أصداء

الرفض جمال الموهبة وشجاعة التمرد

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يقول عبد الله القصيمي في واحدةٍ من أبهى تجلياته الأدبية: أشد الناس عذاباً عقلياً ونفسياً وأخلاقياً وإنسانياً، إنسان قد اجتمع عليه شيئان: مصاب بمرض النقد والرفض والاحتجاج والاشمئزاز والغضب وبموهبة التحديق في الناس وفي الأشياء وموهبة الاشتراط على الناس وعلى الأشياء، ثم محكوم عليه بألا يعايش إلاّ العالم العربي..

بهذه المقولة للملهم القصيمي أبدأ مقالي بالتساؤل: لماذا حينما يكون الإنسان متفجراً بالنقد والرفض لكل الثقافات البليدة والبلهاء، ولكل المعتقدات واليقينيات والمسلمات التي تريد أن تفترس بتعاليمها وأوهامها وخرافاتها حقه في أن يكون مفكراً أو ناقداً أو صارخاً أو حتى ساخطاً، فإنه يصبح في نظر مجتمعاتنا معتوهاً ومنبوذاً ومخرباً وخارجاً على الطبيعة والسماء والحياة والمنطق وخارجاً على تعاليم القديسين والأوصياء وعلى قداسة المحاريب.؟ ومن ثمَّ عليهِ أن يعاني عذاباً نفسياً وعقلياً وإنسانياً، ليس لأنه فقط ممنوع من الكلام والحديث والصراخ والاحتجاج والرفض والتحديق، بل لأنه يعيش وسط مجتمع بائس وخانع وأعمى ومتعصب للجهالة والغباء والبلادة، ولا يريد هذا المجتمع أن يفكر أو يحتج أو يرفض أو ينتقد أو يتمرد أو يتغير أو يثأر لعقله المسلوب ولحريته المستباحة..

ولماذا يكثر ويتكاثر الدعاة والوعاظ والمنبريون في مجتمعاتنا، ويريدون منا أن نكون نسخة مطابقة لأشخاصهم وأفكارهم وتوجهاتهم، فمن أعطاهم الحق في أن يكونوا علينا أوصياءً وقادةً وأرباباً كما يشتهون وكما يتمنّون ويتطلعون، أليسَ هو هذا المجتمع الخائب والبائس والمستسلم والخاضع لهم ولتعاليمهم ولأفكارهم ولصياغاتهم، وأليس هو هذا المجتمع الذي يريد أن يكون كما يتمنى له دعاته ووعاظه ومنبريوه، وأليس هو هذا المجتمع الذي لم يفكر يوماً ولم ينتقد يوماً ولم يتمرد يوماً على تعاليمهم وخطبهم ونزقهم المنبري وشبقهم الوعظي المترع بشهوة التسلط والهيمنة، وأليس هو هذا المجتمع الذي أعطى لهم كل المبررات لكي يحكموه ويقودوه ويسيطروا ويتسلطوا عليه كيفما يشاؤون وكيفما يشتهون وكيفما يتخيلون ويتطلعون ويتمنون.؟ وأليس هو هذا المجتمع الذي يتزاحم ويتدافع لكي يصغي باهتمام وخشوع وتلذذ وعبادة وبلادة لكل ما يقوله الواعظون والمنبريون والمتخشبون في لغة صماءَ بليدة، ولم يفكر يوماً هذا المجتمع أن يهتم لما يقوله مثلاً فولتير أو كانط أو نيتشه أو سبينوزا.؟

ولماذا ينساق هذا المجتمع البائس كما يريد ويشتهي لنفسه، وكما يخطط ويستعد وراء التحشيدات المذهبية والطائفية والدينية والهوياتية، أوليس كل ذلك من صناعة وصياغة وفنون وعبقريات أبطاله وأسياده المنبريين والمعمّمين والدينيين والطائفيين والمتحزبين، هؤلاء المتفانون في عشقهم وتلذذهم لشهواتهم السلطوية والتحزبية والاستحواذية، وأليس هو هذا المجتمع ذاته الذي أعطاهم كامل الحق في أن يكونوا أبطاله وأسياده ومنقذيه، ليبقى متمترساً خلف أدبياتهم وتعاليمهم القاتلة المشبعة بفكر التقاتل والسيطرة والتسييس، وسائراً في ركابهم، منفذاً لكل تعاليمهم الماضوية والتراثية المتهالكة، وأليس هو هذا المجتمع ذاته الذي قد وافق أن يكون تحت شهوة هذا أو ذاك، مستمتعاً وراغباً في أن يكون حطاماً أبدياً في مناوشاتهم الساذجة ومعاركهم الغبية وتطلعاتهم المريضة بالعقم والأوهام، والمريضة بشهوة السيطرة والنفوذ والتسلط..

فهل الرفض والتمرد خيانة للضمير وخيانة للتعاليم السائدة وخيانة للماضي المشرق البهي وخيانة للموروث وخيانة للسماء وخيانة للذات الإسلامية، كما يقول لنا الوعاظ والمنبريون والمتعصبون والمتحزبون والدينيون والساذجون، وإن لم يكن كذلك فلماذا إذن يتوجسون قلقاً ورهبةً وتطيّراً وارتعاداً من الذي يمتلك موهبة الرفض والتمرد والتحديق تفكيراً ونقداً واحتجاجاً على أفكارهم وتعاليمهم ومقولاتهم ومنقولاتهم التراثية، ولماذا يهابون مفكراً واحداً ويقاتلوه وينبذوه ويلاحقوه، بينما لا يجدون ضيراً في أن يكونوا متحالفين ضده مع الطغاة والمستبدين والتافهين كما يقول القصيمي.؟!

