أصداء

هل استطاع البعث اجتثاثكم لكي تنجحون في اجتثاثه؟!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تبقى النظرة الضيقة وسذاجة التفكير وحماقة الفعل هي في مجموعها الداء المزمن الذي تعاني منه الكثير من الشخصيات التي ارتبط فعلها بالعمل السياسي و السلطوي في العراق، ان السياسي الذي منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي والعراق يشهد دورة مستمرة من الاقصاء والانتقام، كلُ وفرصته، والعجيب في الامر ان جميع الاطراف المشاركة في هذه الدورة والتي رقصت وترقص هذا الفصل تؤمن في قرارة نفسها ان هذه اللعبة هي لعبة خاسرة لاطرافها جميعا، حيث لم يتمكن اي منها من اجتثاث غريمه بصورة نهائية بل كان احدها بعد كل صولة عنيفة يعود في وقت لاحق الى محاولة بناء جسور للتلاقي وتجاوز خلافات الماضي مع الاخريؤسس لثقافة الاقصاء والانتقام بيده اليمنى ويدًعي ان اليسرى تعمل في مشروع وطني للمصالحة يحاول خداع نفسه قبل ان يخدع الاخرين حيث الجميع يؤمن ان جمع النقيضين هو سرُ من اسرار الخالق جلت قدرته. ليست لي اية معرفة شخصية بالرئيسين جلال الطالباني ومسعود البارزاني لكن تحليلا بسيطا لهاتين الشخصيتين من خلال ادائهما السياسي والانساني والذي على الارجح يتفق به معي كثيرون يشير الى انه لو كان مصير رئيس النظام السابق قرارا خالصا لضمير الرئيس جلال الطالباني او الرئيس مسعود البارزاني لكان ربما قرارا مختلفا وحالة تختلف عن ما ألت اليه الامور، بل اعتقد،واتمنى ان لا أكون مخطئا، في ان السيد جلال الطالباني قد تشبث باحترام توقيعه في مرحلة سابقة في رفض عقوبة الاعدام كسبب يمنعه من التوقيع على قرار اعدام صدام حسين بدافع احترام مشاعر مجموعة معينة من زملائه وابناء شعبه ممَن يجدون صعوبة في التخلص من الشعور بالانتقام، لكن السبب الرئيسي ليس احترام التوقيع فقط بقدر ما هو ان الكاريزما التي يمثلها جلال الطالباني لايمكن ان تهظم باي شكل من الاشكال هذا النوع من التعامل وهذه النهاية من الصراع وهذه الطريقة في حسم الخصومة السياسية، بالرغم من ان صدام حسين كان قد اصدر في مرحلة ما من هذا الصراع قرارا بالعفو عن الجميع باستثناء الطالباني نفسه، اما السيد مسعود البارزاني الذي تحملت عشيرته ثقلا مهما يحصى بالالاف من التضحيات في الصراع يضاف اليها تضحيات كبيرة في صفوف ابناء شعبه فقد كان واضحا منذ وقت مبكر وقبل سقوط النظام في الدعوة الى االتسامح والمصالحة ليس حبا او شفقة بهذا او ذاك ولكن تأسيسا لقواعد اخلاقية جديدة تحكم العمل السياسي والصراع بين اطرافه على طريق انشاء دولة حجر اساسها الحب والتسامح وليس النحر والدم.

