قاله البابا ولكن نسوق دليلين على تعصب الحبر الأعظم للمسيحية التي تدفعه إلى عدم الاعتراف المطلق بأي ديانة سماوية أخرى في هذا العالم. فعندما تحدث عن الديكتاتورية النسبية وربطها بالعقائد المغلوطة كأنه أراد أن يشكك بمصداقية الديانات الأخرى، وأكد ذلك عندما قرن مقياس الإنسانية فقط بسيدنا المسيح عيسى عليه السلام في محاولة لإلغاء الآخر من الرسل والأنبياء، وهذا يشمل أيضاً سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. في حين أن الإسلام يدعو المؤمن الحق من المسلمين إلى الإيمان الكامل بكل ما أنزل الله به من كتب سماوية وديانات ورسل، وحث المسلمين على التعايش والتحاور مع جميع الأديان بل كلف الدولة الإسلامية أن ترعى وتحمي "أهل الذمة" من غير المسلمين وتصون معتقداتهم وأماكن عبادتهم.
وفي ختام العظة نفسها ينتقل البابا "بنديكت" للحديث عن الثمار الروحية الواجب على كل مسيحي أن يحملها اتماماً لوصية المسيح عليه السلام، مدفوعاً بِهمّ التبشير بكلمة الإنجيل حتى أقاصي الأرض...... السؤال هنا: هل التبشير بالمسيحية حق مكتسب للكنيسة دون الديانات الأخرى، وبالأخص الإسلام !؟ للأسف فإن جميع مدلولات مفردات حديث البابا في تلك العظة تدلل على هذا !! ففي حديثه هذا تعرى الوجه الحقيقي للبابوية الجديدة في الفاتيكان بتعصبها الكامل والمطلق للمسيحية وإنكار كل من يخرج عن نسيجها. فالانعطاف غير المباشر والإشارة إلى أن الإسلام قد نشر بحد السيف في حديث البابا من جراء استشهاده بحديث الامبراطور البيزنطي لا يبتعد كثيراً عن كتابات ومناظرات الشيوعيين مع المسلمين، فما أشار له البابا يعتبر العنوان العريض لمعتنقي الفكر الشيوعي حين يهاجمون الإسلام بضراوة، وهذا قليل من فيض، لاسيما وأن الشيوعية تحارب الأديان وتعتبرها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية والاستغلال، مستثنية من ذلك اليهود.. لأن اليهود حسب زعمهم شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة !! تماماً كما تيقني من أن البابا "بنديكت" يستثني اليهودية من كل احتقار وقد يذهب في محاباته للصهيونية بعيداً إذا ما وقف بصفٍ واحد مع الرئيس الأميركي جورج بوش (الإبن) الذي يدعي بأن الله يكلمه ويوحي له بالأفعال التي يمارسها !! وللعلم، فإن البابا يدين بشكل عميق كل أشكال الديكتاتورية والاشتراكية العلمية التي كانت سائدة في فترات متعددة من القرن العشرين. ولكن اعتزازه بالثقافة المسيحية لأوروبا يمثل شكلاً من أشكال الاعتزاز القومي، الذي يمكن أن يكون أساساً لشكل من أشكال التميز أو حتى التمييز الديني أو الثقافي. حتى إنه في بعض أجزاء من كتاباته يمتدح اهتمام الصفوة السياسية الأميركية بدفع عملية الديمقراطية حول العالم، كأيديولوجية سياسية شبه دينية تعطي دفعاً معنوياً وثقافياً للسياسات الخارجية الأميركية. ويرى أن ذلك يمثل شكلاً من أشكال الانتصار للقيم الروحية البروتستانتية، التي تحاول أن تحل محل بعض القيم الكاثوليكية حتى في الدول المجاورة للولايات المتحدة في القارة الجنوبية.
ويبدو أن الشغل الشاغل للكاهن الأكبر، هو أن أوروبا تعاني اليوم من مرضين متزامنين، أحدهما التراجع الحاد في أعداد السكان، ونزوع معظم الأوروبيين خاصة من الشباب إلى الابتعاد عن القيم العائلية في بناء عائلة واستخلاف عدد من الأبناء. أما العلة الأخرى في رأيه فهي أن أوروبا لم تعد تثق بالقيم الأخلاقية المسيحية التي اعتمدت عليها عبر تاريخها الطويل. وهي إن لم تُعِد سبر أغوار عقلها الديني، فإن الخواء الروحي الذي تعيش فيه، كما يقول، كفيل بأن يحقق نبوءة (أوزوالد سبرنغلر)، بأن الغرب وأوروبا في طريقها إلى الانحدار لأنها قد فقدت بوصلتها الثقافية والروحية.
والآن، هناك حقيقة لا بد التأكيد عليها نوجهها لكل من يجهل معرفتها... ففي بدايات الدعوة الإسلامية وفي زمن الرسول الأعظم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعد أن دانت الجزيرة العربية بالإسلام، أرسل خاتم الأنبياء (ع) الدعاة والمبشرين والمعلمين لكل من فارس والروم، ولكن رد الطرف الثاني كان عنيفاً ومستهجناً فعذب وقتل الرسل وأصحاب الدعوة للإسلام، الأمر الذي استدعى التدخل الحازم من قِبل الرسول الكريم من أجل إزالة الطغاة من حكام الشعوب المستضعفة كي تتعرف على الدين الإسلامي وتنعم بالإيمان به. وبينما البابا "بنديكت" يوَّصف المسيحي الحق هو كل من يبشر بمسيحيته على الدوام في كل مكان وزمان، فالإسلام لم يفعل خلاف هذا الأمر من مبدأ أنه بشر بدينه أيضاً، وقد ذهبت الكنيسة بعيداً بعض الشيئ حينما أيدت وباركت الحملات الصليبية على المشرق العربي لنهب ثروات الأمة وممارسة التنصير بالقوة للعرب والمسلمين !!
أما ونحن الآن في عصر العولمة التي تستعر في خضمها العلمانية بشكل كبير نستهجن موقف الحبر الأعظم من الإسلام، فكيف لا وهو الحاكم البابوي الأكبر في الفاتيكان ويتبعه مئات الملايين من كاثوليكيي المسيحية، ويقبع في امبراطورية الفاتيكان، تلك الدولة الصغيرة في قلب مدينة روما، ويمتلك خزينة متخمة بالأموال وممرات سرية وشفرات خاصة.... إنها فعلاً مملكة الأسرار !! لهذا أشك من أن العالم العربي والإسلامي يعرف الكثير عن الفاتيكان، سوى أنها مقر بابا روما، وهذا نقص في المعلومات بجانب النقص الكبير الذي نعاني منه في سائر فروع المعرفة ومنها معرفة الشعوب الدول وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. ومع أن الفاتيكان دولة صغيرة إلا أنها بما تملك من مركز ديني مؤثر ومن ثروات كبيرة، فهي أغنى الدول، ومن شبكة من وسائل الإعلام (تملك أكثر من 200 جريدة يومية ومجلة أسبوعية وشهرية، و154 محطة إذاعة، و49 قناة تلفزيون) تحتل موقعاً مؤثراً في الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية في العالم المسيحي، لا سيما في العالم الكاثوليكي الذي يتراوح تعداده بين (850 - 900 مليون نسمة)، وفي العالم أجمع. والجنود السويسريون الذين يقومون بحراسة الفاتيكان يقسمون على ألا يفشي أي منهم أي سر من أسرار الفاتيكان. وحسب المقولة المشهورة هناك (وهي خاطئة بالطبع) فالقاعدة هي: "لا يمكن لأي شخص يعرف سراً من أسرار الفاتيكان أن يفشيه حتى في العالم الآخر". وهذا هو ما يجعل من هذه الدولة الصغيرة مساحةً (تبلغ مساحتها 44 هكتاراً فقط) والكبيرة من ناحية التأثير لغزاً يجذب العديد من الباحثين لمحاولة استجلاء غموضها، ومعرفة ما يدور فيها في الظاهر وما يحدث خلف الكواليس والأنظار.