أن تكون رافضاً لكل تلك التعاليم البليدة التي تسلب حقك في التفكير والنقد والرفض فذلك يعني أن تكون مالكاً لموهبة التفكير الحر، ومالكاً لموهبة النقد والرفض والتحديق جيداً في الأفكار والأشياء، وأن تكون قافزاً للأعلى ومحلقاً في سماواتك الحرة الرحبة، فذلك يعني أن أقدامكَ حرة وغير غارقة في أوحال البلادات والتخندقات الهوياتية الضيقة والتعاليم البلهاء، وأن تكون محباً للتمرد على السائد، فذلك يعني أنكَ محبٌ للجديد والمغاير ومحبٌ للمغامرة والمجازفة والوصول إلى أبعد نقطة في التفكير والتحديق والرفض، وأن تكون مفكراً في نفسك ومفكراً ناقداً لأوضاعك وذاتك، فذلك يعني أنكَ صديق ودود ومخلص وأبدي لعقلك وتفكيرك..

ولماذا لم نحاول أن نسأل أنفسنا يوماً عن ما الذي يقتل فينا موهبة الرفض والتمرد والنقد، أليس هو هذا المجتمع الذي تربى وكبُر وترعرع على حقيقة مطلقة ويقينية ونهائية تتمثل في أن المعيار الوحيد للأخلاق والفضيلة والحب والصدق والنظافة والكرامة والنبل هو التمسك بالتدين، والتمسك الأبدي السرمدي بتعاليم النصوص التراثية، ففي هذه الحالة تصبح ثقافة الرفض وموهبة النقد وجمالية الوعي الساخط عند الأفراد خروجاً ( شيطانياً ) على السماء، وخروجاً مكروهاً ودميماً على الطبيعة والمجموع والسائد، وتصبح خيانة فادحة للمعتقدات والتعاليم والمنقولات والحمولات التراثية، وخيانة للضمير وخيانة للذات الإسلامية التي يجب أن تبقى مخلصة لكل ما يربطها بموروثاتها وتراسلاتها التاريخية الدينية..

وحينما تحاصرنا منذ الصغر ومنذ نعومة أبداننا وأذهاننا وتفكيرنا ومنذ نعومة استقبالنا للحياة، ثقافةٌ لا توجد في قواميسها وأبجدياتها وأدبياتها مفهمومٌ جميلٌ ورائعٌ وبهي لمعاني الرفض والتمرد والنقد والتحديق، فعلينا فقط أن نفعلَ كل ما تطلب منا هذه الثقافة من دون تفكير أو نقد أو رفض، لأنها مقدسة ومنزّهة عن الخطأ، ولأنها الأكيدة والنهائية واليقينية والمطلقة، ولأن النقد والرفض والتمرد على هذه الثقافة إهلاك للنفس وتطاول على المقدسات وتجريح للمسلّّمات وطعن باليقينيات، فعندما تحاصرنا هذه الثقافة من كل ناحية وصوب، وتحكم علينا بقبضتها وأسوارها وفروضاتها وأحكامها وتعاليمها منذ الصغر، نكبر ونترعرع على تقبّل كل ما يأتي إلينا منها بعقلية خاضعة ومستسلمة ومتعبدة ومستلذة ومستمتعة أيضاً، ونكبر على أن النقد نقيصة وأن الرفض قباحة وبذاءة وأن التمرد دمامة وحقارة، وأن جمال الذات واستقامتها وتدينها وخلاصها في أن تبقى ساذجة وغبية وخاضعة ومُهانة ومُطيعة ومنفّذة..

وفي مثل هذه البيئة الاجتماعية القامعة للرفض والنقد والتحديق، والسالبة لكل المواهب الذاتية المتفجرة بالتمرد والاختلاف والجمال، قد نحتاج فقط إلى لحظة واحدة، لحظة مختلفة في كل شيء، لحظة مفعمة بالتفكير ومتقدة بشرارة التمرد والرفض، ومتوهجة بنظرة التحديق الثاقبة، لكي ننتبه لأنفسنا ولذواتنا، ولكي نلتفت عميقاً لعقولنا ولتفكيرنا، هذه اللحظة متى ما ظفرنا بها ومتى ما دخلنا في أتونها المتأجج بالفورة التفكيرية والنقدية، كنا الأكثر قرباً من ذواتنا المفكرة والناقدة، وكنا الأقرب من نقطة التحول إلى رحاب الحرية والانعتاق والتحليق، وكنا الأكثر انسجاماً مع طبيعتنا الرافضة والمحدقة..

وبالطبع إنها لحظة استثنائية في كل شيء، استثنائية في انبلاجها وتفجرها وفي قوتها وفي زخمها وفاعليتها، واستثنائية في قدرتها على الدفع بنا نحو التحولات الحاسمة، إنها اللحظة التي تضعنا أمام مفترق طرق، فإما أن نرتفع بأنفسنا إلى مستويات الذات المفكرة والناقدة وإلى مستويات الشجاعة والشفافية والصدق والكرامة والعقلانية والحرية والرفض والإنسانية، وإما أن نبقى تائهينَ إلى الأبد في دروب تنكفيء دوماً على نفسها، وتتشظى دائماً عند منحنيات التلاشي والخراب والضياع والوهم والعدم..

محمود كرم
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف