أصداء

أين هو المشروع الوطني اليوم؟2

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أين هو المشروع الوطني اليوم؟! (2) ـ الديموقراطية الشعبية

بعد انهيار العوالم الثلاث التي ورثناها بعد الحرب العالمية الثانية خلال الربع الأخير من القرن المنصرم أمسى الإفلاس التام حصاد جميع الذين اشتغلوا في السياسة وكانت لهم مشاريع حقيقية أو شبه حقيقية من مختلف التوجهات والإيديولوجيات، من اليمين ومن اليسار سواء بسواء. لم يعد هناك من فرصة على الإطلاق لإقامة الإقتصاد الوطني الليبرالي الذي شكل هدف البورجوازية الوطنية، أو للإتجاه إلى الإقتصاد الإشتراكي هدف الشيوعيين وكانت وما زالت الفرصة معدومة لما يسمى بالإقتصاد الإسلامي الذي لم يكن موجوداً يوماً.


نظراً لقصور الفكر العربي بسبب انحباسه في سجون المثالية مذ فقد العرب السيادة على بلادهم لدى اجتياح البويهيين الفرس عاصمة الخلافة العباسية، بغداد، عام 945 م، وبعد أن غالى السلاجقة في قمع الفكر العربي وتمثل ذلك بتحول الإمام الغزالي من المنهج النقدي إلى الاستلاب المثالي، نظراً لذلك ما زال الفكر السياسي السائد في عالمنا العربي حبيس ثلاث عقائد.. المشروع الإسلامي، المشروع القومي " النهضوي والمشروع الإجتماعي الإشتراكي.

أما المشروع الإسلامي فهو خارج التاريخ بالطبع. فما يسمى تجاوزاً بالدولة الإسلامية منذ الدولة المحمدية في المدينة عام 628 م وحتى انتهاء الخلافة العثمانية عام 1924 اعتمدت دخولها على الضرائب الباهضة على شعوب البلدان المفتوحة بالحرب بل واستعباد أعداد غفيرة من رجال شعوب تلك البلدان المغلوبة. ما يسمى بالنظام الإسلامي الذي يبشر به المتأسلمون اليوم هو نفس نظام الإمبراطورية البيزنطية. لكننا مع ذلك أمام حالة استثنائية حيث تتفشى الأسلمة اليوم بصورة واسعة تتعدى كل الحدود. ليس لذلك من تعليل أو تفسير سوى أن جماهير الشعوب العربية مصرة بكل عزم على رفض الأحوال القائمة وخاصة الأحوال السياسية التي تؤسس للتخلف الإجتماعي إعتقاداً منها أن ذلك ما كان ليكون لولا العلاقات غير المتكافئة مع الغرب الإستعماري، هذا أولاً؛ أما ثانياً، فإن الجماهير قد أولت مصائرها للمجهول بعد أن كابدت أفشال المشروعين الإشتراكي والقومي. يسكت المتأسلمون بالطبع عن فشل المشروع الإسلامي. فعند فتح مكة صاح نبي الإسلام مؤكداً.. " من دخل البيت الحرام أو بيت أبي سفيان فهو آمن "، وأبو سفيان هو قائد جيش الكفار طيلة معاركه مع جيش المسلمين. لقد ساوى محمد بيت أبي سفيان مع البيت الحرام وما ذلك إلا لأن أبا سفيان زعيم قريش أكبر القبائل آنذاك!

تفشي الإسلاموية كان نتيجة لسقوط المشروعين الإشتراكي والقومي المدوّي اللذين كان لهما نصيب وافر وحقيقي في النجاح. اليوم تتبارى أحزاب المشروعين الإشتراكي والقومي في البلدان العربية في الإسترسال بالنقد الذاتي بقصد تقديمة كورقة توصية للأحزاب الإسلامية من أجل قبول التعاون معها. فشل المشروع القومي لم يكن أبداً بسبب أخطاء إقترفتها الأحزاب القومية أو الأحزاب الإشتراكية والشيوعية المؤتلفة معها. ما يجهله هؤلاء القوميون والوطنيون والإشتراكيون، عن غير قصد على الأرجح، هو أن العلّة تسربت إليهم من مركز الثورة العالمية، من موسكو. انتكست الثورة العالمية انتكاستين كبريين في شباط 1963، الثورة المضادة الدموية في العراق بقيادة المخابرات الأميركية والبريطانية، وفي يونيو حزيران 1967 حين ألحقت إسرائيل هزيمة نكراء بثلاثة جيوش عربية واحتلت أراضي واسعة من مصر وسوريا والأردن. ليس لدي أدنى شك في أن العصابة التي حكمت الإتحاد السوفياتي فيما بعد صعود خروشتشوف قمة السلطة السوفياتية قد شاركت، إن لم يكن مشاركة إيجابية فمشاركة سلبية في الحد الأدنى، في هاتين النكستين للثورة العالمية وليس للثورة العربية فقط التي كانت في الستينيات قلب الثورة العالمية. هكذا خطب خروشتشوف وهكذا خطب بريجينيف حول الإلتقاء مع الإمبريالية في منتصف الطريق وهو ما كانوا يسمونه ب " الوفاق الدولي " وما يستدعيه من " إطفاء بؤر التوتر ". لو حافظ الحزب الشيوعي السوفياتي على ذات النسق الثوري الذي ميّز السياسة السوفياتية منذ قيام الإتحاد السوفياتي وحتى العام 1956، لو استمر ذات النسق الثوري لما انتكست الثورة العربية. لما قامت الثورة المضادة في بغداد عام 63 ولما انهزم عبد الناصر في العام 67 ولما قفز أنور السادات إلى حضن الإمبريالية الأميركية عام 74 ولما وصل أمثال حافظ الأسد وصدام حسين إلى السلطة، بل وحتى لو وصلا، في ظروف استثنائية وخاصة، لما تمكنا من الجنوح للطغيان والفساد. لهيب الثورة وكان قد أشعل العالم، كل العالم، في الخمسينيات، كان كفيلاً بتطهير كل لوثة ونجاسة.

