ارث المدينة وتحولات العاصمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ثمّة إرث بالغ القِدم لظاهرتي "المدينة" و"السلطة"، يضرب بعيداً في جغرافيا المكان، ومثلها جغرافيا الحكم في العراق التي هي، بكثيرٍ من الأسف، جغرافيا الثقافة، مثلما هي جغرافيا البشر. يمثلّها وجود نمطين من المدن في العراق، فضلاً عن العاصمة "بغداد" ذات الإرث المُلتبس. الأول وتختص به مدنٌ امتلكت بالتقادم الزمني طاقة "الرمز" لتتحوّل، فيما بعد، إلى رأسمال رمزي غير قابل للتبديد أو التصفية، هي:
النجف، كربلاء، سامراء، ومنطقة الكاظمية ببغداد. وفي المقابل تمكّن العراق من " اختراع " مدن أخرى باستثمار ظاهرة " النهر " في حضاراته السابقة، فضلاً عن شكلٍ آخر من الثقافة يمكن تسميته بـ" ثقافة المدينة " في مقابل " ثقافة البلدة ". في البدء أن أغلب المدن العراقية لم تخرج مطلع القرن الماضي، بما فيها العاصمة بغداد، عن صيغة " البلدة ". قد تختلف بلدة عن أخرى في حجمها، الموصل عن بغداد، والأخيرة عن البصرة، لكنها لا تخرج مطلقاً عن أُفق البلدة وثقافتها. غير أن هذه البلدات تنماز عن بعضها بـ" إرث " المدينة السابق، وهو، للأسف، كذلك، إرث السلطة في مجمل تشكّلات العراق الكبرى. ومن هنا ثمّة " مدن " عراقية نجحت في أن تتحول إلى حواضر كبرى، ثم شاءت ظروف عديدة أن تتعرّض إلى انتكاسات ثقافية ألزمتها على الارتداد إلى صيغة " البلدة ". وهي: البصرة، الكوفة، بغداد، الموصل، الحلة. وستنجح هذه " البلدات "، فيما بعد، باستثناء الكوفة، التي زاحمها ظهور النجف كمركز ديني متعاظم، أن تستعيد صيغة المدينة. فيما ستُخفق البلدات الأخرى، والتي لا تمتلك " إرث المدينة "، أن تتحوّل إلى " مدينة "، وتشمل أغلب مراكز المحافظات العراقية، مما أُطلق عليها، خبط عشواء، مصطلح "المُدن". " من المناسب هنا أن نُشير أن بلدة (الناصرية)، قد قدّمت للعراق أهم ظاهرة (حضرية) في تاريخه الحديث، مما أعتقد أنها الخطوة الأهم في التشكّل الحديث للثقافة العراقية، هي ظاهرة (الحزب السياسي)، فإن أغلب الأحزاب العراقية الأهم، كانت قد تكونّت ملامحها الأولى في الناصرية، ثمّ، هاجرت إلى بغداد ومنها إلى بقية العراق ". من المُلاحظ أن عهد البعث وصولاً إلى " دكتاتورية صدام "، قد سجّل مصادرة غريبة لفكرة المدينة لصالح تجمعات سكانية عشوائية تكونّت على خلفية التضحية بموضوعة النهر في تشكّلات المدينة العراقية لصالح فكرة الشارع العام، أو، الدولي حسب بعضهم. هكذا ستتوسع بغداد والموصل والبصرة والحلة في حدودٍ معينة تبعاً لموضوعة طرق المواصلات. والأخيرة موضوعة سياسية بحتة في العراق ترتد، أو، ترتبط في الصميم بموضوعة الحرب. وقد يكون من باب الإنصاف أن نقرّ بأن تاريخ الدولة العراقية لا يُشير مطلقاً إلى توفرها على فهم علمي لظاهرة المدينة، والأهم أنها لا تمتلك أيّة فكرة عن تخطيطها، وهي هنا بغداد. ولا أدري أهي صدفة أن يظهر في العراق ثلاثة من أهم المعماريين، هم: محمد مكيّة، صاحب فكرة مدينة " الكوفة " وجامعتها، ورفعت الجادرجي، وزهاء حديد كصيغة مقابلة، تماماً، لجهل " الدولة " بفكرتي " التخطيط " و " المدينة " على السواء؟ ولكن يقتضي الإنصاف، كذلك، أن نُشير أن الدولة العراقية بطبعتها الملكية وشطر لا بأس به من الجمهورية، لم تتأسس على موضوعة " الآيديولوجيا " الحزبية ذات الأثر المدمّر. وهو ما دشّنته تجربة البعث ورسّخته دكتاتورية صدام، أن تمت إعادة النظر، كليّاً، بفكرة الدولة ومجمل تشكّلاتها المدنية الحديثة وأهمّها ظاهرة " المدينة " في العراق. الواقع أن فكرة " المدينة " في العراق الحديث ذات إرث آخر، هو، بالتحديد، إرث الطبقات المدنية الصاعدة، وأهمّها " الطبقة الوسطى " التي ارتبطت، منذ وقت مبكر، بفكرة " الواقعية ". وحققت إنجازات بالغة الأثر، وأهمها ترسّخ الطابع المدني للثقافة في العراق، فضلاً عن تبلور صيغة " معقولة " لمجتمع عراقي موحّد، امتلك حتى ثمانينات القرن الماضي تقييماً إيجابياً لتاريخه الحديث، وهو تاريخ انتفاضاته " الوطنية " الكبرى: 20، 41، 48، 52، 58. وفي الظن أن للمدينة العراقية بنمطيها السابقين نصيب وافر من المُنجز العراقي. وهو ما تسكت عنه أغلب الدراسات الجادّة، على قلّتها، مما ناقشت التشكّل الثقافي الحديث للعراق لصالح فكرة " العاصمة "، التي تُقدَّم، دائماً، على أنها الصيغة الرسمية المتداولة عن " المدينة " في العراق. وللأسف هي، كذلك، الصيغة الوحيدة المتوفرة لدى المثقفين العراقيين والعرب على السواء. وللتدليل فإن الإعلام العربي، المرئي والمقروء، يعتمد صيغة " العاصمة " في تغطية أخبار العراق، مما يعني، بالتأكيد، تهميش أيّة صيغة أخرى، باعتماده تعبيراً فضفاضاً من قبيل " جنوب بغداد أو شمالها "، وتراه، في أحيانٍ كثيرة، يُمعن بفكرة السلطة، وهي هنا فكرة العاصمة، بأن يذكر المسافة الفاصلة بين مكان الحدث والعاصمة لتقريب الحدث للقارئ أو المُستمع. وهو، المثقف أو الإعلامي، لا يصدر من فراغ، ولكن من الميراث الأسوأ للسلطة في العالم العربي، المتمثّل باحتفاء مرضي بفكرة العاصمة كصيغة واحدة ووحيدة للمدينة في الثقافة العربية. وأظن أن الدارس لتجلّيات المدينة في الثقافة العربية، وبالأخص أدبها المكتوب، ولنأخذ " الرواية " بصفتها المولود الشرعي للمدينة الحديثة وطبقاتها الصاعدة، لن يجد، بعد عناءٍ طويل، سوى صيغة " العاصمة ". ثمّة استثناءات مهمة " طنجة محمد شكري، الإسكندرية عند إدوارد خرّاط وإبراهيم عبد المجيد، الناصرية عند عبد الرحمن الربيعي، البصرة وبلدات أخرى عند نجم والي.. "، تقدم، بالتأكيد، نمط آخر من التفكير إزاء موضوعة " المدينة "، يتقاطع، بالضرورة، مع صيغة العاصمة بصفتها مآل السلطة حيث يُقيم " الحاكم " و " تتركّز " الثقافة. ولكنها تظل، للأسف البالغ، محض استثناءات، وخروج نجد، دائماً، من يحتفي به من دون أن يتحوّل إلى مناسبة لإثارة الأسئلة الصعبة والمقلقة في الثقافة العربية إزاء موضوعة " العاصمة - المدينة ". من المؤكد أن ثمّة " تغييب " مُريب لترسّخ فكرة " العاصمة " في الثقافة العربية بطبعاتها " الوطنية " المختلفة، إذ لا نجد، بحدود علمي المتواضع، من يبحث في سبب احتفاء المثقف العربي بـ" عاصمة " بلاده: بغداد، القاهرة، بيروت، دمشق، والرياض مؤخراً... والسؤال الأهم، هو ما الذي يعرفه مثقف العاصمة، وهو، بالتأكيد، نازح إليها مؤخراً، عن مدن بلاده الأخرى، ناهيك عن السؤال الأكثر مرارةً، ما الذي يعرفه المثقف العربي في لبنان، مثلاً، عن مدن العراق الأخرى غير بغداد، البصرة، الموصل، وبالعكس؟ أكاد أُجزم أن إجابةً واحدة تختصر السؤالين بصيغة موحدة، إن هذه المعرفة تقترب من الصفر، أو، تكاد. بالطبع ثمّة قناعة وفّرتها السلطة " العربية "، بسخاءٍ وافر، للمثقف " الوطني " بطبعاته العربية العديدة، أن لا توجد صيغة أخرى للمدينة سوى فكرة " العاصمة "، حيث تُقيم " السلطة " ومؤسسات الثقافة: الصحف، المسارح، دور السينما، دور الطبع، وبالتأكيد وزارة الثقافة... وسيغدو انتساب المثقف العربي لعاصمة بلاده، انتساباً مسكوتاً عنه لسلطة بلاده في آنٍ واحد. وسيعمد الخطاب العربي لدمج البلاد، أو اختصارها بصيغة العاصمة، مثلما سيسكت المثقف العربي عن مظالم شنيعة ارتكبتها العاصمة، ولا تزال، وقد وجدت بصيغة " الضاحية " تعبيراً أخّاذاً عن فكرة " الفقر " المُدقع لساكني الضاحية، وأولهم المثقف العربي ذاته، الذي يجد في انتمائه إلى " العاصمة " انتساباً للـ" ـوطن " لا إلى السلطة التي تحكمه. وهو فهم رومانسي رث، لأن مثقف العاصمة يدرك جيداً أن الدولة تحكمها العاصمة. وبخلافه سيغدو من سخافات السلطة العربية " الوطنية " أن تدعي أنها تفكر بمثقف أو أكاديمي في " البصرة "، مثلاً، وتريد إرساله إلى " مؤتمر "، أو، " بعثة دراسية "، لأن العاصمة توفر للـ" دولة " عناء مثل هذا التفكير، وهم هنا مثقفو العاصمة وأكاديميوها. ومن هنا يندر أن تجد مثقف عربي لا يفكر بالهجرة والإقامة في العاصمة. وفي المقابل ستسعى السلطة العربية لإخفاء أية صيغة أخرى للمدينة العربية، يمكن لها، بعد قليل، أن تزاحم العاصمة. وهي ترمي إلى تحقيق غرضين رئيسين منها، هما: تأبيد فكرة " المركزية " الإدارية كصيغة أخرى لـ"واحدية " الحاكم، على خلفية إن " العاصمة " تستطيع استقطاب غيرها من المدن والبلدات الأخرى بما تملكه من مؤسسات كفوءة وتوسع عمراني، مما يؤهلها لأن تحكم بـ" واحدية " مطلقة. والأهم إن " إفقار " المدن الأخرى يسهم، بصورة فاعلة، في تعزيز سياسات القمع المتولدة، أصلاً، من ثقافة " البلدة "، أو من " قهر " المدينة الراغبة باستعادة إرثها. في العراق اتخذت العاصمة صيغة " السلطة " بامتياز بالغ " من الضروري هنا أن نشدد أننا نتحدث عن وظيفة العاصمة، لا عن (مدينة) اسمها بغداد ". منذ البدء تم، بعجالة بالغة، ربط الثقافة العراقية بالعاصمة " نادي التضامن، جماعة الأهالي، المثقفون النازحون إليها، أو، من أبنائها، حركة اليسار العراقي، جيل الخمسينات والاتجاه الواقعي.. الخ ". وهو ربط له ما يسوّغُه على مجمل الأصعدة في بدء التشكل السياسي الحديث للعراق. وبالتأكيد إن الجانبين السياسي والثقافي لهما أهمية بالغة، على خلفية حداثة فكرة " الدولة " في العراق، ومثله بقية الكيانات " القطرية " العربية. ولقد بدا واضحاً أن " اختراع " فكرة