ان اغرب الغرائب ان تتحكم غريزة الانتقام في تفكير النخبة السياسية بعد وصولها الى السلطة متوهمة ان الربح التكتيكي الذي تحققه باشباع هذه الغريزة ليس بسمارا عميقا في نعش اهدافها الستراتيجية، انها السذاجة السياسية لدى هؤلاء التي تكمن في ان السالب الذي عاشه، متمثلا في تضحياته الشخصية اثناء صراعه مع خصمه السياسي، مضروبا في سالب الانتقام من ذلك الخصم لحظة التمكن منه سيؤدي الى الحصول على ناتج موجب. اذا كان هؤلاء يهدفون من وراء سياسة العنف والاقصاء والانتقام الى اشباع غرائزهم الشخصية فتلك مصيبة، اما اذا كانوا اضافة الى ذلك عبيدا مأمورين ينفذون اجندة خارجية تستهدف احداث اعمق مايمكن من الشرخ في المجتمع العراقي فالمصيبة حقا حينئذ اعظم. اية دولة سيتم بنائها عندما يتذكر رئيس حهازها التنفيذي ان ياتي بقلمه الذي يحتفظ به منذ ثلاثين سنة عندما بدأ صراعه مع خصمه السياسي ليوقع به قرار اعدام ذلك الخصم؟! أم اي تفكير هذا عندما يعلل مريض الانتقام فعل انتقامه مستندا على الاية الكريمة ( وبشِر القاتل بالقتل ). لست فقيها دينيا لكنني افهم ان الله جلت قدرته لايشترط هنا ان تقوم الضحية بتنفيذ حكم الله خاصة وان الشرائع السماوية تمتاز باحادية المصدر حيث الكتاب المقدس يوصي في احدى اياته فيقول ( لاتنتقموا لانفسكم بل اتركوا ذلك لغضب الله ). تتبجح الحكومة العراقية في انها أسرعت في تنفيذ الحكم برئيس النظام السابق بعد ورود انباء عن احتمال تهريبه من السجن، وفي الوقت الذي يرى الكثيرون قصة التهريب من السجن قصة تم حبكها بصورة سيئة، شبيهة بقصة الثورة في الكويت عام 1990، لكن السؤال الذي يفرض نفسه بالحاح يكمن في ايهما كان افضل للحكومة العراقية ولبرنامجها، ان يتحقق تهريب الرئيس السابق الى خارج العراق ام تنفيذ حكم الاعدام فيه؟ ناهيكم عن انه لم يكن صعبا على صدام حسين ان يفهم ان قبوله بخطة تهريبه خارج العراق هو بمثابة قرار انتحار سياسي له عراقيا وعربيا في الوقت الذي قد يشكل تنفيذ الاعدام الاجرائي فرصة ذهبية لبعث الشخصية من جديد. ان الحكومة العراقية مطالبة بالاعتراف صراحة في انها عجًلت في تنفيذ الحكم بصدام حسين بعد ان لاحظت تزايدا ملحوظا في عدد ابناء الشعب الذين يضعوا النظام السابق والوضع الحالي في كفتي الميزان من اجل المقارنة بينهما بعد ان انقشع الغبار وبدأت العقول قبل العواطف من جديد تفعل فعلها في الحكم على الامور، بل اكثر من ذلك ذهب العديد من اصحاب الجثث المجهولة الهوية الى اطلاق عبارات الاستنجاد على شاشات الفضائيات مطالبين بعودة صدام، اضف الى ذلك فان هذه الحكومة ومنذ تشكيلها لم يحالفها الحظ في ان تذوق طعم اي انجاز تحققه على الارض فوضع الخدمات لايحسد عليه والوضع الامني يعاني انتكاسات يومية الى الحد الذي اصبح فرض حظر التجول هو قانون الحياة العام، ولذلك فهي تعيش مرحلة احتضار مستمر بانتظار رصاصة الرحمة الامريكية، وبات من الضروري ان تبحث عن إنجاز تفاخر به لاحقا كما فاخرت حكومة الدكتور الجعفري في انها انجزت الدستور والانتخابات فوجدت واهمة في عملية الاعدام ضالتها. كان الاجدر بالمسؤولين العراقيين ان ينزلوا الى الشارع العراقي ويخيِرِوا المواطن البسيط في ليلة العيد بين لتر من البنزين او قنينة من الغاز السائل وبين اعدام جزء من الماضي حتى و لو اتفق القاصي والداني ان هذا الماضي ليس بريئا في ثقل مهم من المسؤولية فيما وصل اليه العراق.

منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي والعراق يشهد دورة مستمرة من الاقصاء والانتقام، كلُ وفرصته، والعجيب في الامر ان جميع الاطراف المشاركة في هذه الدورة والتي رقصت وترقص هذا الفصل تؤمن في قرارة نفسها ان هذه اللعبة هي لعبة خاسرة لاطرافها جميعا، حيث لم يتمكن اي منها من اجتثاث غريمه بصورة نهائية بل كان احدها بعد كل صولة عنيفة يعود في وقت لاحق الى محاولة بناء جسور للتلاقي وتجاوز خلافات الماضي مع الاخر، والامثلة كثيرة في غزوات وغزوات مضادة بين البعثيين والشيوعيين وغيرهم او بين الدولة المركز والحركة الكردية او حتى بين الاجنحة المختلفة داخل الحركة السياسية الواحدة، واذا كان الاصرار في الماضي على الاستمرار في لعبة النحر والدم طريقا لحل الخلافات السياسية يمكن ان يعلل بان اطرافه يعيشون مرحلة مراهقة سياسية ولم يصلوا بعد الى حد النضج فان الكثيرين كانوا يعتقدون ان الظروف المحلية والاقليمية والدولية في القرن الواحد والعشرين والخبرة المتراكمة من التجربة السابقة المريرة وارثها القاسي والهائل سيدفع باقطاب السياسة العراقية الجدد الى تغيير مغير السرعة ( الكير ) بما يؤدي الى بسط خيمة كبيرة وترسيخ ثوابت واحكام جديدة تنظم العمل بين الرأي والرأي الاخر، بين السلطة ومن يعارضها حتى ولو كان ذلك على حساب مشاعر واحاسيس شخصية. اذا كان حكام العراق الجدد عاجزين عن اجتثاث تنظيم القاعدة في العراق او تحييد دوره وهم يعرفون ان تاريخه في العراق لايتجاوز بضع سنين ويعلنون ان اغلب اعضائه هم من غير العراقيين فكم هو حري بهم ان يعيدوا التفكير مرات ومرات قبل ان يعتقدوا انهم سينجحون في اجتثاث حزب يعمل على الساحة العراقية منذ اكثر من نصف قرن وكانت نسبة كبرى من اجيال متعاقبة حصة له كمؤمنين او نصف مؤمنين بعقيدته. ان البعث قد فشل في كل اساليبه من القضاء نهائيا واجتثاث حركات واحزاب اصغر منه حجما وتنظيما ونفوذ،ا وعندما وجد بعض من تلك التنظيمات والاحزاب نفسه في السلطة نتيجة ظروف معينة عاد ليكرر نفس الحماقة ويفكرفي اجتثاث تنظيم يمثل باعتراف الجميع سببا رئيسيا في تقييد حركة الحكومة ورموزها وحتى الحلقات الدنيا في درجاتها داخل اسوار المنطقة الخضراء! من جانب اخر فان البعثيين يتحملون جانبا كبيرا ممن المسؤولية عندما اخفقوا خلال السنوات الثلاث الماضية من التحرر من عقدة ( القيادة التاريخية ) في محاولة لتقديم انفسهم برداء واسلوب صادق جديد كنتيجة لدخولهم ( حمًاما ) من المراجعة والنقد الذاتي للتجربة السابقة. لايعني التحرر من ( القيادة التاريخية ) توقيع فرمان تقديمها للمقصلة واعدامها لان الكثير من دول العالم اصبحت منذ زمن تؤمن ان الاعدام حتى في الجرائم الجنائية الخالصة ليس الطريق الصائب للدفاع عن المجتمعات فمابالكم بالجرائم المركبة او التي حدثت اساسا وبالدرجة الاولى لدوافع سياسية. ثم لماذا لانتصرف كما يتصرف الاخرون مع حكامهم ورموزهم في زمن ما، فهاهم الاشقاء المصريون بارعون في إظهار مشاعر التقدير للخديوي ولعبد الناصر وللسادات على حد سواء بالرغم من ان الاخير كان مرتدا على خط الثاني وهذا بدوره كان ثورة وانقلابا على الاول ولكل مرحلة اخطائها وخطاياها. لقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي مناسبة جدية للاحزاب الشيوعية التي كانت تتولى مقاليد السلطة في تلك الدول فاندفع الشيوعيون في اغلب تلك البلدان الى اعادة تنظيمم انفسهم من جديد أخذين بنظر الاعتبار صدى الشارع المحلي والمتغيرات الخارجية نافضين عن انفسهم كل البدلات القديمة، وهكذا لم يكن لغورباتشوف كما لم يكن لغيره اي دور في المسيرة الجديدة فانطلقت تلك الاحزاب بخطوات متسارعة في كسب ثقة مواطنيها من جديد واستطاعت خلال فترة وجيزة من احراز نتائج باهرة واصبحت مرة اخرى قوى رئيسية في اللعبة السياسية في كثير من تلك البلدان وفي المقدمة منها روسيا الاتحادية.

ان الحكم بالاعدام و تنفيذه برئيس النظام السابق وفق السيناريو الذي تم به يشير بشكل قاطع وببرهان جديد الى اخفاق جزء مهم من النخبة السياسية التي تتولى زمام الامور حاليا في العراق من التمكن بمهارة من أليات العمل السياسي المسؤول والبعيد عن الاخطاء التي قد يمكن وصفها بالحماقات في مرحلة دقيقة يمكن فيها ان تسبب شعرة واحدة انقلابا في حالة الاتزان وغرقا مروعا للقارب المتهالك اصلا، ولذلك فانها دعوة صادقة لتلك الرموز السياسية بالتوجه حالا الى اربيل فيُنظٍم لها السيد مسعود البارزاني دورة مكثفة عميقة في اصول اللعبة السياسية في كل جوانبها والياتها فتتعلم كيف توازن وتشتغل في التكتيك والاستراتيج بما يخدم احدهما الاخر وتعرف ايضا ان التضحية بربح باهت يحمل في جانب رئيسي منه سمة شخصية من اجل مصلحة قومية ووطنية عليا وموقف تاريخي هي في مقدمة السمات الرئيسية للسياسي الذي خبرته وعجنته الحياة، وان السياسي في السلطة يجب ان يتقمص بامتياز دوره الوطني مانحا دوره الحزبي اجازة طويلة حتى موعد الانتخابات القادمة، وحتى يمضي هؤلاء دورتهم التدريبية بنجاح يجب عليهم الكف عن ممارسة العمل السياسي خوفا من حماقات جديدة لان الذي حاز على رخصة سياقة مزورة يُمثٍل خطرا لمن معه في العربة ولمن يتواجد في الشارع على حد سواء.

د. وديع بتي حنا

wadeebatti@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف