زهْرُ الصَبّار 5: قابيلُ الزقاق وعُطيله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1
ـ " عراااضة..! "
مسحوراً بالمفردة تلك، الملغزة والمألوفة في آن، رأى الصبيّ نفسه منقاداً، بلا وعي، خلف رفاق الزقاق، المتحدرين ركضاً لاهثاً جهة الجادة الجنوبية ؛ ثمة، أينَ السواد البشريّ المتلاحم بحماسة غامرة، وبهدير هتافاتٍ مدوّية. عبثاُ كانت محاولته تمييز هذا الرجل، الأشيب شعر الرأس نوعاً، المعتلي سدّة المظاهرة بيدٍ ملوحةٍ بسيف قصير: " إنه أبوك! "، قالوا له وهم يشيرون بأذرعهم القصيرة، ناحية الرجل ذاك. على أنّ كل شيء، وعلى الأثر، ذابَ في لجة الزحام، كما في فيض شمس الصباح ؛ الصباح المتيقظ مبكراً، مدهوشاً، على جلجلة " البيان رقم واحد "، المنبعث من إذاعة دمشق. يقينٌ متمكن، بكون الأب من قادَ عراضة ذلك اليوم من أواخر أيلول، قدّر له الترسّخ في وجدان الصبيّ البالغ للتوّ حدّ أعوامه الأربعة: فتلك ( القامة )، المشرعة يومذاك، والمنقوش على مقبضها، الخشبيّ، هذا الإسم، " جميل "، ستمسي بعد قرابة العقد من السنين، علامة التحقيق الجنائيّ، الوحيدة، في جريمة القتل المنسوبة للشقيق الكبير، " جينكو ". ولا بدّ أنّ " عنتر الأعور "، إمتلك بدوره يقينه الخاص، حينما شاءَ في صباح الصخب نفسه، الخروج على الخلق ملوّحاً بصورة زعيم القومية العربية، العائلية، مقلداً لهجة بائع جوال، ممطوطة: " عبد الناصر وأولاده بفرنك واحد..!! ". ولكنه بعيدَ مرور ساعة واحدة حسب، شوهدَ وهوَ ملهوجاً، يُنزل الغلق الصفيحي لدكان الخضار العائد لرزقه، ويعمد للفرار من المكان لا يلوي على أحدٍ من جيرانه، المتسائلين. كانت الإذاعة قد أعقبت بياناتها، الإنقلابيّة، بموسيقى كلاسيكية مطوّلة ومملة، ثمّ ما عتمت أن فاجأت مستمعيها ببيان أكثر جدّة، يبشرهم بتسوية سياسية ما، تتيح عودة الإقليم الشمالي إلى حظيرة الجمهورية العربية المتحدة. بيْدّ أنها لم تعُد، أبداً، تلك الجمهورية العتيدة، الإعتباطية، وإنما ضحاياها من أولاد البلد، المهملين في المعتقلات ؛ من أولاد حيّنا، خصوصاً، الذين أخرجوا دفعة واحدة من " المزة "، السجن الشنيع، مصاحبين بإطلاقات نارية كثيفة، مبتهجة. والدي، كان ثمة وسط العراضة إذاً، يصافح رفاقه ويهنئهم ؛ هوَ المفرج عنه قبل ذلك بأشهر، وبوساطة محتملة من لدن صديقه القديم، " علي بوظو " ـ كما قيل لنا في زمن تال. إلى بيت هذا الأخير، زحف الجمع اللجب، الغاضب، عند عودته العاتية من مركز المدينة ؛ أين تمت مهاجمة بعض مباني الحكومة الإتحادية، البائدة، وإشعال النار فيها. كان " علي بك " في القاهرة يومئذٍ، فنجا من مصير مفجع، كان ينتظره بالتأكيد في المنزل الفاره، المتركن عند الجهة الغربية لحيّنا. ها هنا، على جدران المنزل، المتداعية بفعل اللهب، سُجلت إحدى أساطير طفولتنا، والمترجّعة مصير الأسرة، المنكوبة: " أم علي "، الجدّة، تندفعُ خارجاً وبين يديها صغرى بنات البك، المتبلغة الإصابة في العين اليمنى. صارخة ً تندفعُ، مناشدة ً الجمعَ الثائر كفّ أذيتهم عن الدار وقاطنيها. مرأى سليلة الوجاهة، في هيئتها الموصوفة، ما أسهمَ بوقف المأساة فقط، بل وردّ الأهلين، على ما يبدو، لخصلة التضامن الكريمة، التي كادَ أن يمحيها من وعيهم ما طرأ على مسلكهم في الأعوام الأخيرة، الإنقلابية، من أطوار غريبة، دخيلة.
2
ما قام به الدهماءُ في يوم الفرح العام هذا، أسخط والدنا للغاية، وعلى الرغم من أنّ علاقته بصديقه ذاك، القديم، كانت وقتئذٍ منقلبة إلى قطيعة بلا رجعة. ومع أنه عرف، مؤكداً، أنّ شقيقه سعى لدى " علي بك " لإطلاق سراحه، إلا أنه كان متشككاّ دوماُ، إزاءَ المسألة. على أنّ الأبَ، بطبيعة الحال، رفض فيما بعد قطعاً الإستعانة بنفوذ الرجل، الذي كان وزيراً خطيراً في تلك الحقبة، الناصريّة ؛ هوَ من خرجَ من المعتقل بسجلّ عدليّ، أحمرَ الخط، ليجدَ نفسه مهملاً على ناصية درب البطالة. كان كلاهما، في فتوته، على مقعد دراسة اللغة الأم، في مدرسة الجمعية الحاملة إسم " كردستان " ؛ الوطن الأم، المفقود. ثمة، إعتادت نخبة مثقفي الحيّ، وكانوا قلة قليلة على أيّ حال، التحلقَ حول المعلم " جلادت بك " ؛ الأمير البدرخانيّ، المتوطن في منفاه الشاميّ. وإذاً في فصل اللغة، المًدار بإخلاص وتفان من لدن منفيّ آخر، هوَ الشاعر " عثمان صبري " ؛ في هذا المكان ذاته، تعارف أبينا بوزير المستقبل، وأحد مؤسسي حزب الشعب، المحافظ، المتبني فكرة " الهلال الخصيب "، والمدعومة من الأسرة الهاشميّة، في العراق. أما الآن، فربما حقّ للوالد، في عز أزمته المعيشية تلك، المتخلفة عن إعتقاله، أن يتحفظ أمام فكرة الإستعانة بوجاهة صديقة القديم. لقد تناهت لسمعه، ولا شك، تلك الطرفة ً المعنونة بـ " وساطة علي بوظو "، المتداولة في أقاويل الحيّ. وزيرنا هذا، وبحسب متن الطرفة دائماً، كان منشغلاً في مكتبه، حينما أطلّ السكرتير من شقّ الباب، قائلاً أنّ شخصاً، إسمه فلان، يلح على مقابلته. حسنٌ، ليدخل إذاً ما دام الأمر بهذا الإلحاح. ما أن همّ الضيف الطارئ الخوضَ بلغته، الكردية، إلا و " علي بك " يقاطعه مهتاجاً: " ماذا تبغي يا هذا؟ ولم لا تفصح عن مرادك مثلَ بني آدم!؟ ". هنا، دخل في وعي الرجل للفور، أنه أحرجَ الوزير قدّام زواره، فما كان منه سوى تدارك الأمر والتبسط بعربية سليمة، راجياً إياه التوسط له في مسابقة قبول لإحدى الوظائف. ثمّ ما عتمَ الرجل أن خرج على الأثر راضياً، وفي جيبه قصاصة ورق، يفوح منها عطرٌ رسميّ. لم تنته حكايتنا هنا، على كل حال. فالمشرف على المسابقة، كان بدوره من حيّنا، ولكنه لسوء الحظ في خصومة مع الوزير. في اليوم التالي، يمثل رجلُ الوظيفة ثانية في حضرة البك. ماذا دهاك، يا أخ؟ تعود للتكلم بلغة ما أنزل بها من فرقان! همساً، يحاولُ إيصال الرسالة، بالكردية، لصاحب المكتب الوثير ؛ لصاحبه الذي كان زميلاً، في زمن آخر ذي شيمةٍ اخرى. دونما جدوى إذاً كانت محاولته، اللهمّ إلا إثارة اللهيب في الطبع الناريّ. أخيراً وبدوره، إنتفخ عرق السلالة في أوداج الرجل، فما كان منه إلا مخاطبة الوزير، بالعربية، وعلى مسمع من ضيوفه: " الموظف الذي تفضلتَ أمس بإرسالي إليه، طلب مني إبلاغك أنه لم يتعرّف، حتى الآن، بشخص ٍ نذل! ".
3
على مدارج المعتقلين السياسيين، المفضية للحريّة في " يوم الإنفصال " ذاك، سارَ أيضاً بعضُ سجناء الحق العام. هكذا فجأة ً وجدَ " قابيلُ " نفسه طليقاً، ولمّا يمضي بعد نصف مدّة حكمه. كان جارنا هذا، أصغرَ أولاد آل " حج عبده "، الثلاثة ؛ بأعوامه المقاربة يومئذٍ منتصف الحلقة الأربعينية. ثمة إذاً، خارج بوابة سجن " القلعة "، ما وُجدَ من يستقبل الرجل غيرَ شقيقه الأكبر. هذا السجن، كان يقبع في جيرة السوق الكبير، الذي إعتاد " قابيل "، في زمن أقدمَ، أن يتبضع منه الأقمشة الرجالية، ليعيدها إليه من ثمّ ـ كألبسة جاهزة، مخاطة بأنامله، الحاذقة ؛ الأنامل نفسها، التي شدّت على المطوى القاتلة. هذا الرجل، الملقب من لدنا " تأتوءة " لفأفأة في نطقه، أعتبرَ في زمن طفولتنا ـ كشرّ لا بدّ منه، ما دام باب منزل " آل حج عبده " يقف بمواجهة باب منزل " حج حسين ". ويبدو أنه في سنام فتوته، تألق بوسامةٍ لا رحمة فيها، مشفوعة بأناقة مكتملة ؛ أناقة خياطٍ أصيل: أقولها على ذمّة صورته الشخصية، الفوتوغرافية، المتهيء لي مرّة تأملها ملياً في حضور صغرى أقماره، الموافق عمرها عمري. كلانا إذاً، كان في يوم الجريمة في سنّ عامه الأول، متملياً بالكاد الزقاقَ ولداته وألعابه وهرره وكلابه ؛ زقاقنا، الذي ما عتمَ أن إرتفعَ فيه، على حين بغتة، صدى جلبة رجاليّة، مبينة: " إبنتك أصلاً بلا أدب ولا تربية "، يصرخ إبن " حج عبده " بوجه شقيقه الأصغر هذا، معنفاً إياه بسبب شيطنات طفولية، مألوفة.
ـ " عادة ً لا يتتتكلم عن التتتربية والأدب، من كان مقامراً سكيراً! "
ـ " كـ... إمرأتك! "، يقذف شتيمته شقيقُ " قابيل " هذا، محمّلة ً على جنحيّ صفعةٍ مدوّية ؛ شتيمة، ما تهيأ له أن يحدس، على الأرجح، بكونها مختتم كلماته في الحياة. أهلينا وبدورهم، ما كان أيضاً في حسبان شهودهم المشادة تلك، الأخوية، أنها ستتناهى إلى مشهدٍ تال، دمويّ. جداراً جداراً، تطوّح جسَدُ الرجل في إرتطاماتٍ وخبطات وإنتفاضات، متعاقبة، حتى مستقرّه في نزع نهائيّ حذاء عتبة منزلنا، ثمّ هموده من بعد. أعوامٌ سبعة، على الأثر، وأجدني صحبة لدّاتي أمامَ مدخل الكهف المهيب، المتوسّط جبل " قاسيون " من الجهة الغربية لحيّنا ؛ الكهف المَقام، المنعوت من لدن الخلق بـ " الأربعين "، إحتفاءً بحضور، مجنح، لأربعين نبياً. " هوَ ذا حجَرُ " قابيل " القاتل، ما فتئ ندياً بدم شقيقه! "، يخاطبني شقيقي " جينكو "، مشيراً لكسرةٍ صخريّة، منطوية على نفسها بتواضع ـ كمتسوّلة ؛ هيَ من كانت مكسوّة بدِمْقس شاميّ، متوسّلة ً أعطياتِ حجاج المقام، من ملتمسي الشفاء أو البقاء. من تلك العمرة النجيعية، أستعيدُ أيضاً ما كان من تدخل الرفقة الآخرين، ورفدهم الإسطورة إياها بتفاصيل اخرى، تفصحُ عن مداركهم الدينية المشوّشة، والمحدودة على كل حال. على أنني وقتئذٍ كنتُ متفرّداً بذهني عن الجدل المحتدم، في توغلي غلسة مكان آخر، أبعدَ قليلاً، وأكثر إلفة ً من هذا المكان الشبيه ؛ الذي شاءَ رحّالة المسلمين والفرنجة تعريفه بـ " مغارة الدّم ".
4
السجن، مثلما الأرض الخلاء، يطؤها البريءُ والفاجر. هنا، وراء هذه الأسوار الحجريّة، المتداعية بأديمها الغابر، حظيَ " قابيل " ببعض من السلوان، ما دامت لغته الأم هيَ الأكثر سؤدداً في " القلعة " ؛ بما كان من عديد مواطنيه مساجين وسجانين، سواءً بسواء. على هذا، كانَ محض إتفاق، في واقع الأمر، أن يلتقي الرجلُ في أحد أفنية السجن، بجاره " عُطيْل " ؛ أحد أحفاد " حج حسين "، الذي أعطى الزقاق نعته. إبن الحارة هذا، كان ينزل في العنبر المجاور، كما باحت المجاملة، العابرة، والعسرة في آن: فالرجلُ شبه أصم، فيما الآخر على حبسة لسانه تلك، الموصوفة. لقاء إثر آخيه، وجدَ السجينان نفسيهما في عِشرة يوميّة، لا غدَ لها على كل حال. " عطيل "، الأحدث عهداً بالتجربة، بدا أقل مبالاة في أروقة هذا المكان، مقارنة برفيقه الناذر ساعاته السجينة، المتطاولة، للخواء والسأم واليأس. خارجاً، بدتْ الحريّة لقلب " قابيل " أبعدَ منالاً من جبل " قاف " ؛ هوَ المتناهية نظرته نحوَ " قاسيون " ؛ الجبل المحتبي أضواء منازل الحيّ، الألقة، الراقدة حتماً في مثل هذه الساعة المتأخرة: ثمة، في الزقاق الغافي على كوابيس زمن ٍ غريب، مفقود الإلفة ؛ هناك، تتعاشر على إغماض ٍ إغفاءةٌ أكثر عمقاً لأطفاله. ما كان يفصل بين منزليْ سجينينا، إن هوَ إلا حائط من المدماك اللبنيّ حسب ؛ حائط، ما أمكنه عزل الصرخة المكتومة، المنبعثة في عمق ليلة أسحَقَ بعداً.
" جريمة شرف في حيّ الأكراد! "
بهذه الجملة، المدوّية، ظهرَ في صفحة الحوادث، الداخلية، مانشيتٌ عريض بإحدى الصحف المحلية، الدمشقية ؛ جملة مثيرة، متبوعة بما تيسّر من التفاصيل الأكثر إثارة، فيها ما فيها من أسماء شخوص وأمكنة، كان من المحال، قبلاً، أن يَفضي بها بوحٌ أو همسٌ على السواء. بيتُ الجريمة، في الجهة العليا من الزقاق، الشاخصُ جهة َ دارنا ببَصَر شبابيكه الرثة ؛ بيت الأشباح هذا، لن يفتأ فاغراً فاه، الأشدَق، لطراوة طفولتي: من هنا، سُحبتْ جثة الإبنة البكر لكبرى عمتيّ، الملتحفة بما أغسى عليها من ظلام ليليّ ونور إلهيّ على السواء ؛ هيّ المكفنة بملابسها المدماة الممزقة حسب ؛ كيما تكون جديرة ً بالطيف المخيف دهراً طفولتنا. من هنا، أيضاً، من المنزل نفسه وفي زمن تال، كان على كبرى بنات العمّ، الأكبر، أن تتقدّمَ خلل الخطى القليلة، الفاصلة بين الجهتيْن، وعبرَ دهليزنا المختوم بدرجات ثلاث، عريضة، والمُفضية إلى أرض الديار، ومن ثمّ إلى درجات أربع اخرى، أعرضَ، كادت أن تتعثر هيَ بإحداها ملهوجة ً في طريقها نحو جلسة الأسرة، الصباحية، المعتادة، بمنظرة الحديقة المتناهضة لوداع الصيف. " قرعتُ باب منزل أخي، ولا أحد ثمة ليجيبني؟ "، نُطقتْ لاهثة ً هذه الكلمات المريبة، المرتسم على سيمائها ملامحُ تعاسةٍ، جازمة، والمتهاطلة على رؤوس الأهل ـ كمطر أسوَدَ، من لدن سماءٍ عدوّة، متوعّدة.