الدولة " الوطنية " إنجازاً كونيالياً اقترن، منذ البدء، بفكرة العاصمة. وهي هنا بغداد ذات الإرث العربي - الإسلامي المرتبط بشكل سياسي آخر للدولة، هو، بالتأكيد، مختلف، تماماً، عن الشكل الحديث للدولة المؤسس على الإرث البغيض للكونيالية، والمفتقر، حتماً، لأية صيغة نظرية - معرفية ذات طابع " وطني "، يستجلي مقومات الثقافة، ويؤسس لـ" هوية " عراقية وطنية تنفتح على مجمل لتشكّلات الإثينية الفاعلة. وبغياب هذا المشروع سعى الملك فيصل الأول، لإعادة توحيد التجمعات السكانية المبعثرة في أرياف العراق وصيغات أولية للمدينة، ضمن مجتمع سياسي عراقي موحد، تحتل العاصمة فيه موقع المركز الرابط والجامع. هكذا سيكتب " فيصل " في مذكرة شخصية سرية كُتبت عام 1933 أنه بصدد اختراع جديد اسمه " شعب العراق "، ويطلب من دارسي مشروعه، ربما، أن يقدّروا له جهوده " العظيمة " في مهمته " الجليلة ". وستكون " العاصمة " جوهر " اختراعـ " ـه، بأن يوكل إليها مهمة تمثيل دو " الرمز " لمجتمع مُفتت، أو بأدق، لجماعاتٍ يُريد أن يؤلف منها " الملك " موضوعة " الشعب "، وأن يكون لها " مخيال " و " مرجعية " سياسية واحدة. وهي مهمة " العاصمة " الأولى والأهم، أن تؤدي الوظيفتين معاً في آنٍ واحد: المخيال السياسي والمرجعية السياسية الواحدة والموحّدة لمجتمع في طور التكوّن. ولا مراء أنها مهمة شاقة ومضنية كان على " الملكية " أن تكافح من أجلها العديد من الصعاب، ربما يكون تعثّر " الطبقة البرجوازية " العراقية بأخذ دورها من أهمّها. غير أن توفّر " البلد " على " فئات " مثقفة نازعة للتجديد، ولاحقاً لمعارضة راديكالية مرتبطة بمشروع اليسار العراقي، ساعد " الملكية " على إقرار الوظيفتين السابقتين. ولا عجب، فإن فكرة التجديد في العراق ارتبطت بالتحرر من " العثمنة " وصولاً إلى فكرة " الدولة الوطنية ". وأعتقد أن " الكثير " يخلطون بين " النازع " العربي الجامع لـ" أقوام " المنطقة العربية "المُحتلة " والفكرة القومية ذات الصياغة السياسية المتأخرة، على الأقل في العراق، وللأسف فإن هذا الخلط سيؤدي، على خلفية تأويلات إنشائية فضّة أمكنها، فيما بعد، أن تؤلّف مشروعاً لحكم بوليسي بالكامل، بالوظيفتين وبفكرة الدولة ذاتها. يمكننا أن نلاحظ أن انتساب المثقف العراقي الباكر للـ" عاصمة "، والغالب عليه صفة " المهاجر " إليها من مدن العراق الأخرى: البصرة، الموصل، النجف، الحلة...، ساعد كثيراً في ترميز " العاصمة "، مثلما أعطى صفةً مهمة للثقافة العراقية، طالما دافعت عنها، هي، بالتأكيد، الصفة " الوطنية ". وستغدو " الثقافة " المُنتجة في " بغداد "، أو بصيغة أشمل، المنشورة في صحفها مجلاتها ومطابعها، والمتداولة في مقاهيها، ثقافة " العراق " الوطنية. وعلى مهلٍ أخفى " المثقف " المُنتسب للعاصمة، ربما بلا وعي أيضاً، تحت صيغة " الثقافة الوطنية "، انتماءه المُضمر لوظيفتي العاصمة. مثلما منح " العاصمة " صيغة " المدينة المهيمنة "، وهي سلطة لن تتنازل عنها " بغداد "، حتى في عهد " صدام " لصالح تكريت مسقط رأسه. إنصافاً لابد أن نُشدد على أهمية الوظيفة المزدوجة الأولى للعاصمة في لحظة التشكّل الأولى للدولة العراقية ولثقافة البلد، غير أننا نرتاب كثيراً في تحولاتها اللاحقة. هكذا سيجادل كثيرون، أن تغييراً مدمراً طرأ على معنى " الملكية "، وسيدشّنه " ورثة " الملك فيصل، بعد رحيله المفاجئ، سيستتبع، بالتأكيد، تغييراً أكثر جذرية على وظيفة العاصمة. ثمّة تأكيدات عديدة، تأتينا من دراساتٍ جيدة، تُفيد أن " تراكماً " مُثمراً حققته " المدينة " معنىً ووظيفة، أمكن لغير دارس أن يلاحق ملامحه الأولى في عهد فيصل، ثم نضجه في أواخر الملكية، على حساب " الريف " المُندمج بإرث " الإقطاعية العشائرية " في العراق عامّةً، والوسط والجنوب بصورةٍ خاصة، على أنه من الضروري أن نُشير إلى أن تاريخ الإقطاع في العراق يختلفُ كثيراً من " وسطٍ " تمتع، إلى حدٍّ ما، بإقطاعٍ مُعتدل القسوة، إلى " جنوبٍ " أُغرق، باكراً، بإقطاعٍ ذي تاريخٍ دامٍ. ربما لأجل هذا نُلاحظ أن " معنى " المدينة ووظيفتها أخذ بالتعزز في الوسط، على خلفية تعاطيه المزدوج الثقافي - الإثيني مع " النجف " معقل المرجعية الشيعية، والثقافي - الحضري مع العاصمة. ونحسب أن الجديد، وهو الأهم، أن معنى المدينة ووظيفتها قد اندمجا بفهمٍ جديد للثقافة، مهّدت له تغييرات عاصفة على صعيد العالم، وجدت لها صدىً واسعاً في العراق، وبالأخص لدى " فئاتـ " ـه المثقفة، بإدراكها أهمية الفهم الواقعي لموضوعات الثقافة وأهمّها، بالتأكيد، موضوعة " المدينة " وطرائق التعبير عنها. اللافت أن الحضور الفاعل، بل والمُهيمن، لموضوعات " المدينة " قد تأسس، فضلاً عن الفهم الواقعي، على ثيمة أخرى، يُشير إليها بدقّة بالغة أهم دارس للقصة العراقية، الدكتور عبد الإله أحمد، وهي، عنده، أن الأدب العراقي نهض على تشبّث غريب بـ" الحالة العراقية "، يندر أن تجد مثيلاً لها في الأدب العربي. ولا عجب، من ثمّ، أن تحتل الثقافة العراقية، في الخمسينات وبعدها، مكانةً مرموقة في الثقافة العربية، مثلما فعلها، لاحقاً، أدب المنفى العراقي، باعتماد الأول على: حضور المدينة الفاعل، الواقعية، وتجذّر الحالة العراقية، فيما سينهض الثاني على تأصيل
" الإرث العراقي "، محاولاً من وراء ذلك إنتاج مُدوّنة نصّية - ثقافية بديلة عن مُدوّنة السلطة في بغداد. وفي الحالتين نجد أن " السلطة " سعت، دائماً، أن تضع " العاصمة " في تقابلٍ مستمر، وربما عدائي، مع " إرث المدينة " في العراق، بتحويل " وظيفة " العاصمة من صيغة " الرمز " الكفوء والمعبّر عن المرجعية السياسية الموحدة للشعب، إلى صيغة " ترميز " السلطة. وهي صيغة قديمة تستعيد أول وظيفة لـ" بغداد " لحظة تأسيسها، إنها مدينة المنصور، الذي هو " الحاكم "، وقد رغب أن تكون له مدينة على مقاسه، أو بأدق، على مقاس " سلطتـ " ـه. وفي الظن أن " السلطة " هي إرث بغداد الآخر، وهي، كذلك، قدرها الفاجع، أن حوّلتها " السلطة "، في مُستهل ظهورها الأول، من صيغة " المدينة " إلى " وظيفة " لابد منها للسلطة في العراق. فلا معنى لأيّة سلطة بعيداً عن أسوار بغداد. ولأجلها ستتقاتل أقوام وملوك قريباً من أسوارها، وفي أحيائها بحثاً عن وظيفتها، أو طمعاً في " امتلاكـ " ـها. وهو مآلُها، أن تكون صيغة " فذّة " لتراجيديا السلطة والحياة في العراق. وليس غريباً، بعدها، أن يُختصر العراق بحدود بغداد. هذا المعنى سيتسرّب، بعد قرونٍ من ولادتها، إلى عقل أهم رواة بغداد في عصرها الأحدث، وهو يلاحق خمسةً من مثقفيها في خمسينات القرن الماضي، والذين هم مثقفو العراق، يكتب " غائب طعمة فرمان " في روايته " خمسة أصوات ": قال حميد وكأنّه يُقنع نفسه: سأكون في بلدي فالعراق ليس بغداد وحدها، قال شريف: العراق بغداد فقط. والحديث يأتي تعقيباً على " نقل " حميد، ولا بأس، من التشديد أن النقل فعل إجباري يصدر عن السلطة، من بغداد للعمل في " الديوانية " إحدى " بلدات " الوسط. نحن هنا أمام نصٍّ نادر وشديد الفاعلية والدلالة، والأهم أنه يصدر عن نصٍّ رئيس ومؤسس، هو الثاني بعد " النخلة والجيران "، الرواية الأشهر لفرمان، والأكثر أهميةً أنه خارج عن أهم مثقفي العراق، ممن يتفق المثقفون العراقيون، بكافّة اتجاهاتهم الفكرية - السياسية، على إطلاق صفة " كاتب " عليه، ونحسب أنه أمرٌ ذو دلالة بالغة في العراق، يخرج عن إطار " المجاملة "، ومن يعرف طبيعة " مزاج " المثقف العراقي يُدرك، على الفور، أهمية اتفاق مُجمل المثقفين فيه على " مدح " فرمان ووصفه بأنّه " كاتب "، وهو، أيضاً، أحد أبناء بغداد، ممن ولد وعاش ردحاً من حياته قارب العشرين، ساعده كثيراً في منفاه " الأبدي "، أن يؤلّف " ظاهرة " فريدة، ربما من الصعب تكرارها، أن يُعيد " اختلاق " بغداد، بصياغات مختلفة، من بعيد، بنبش ذاكرةٍ عنيدة، احتفظت له بالصغيرة قبل الكبيرة، حتى أن " فرمان " لم يكتب حرفاً واحداً خارج " بغداد "، ومهما قيل عن روايته الأخيرة " المُرتجى والمُؤجّل "، فإنها، في الصميم، صيغة متأخرة لـ" شتم "، ذاكرة لم تعد تستعيد " بغداد ". وبكلمة أخرى، أن " فرمان "، هو " مؤرّخ " بغداد في عهدها الحديث، وهو الأسوأ في نهضتها الجديدة، بعد إخفاقها في استعادة " إرث " المدينة المُغيّب في تاريخها، لصالح تشبّثها بـ" توظيف " السلطة لها. يستجلي فرمان في نصّه السابق صيغة " المثقف " المُندمج بوظيفة " العاصمة "، وهي، للأسف، لا تخرج عن موضوعة " الترميز " لظاهرة " بغداد ". ولا ريب أنها وظيفة " المركز " الراغب، أبداً، في تهميش غيره. وفي المقابل لا يظهر أن ثمّة فاصل حقيقي بين نص " المثقف " ونص " العاصمة "، والأخير، للتأكيد، ليس إلاّ نص السلطة. هكذا يُخفي " المثقف " انتسابه للـ" سلطة " تحت صيغة الانتماء إلى " المدينة "، وهي هنا بغداد، بذرائع شتّى، أهمها أنه ينتسب إلى " ثقافة " المدينة، أو بأدق إلى إرثها، ناسياً أن لا إرث لبغداد سوى أنها الصيغة الوحيدة والممكنة للحكم، أو للسلطة في العراق، ولاحقاً، أخفت " السلطة " رمزية بغداد بمنحها صيغة " العاصمة ". هل من الضروري أن نذكّر أن " فرمان " هو ابن العاصمة " بغداد "، وقد كتب هذا النص في المنفى، وبعد أكثر من عقدين على حقبة الخمسينات، ولكننا قلنا، أيضاً، إن " فرمان " هو مؤرّخ بغداد الأهم قبل موتها الأخير !