ويوجد في الفاتيكان خمسة تيارات مختلفة، أحدها قريب من العلمانية (احتمال أن يكون البابا منتمياً لهذا التيار بشكل أو بآخر)، وأربعة تيارات دينية. فالتيار العلماني هو منظمة "فرسان مالطا". ولها تاريخ قديم وهي منظمة ارستقراطية واشتهرت بعدائها للعثمانيين (والآن للأتراك) وللإسلام، وتشكلت في أول الأمر في جزيرة "روديسيا".
أما التيارات الدينية الأربعة فهي:
- منظمة أو جمعية "Opus Dei" (أي الشؤون الإلهية): وهي من أصل إسباني ويرجع تاريخ نشأتها إلى ما قبل 65 سنة فقط، ولكن تأثيرها كبير. وهي جمعية سرية وجميع أعضائها من الكاثوليك طبعاً، وهناك في كل بلد كاردينال مسؤول عن هذه الجمعية. وكل كاردينال يحمل جواز سفر من الفاتيكان ويتمتع بحصانة دبلوماسية. وهم مسؤولون أمام البابا فقط. وشعار هذه المنظمة:"البابا أولاً".
- "طريقة دومينيكان": المهم لدى هذه الطريقة إدامة استمرارية "الكنيسة"، أي أن شعارهم هو: "الكنيسة أولاً". والمعروف عنها أنها ارستقراطية تتسم بالغدر والدوغمائية (تستند أساسا إلى المثالية في تقييمها للامور، وتقسمها إلى أبيض وأسود). فأعضاؤها هم الذين شكلوا محاكم التفتيش المرعبة في العصور الوسطى، وحرقوا ملايين الناس، ولا سيما النساء بتهمة السحر والشعوذة. فقد بلغ عدد النساء اللواتي تم حرقهن على يد هذه المحاكم مليوني امرأة تقريباً.
- "طريقة فرنسيسكان": شعارها "المسيحية أولاً" أي لا يهتمون كثيراً بالكنيسة الموجودة في روما، بل بالمسيحية في العالم، وهي تقف بجانب الفقراء، وتتكون من القسس والرهبان الذين وهبوا أنفسهم للدين دون أي مقابل. ولا يهمهم البابا أو الكنيسة كثيراً، بل يركزون اهتمامهم على نشر المسيحية في العالم.
- "طريقة الجزويت": وهي تضم تياراً نشيطاً كطريقة "فرنسيسكان" ومتعصباً كطريقة "دومينيكان". وتعد الطبقة المثقفة في العالم الكاثوليكي. المهم عندها هو "المقام البابوي"، أي ليس المهم الكنيسة ولا شخص البابا بل الدفاع عن المقام البابوي. لذا فإنهم كثيراً ما وقفوا أمام بعض البابوات ومنهم البابا الحالي موقف المعارضة.
الخلاصة أن بابا الفاتيكان لربما أراد أن يركب موجة الخطابات الديماغوجية التي تعم العالم بقيادة القطب الأميركي الأوحد والرئيس جورج بوش، وقد يكون أخذ هذا القرار في إطار منعزل عن سياسة الفاتيكان المتبعة في العالم وعلاقتها مع الأديان الأخرى لهذا سمعنا أصوات جهات عديدة من داخل المؤسسة الفاتيكانية تستنكر قول البابا في تلك المحاضرة. وحاول البابا أن يقدم اعتذاراً ناقصاً أو أن يلتف على هذا الأمر في لعبة المفردات في ظهوره الأخير في قداس الأحد بعد إلقائه لمحاضرته تلك، ولكن نؤكد أن ما قاله البابا لم يكن إعتذاراً عما استشهد به ولكنه أكد على أسفه من أن أفق العرب سطحي جداً بحيث أنهم لم يفهموا القصد من وراءه!! فأي قصدٍ هذا يا معالي الحبر الأعظم !؟؟
سالم أيوب
كاتب ومحلل سياسي
* مدير مركز معلومات جريدة السياسة