5
ـ " ماذا فعلتم بالمسكينة، لا وفقكم ربّي! "
هكذا أخيراً أجابتها صرخة الأم، المشفوعة بملحق متطاول من عويل ونواح. جدّتي أيضاً، كانت هناك ؛ هيّ المقيمة لدينا، غالباً، مذ وفاة العميد الأخير لآلنا. بلا نأمةٍ، إنتهضتْ وبين يديها غلام السنتين، الذي كنتهُ، ميممة ً شطرها نحوَ الحجرة الكبيرة، ثمّ أنشأتْ ثمة تنشج بالصمت نفسه: القتيلُ هيَ إبنة زوجها ذاك، من امرأته الشركسيّة، وكانت منزّلة عندها في مقام بناتها الثلاث عاطفة ً وحنواً ورعاية. هذه الإبنة، هيَ علاوة على ذلك، خالتي. ما قدّر للسنّ البدائية تلك، من عمري، أن ترسّخ صورتها في ذاكرتي. على أنّ بكرها الشقراء، ذات الحسن الأغرّ، لا بدّ وكانت وفق شهادة أهلينا هيَ الصورة المشرقة، المنسوخة عن تلك الأصل، المغيّبة. خالتنا الصغيرة، كانت منذورة للتعاسة مذ لحظة إفاقتها وشقيقها، الأصغر، على حقيقة إختفاء الأمّ من المنزل ؛ حقيقة، حَفرتْ بمدية اليقين نقشاً في اللحم البضّ، لما إنتظراها باكييْن النهار ذاك بطوله، دونما جدوى ؛ وحينما تذكرا، بالخصوص، ما كانت تتهددهما به دوماً: " إني راحلة قريباً إلى أهلي.. ليكن هذا واضحاً لديكما! ". إلى جدّتهما، المقيمة في " الصالحية "، غير ببعيد عن منزلهما، هُرعَ طفلانا في مساء اليوم نفسه ؛ إلى أمّ والدتهما هذه، اللا مبالية سوى بطقس وحدتها، الحالم، يتوجّهان بهتافٍ معولّ متأس ضارع، أنْ إلحقي " ماما " قبل أن تدركَ الحافلة الظالمة، التي توشك على الإنطلاق إلى " عمّان ". بقيا بضعة يوم هنا، لدى العجوز البرمة، المتأففة على الدوام، ثمّ ما أسرعَ أن غذا السيرَ، ثانية ً، على الطريق السلطاني، المفروش بأحجار الغرزة الرمادية، والموصل حيّ " الشيخ محي الدين " بجاره الأقرب " حيّ الأكراد ". في منزل الأب، إذاً، الشاهد على ولادة الصبيّ بعد البنت، ما كان الحالُ أكثرَ يسراً: ثمة ضرّة اخرى لوالدتهما، مطلقة، إلا أنها متشبثة بالبقاء هنا ؛ بما أنه لا مأوىً آخر يحويها وذريتها. ولكّ الخالة " ريما "، الطيّبة، كانت هناك في الدار الكبيرة، سيّدته على كل حال ؛ وهذا هوَ المهم، ما دامت لن تسمح لرجلها بردّ طفليه التعسين، المتوحّدين، إلى جدتهما في " الصالحية ".
ـ " الصالحانيّة تلك، دبّرت عريساً لإبنتها مناسباً، ما كان في واقع الفضيحة سوى عشيقها هيَ! "
ـ " وربما أنّ إمرأتكَ، أستغفرُ الله، من صلبه هوَ.. من صلب أبيها!! ": دأبَ صوتُ الشقيقتيْن، اللجوج الضاري، يصرخ في ليالي السجن، الدهريّة، بأذن " عطيل " شبه الصمّاء ؛ الصوت، وما تصرّف عنه من إشاراتٍ خفيّة، ملتبسة، عن ذاك الجار الوسيم، الغريب، المستأجر حجرة ً لديهم. أثناء المحاكمة، كانت المَدارك شبه القاصرة لسجيننا، أعجزَ من أن تدركَ تلك العدوانية التي محضته إياها، وبلا شفقة، عينا كلّ من كان حاضراً في تلك القاعة، المهيبة، من " القصر العدليّ " ؛ وبشكل أحدّ أولئك الشهود، من أقارب وجيرة، المجمعين على تأكيد براءة المغدورة. ولكن لسعده، فما تناهى إليه شيء مما كان يدور هناك ؛ اللهمّ إلا هذا الهسيس، المأفون، المستمرّ في سمعه منذ أن إكتشفت جدّته الحنون، " سارة "، وهوَ طفل بعد، أنّ الأذن اليسرى كانت معششة بدودٍ مريع. وإذاً، على المنوال نفسه من اللا مبالاة، تلقى " عطيل " القرار بحبسه خمسة عشر عاماً، وكذا ما أعقبه من إهمال الأشقاء أمر إستئناف الحكم ونقضه. هؤلاء الأشقاء، الذين بالمقابل ما بخلوا عليه خلال سنين أربعَ من زياراتهم لسجنه، بالمونة الوفيرة، المستجلبة من نفحات كرَم الأعمام، الموسرين، ولا على أطفاله، الأربعة، بألوان من الذل والمهانة والعسف والعذاب، المستجلبة من أتون حقدٍ تليد.
للحكاية بقية..
دلور ميقري