وللتأكيد نُشير إلى نص آخر، لا يقل أهمية عن نص " فرمان "، كتبه بعد عقدين، أحد " أبناء " بغداد، كذلك، الخمسيني البارز " فؤاد التكرلي "، الذي تتوافر روايته الأهم " الرجع البعيد " على إشاراتٍ وافية عن انتساب المثقف للـ " ـعاصمة " مما يستحق وقفة خاصة ليس هنا مجالها. وفي جانبٍ آخر، يهمّنا، حقّاً، أن نقف عند " تصوّر " أهم شاعر عراقي في العصر الحديث، وهو، بالتأكيد، بدر شاكر السيّاب، ذلك الجنوبي الناحل، ابن " البصرة "، وبالتحديد، ابن " أبي الخصيب " عن بغداد " المدينة - العاصمة ". في البدء، يطالعنا بيتٌ رئيس كتبه السيّاب في احدى قصائده ليكون جزءً من فكرة السيّاب " المريرة " عن المدينة، وهو ابن " القرية " الجنوبية، النازح إلى " مدينة " البصرة، وتالياً، إلى بغداد. يكتب السيّاب " بغداد مبغىً كبير " ثمّ في أخرى " المال شيطان المدينة ". من المؤسف أن " إيحاءات " النص الثاني قد سيطرت على دارسي السيّاب، وبالأخص، ثنائية الريف - المدينة، التي تحتفي بها قصيدته، ولاشك، على حساب النص الأول، والذي وقف عنده، من دارسيه، أجراه في سياق تفحّص الثنائية الآنفة. ولا مراء أن السيّاب أخذ الكثير من إرث الرومانسيين العرب، وهو، في البداية، على الأقل، أحدهم، وعلاقة الريف بالمدينة، أو، بالعكس في الشعر العربي " المعاصر "، هي من " ميراث " قصيدة التجديد " الحديثة "، التي نهض بها السيّاب ورفاقه. ولكن السيّاب أخرج الثنائية السابقة من " أفق " الرومانسية لتُصبح لديه قضيّة كبرى، هي من جعلت من السيّاب شاعراً " عظيماً " و " خالداً "، ولحظةً " فريدة " في تاريخ القصيدة العربية من الجاهلية وصولاً إلى " يوسف الخال " و " أودونيس ". حتى هذه اللحظة، وقد أمكنني أن أقرأ، في سنواتٍ سابقة، مئات الدراسات عن قصيدة السيّاب، لم أقف، وآمل أن أكون واهماً، عند الأسئلة الكبيرة، مما كان يجبُ أن يضعها أي باحث أمامه، وهو يتفحّص " تركة " السيّاب، من قبيل: لماذا أصبحت قصائد السيّاب عن قرية صغيرة، اسمها " جيكور "، ونهرٍ أخذ بالضمور في حياة السيّاب نفسه، اسمه " بويب "، هي الأهم في الشعر العربي عامّةً، وفي شعر السيّاب ذاته؟ كيف أمكن لـ" قرية " تحمل اسماً غريباً كـ" جيكور "، ومثلها " بويب " أن تحظى بشهرة عارمة عربياً، وربما لو أحسنّا تسويق أفضل ما لدينا لأصبحت، دون تردد، الأكثر شهرةً في العالم؟ لماذا يصف السيّاب " مدينة " عريقة كـ" بغداد "بأنّها " مبغىً كبير "، بل الأهم لماذا نلاحظ غياباً مريباً لبغداد، والأكثر ريبةً، للبصرة، في قصيدته؟ لماذا تُشعرنا قصيدته " غريب على الخليج "، حتّى بعد أربعين عاماً من رحيل صاحبها، أنها الأكثر تعبيراً عن العراقي ومحنته؟ ثمّة إجابات جاهزة تعكس، بالضرورة، تفكيراً محدودا، تحضر، دائماً، في عقل الباحث، العراقي، أو، العربي، أن السيّاب " القروي " لابد له أن " يعكس "، أو، " يتمسّك " بموضوعات " الريف "، في قصيدته، وأن يجعل منها صيغةً مقابلة لإرث المدينة، وإن كانت بغداد " العاصمة ". ولكن ألم تكن نسبة غالبة من شعراء العراق والعرب قرويين، لماذا لم يجعل أحدٌ منهم
" قريتـ " ـه تصل إلى صيغة الرمز الكوني، المُعترف به والمُقلّد، كما فعل السيّاب؟! بالتأكيد نحن هنا بإزاء " خصوصية " السيّاب، وهي حاضرة حتماً، ولكن الأكثر أهميةً، إن " خصوصية " السيّاب هي التي جعلته يتلمّس بصياغة فريدة ونادرة إرث المدينة بعزوفه عنها، أو، شتمها تارةً، وبإثارة أسئلة " الهامش " تارةً أخرى. فيما بعد سيأتي " كثيرون " ليتحدثوا عن أدب " الهامش "، وهو عندهم أدب ما بعد الحداثة، وستقوم الدنيا ولا تقعد، ربما حتى الآن، لأن كاتباً عظيماً من نوع " ماركيز " كتب واحدة من أهم روايات القرن العشرين، هذه الرواية لا تحكي عن باريس، ولا عن لندن، إنها تتحدّث عن قرية صغيرة، قد تكون " جيكور " أكبر منها، اسمها "ماكوندو". أليس هذا مصادفة غريبة؟
حمزة عليوي
باحث واكاديمي من العراق