ما يكمن وراء خطابات النقد الذاتي المتداولة بكثرة اليوم هو، بالإضافة إلى التقارب مع المتأسلمين، الإفتراض بأن المشاريع القديمة يمكن أن تعود بشكل أو بآخر لما كانت عليه كرافعة لنهضة عربية شاملة. يعتقدون بأن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه، لكن التاريخ لم يحدث أن عاد مرة أخرى إلا بصورة ساخرة.

نهض المشروع القومي النهضوي بالثورة العربية الكبرى (1916) تحقيقاً لطموحات البورجوازية الشامية في أن تكون المملكة العربية المتحدة التي تضم المشرق العربي سوقاً لمنتوجاتها وقد طمحت البورجوازية الشامية إلى أن تنقل صناعاتها التي كانت ما تزال في طور المانيفاكتورة إلى الصناعات الرأسمالية الآلية الكثيفة في موازاة الصناعة في أوروبا. إنهزم مشروع المملكة العربية المتحدة وملكها الشريف حسين نظراً لأن البورجوازية الشامية وكانت حينذاك في أضعف حالاتها جابهت الإمبريالية وقد وصلت أقصى جبروتها. أما فيما بعد الحرب العالمية الثانية وتحلل الأمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وخروج الإتحاد السوفياتي كدولة تقود الثورة العالمية ضد الرأسمالية الإمبريالية فقد أصبح نجاح المشروع القومي النهضوي أمراً وارداً بقيادة عبد الناصر هذه المرة. كان حكم التاريخ القطعي هو ارتباط مصائر المشروع القومي النهضوي بمصائر المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية؛ انهيار الثاني هو انهيار للأول بصورة آلية. العقائديون الذين تحولوا إلى ممتهني سياسة لا يعترفون بالرباط العضوي بين ثورة التحرر الوطني من جهة والثورة الإشتراكية العالمية. في الخطاب الذي وجهه فلاديمير لينين إلى زعماء الشرق الإسلامي المؤتمرين في باكو 1921 لم يكن لينين بحاجة لأحمال أضافية ينوء بها كاهل الثورة الإشتراكية ومع ذلك أكد لهم أن ثورة التحرر الوطني التي يقودونها لن تحقق أية انتصارات خارج التحالف الوثيق مع الثورة الإشتراكية. خروشتشوف فقط هو أول من طالب بإلغاء المبدأ اللينيني بوحدة الثورتين، الاشتراكية والوطنية، العضوية في خطابه في المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي 1959. ممتهنو السياسة من مختلف الإتجاهات ومنهم " شيوعيو " ما بعد الإنهيار لا يعترفون بهذه الوحدة العضوية وسبب ذلك هو أن اعترافهم بها سيفقدهم المهنة التي ضيعوا عمرهم في التدرب عليها، مهنة العمل في السياسة. التاريخ الحديث منذ فجر ثورة التحرر الوطني وحتى أفولها أثبت تلك الوحدة العضوية كلما لزم ذلك. ثم لسنا بحاجة لتأكيد كل هذه الحقائق وقد تقادمت وتجاوزناها تاريخياً إلا من أجل أن تضيء طريقنا المستقبلية؛ فلا اليوم هناك استعمار أو رأسمالية وليس لدينا اليوم حركة تحرر وطني ولا ثورة اشتراكية عالمية أم غير عالمية. إننا أمام عصر جديد مختلف وحقائق جديدة مختلفة. إننا في عصر الطبقة الوسطى؛ في عصر خارج التاريخ، في عصر سيعبر التاريخ بسرعة تفاجئ الجميع.

العمود الفقري لأي مشروع قومي نهضوي هو التنمية الإقتصادية التي لا بد وأن تقوم على أحد إثنين إما إقتصاد السوق أو إقتصاد التخطيط المركزي والتوزيع الإشتراكي. وفي كلتا الحالتين لا بد أن تقوم التنمية على كاهل طبقة قوية وقادرة بعينها. في الحالة الأولى تكون الطبقة البورجوازية الكبيرة صاحبة المصالح الحقيقية في السوق هي من يقود التنمية، وفي الحالة الثانية الطبقة العاملة المدربة فنياً والمنظمة تنظيماً قوياً وفاعلاً. العالم العربي وهو موضوعنا لهذه المقاربة على الأقل، يفتقد لأي من هاتين الطبقتين بعد الإنهيارات الكبرى للعوالم الثلاث في الربع الأخير من القرن الماضي. أضف إلى ذلك أن التنمية الرأسمالية قد أضحت مستحيلة ليس في العالم العربي وحده بل وفي العالم كله وذلك لأن السوق الرأسمالية قد تآكلت حتى الإضمحلال بفعل سيطرة الخدمات فيها والتي افترست السلع وهي بضاعة السوق الرئيسة بل الوحيدة افتراساً وحشياً. فالخدمة التي لا تساوي أكثر من دولار ابتلعت سلعاً في جوفها بما يساوي مئة دولار مجاناً. التبادل الجاري اليوم بين منتجي السلع، العمال والرأسماليين، من جهة ومنتجي الخدمات، الطبقة الوسطى، من جهة أخرى يتجاوز حدود العقل والمنطق ويلغي تماماً قانون القيمة الذي هو آلية السوق مذ خلقت السوق. كما أن التنمية الإشتراكية ليس لها من مكان في العالم العربي حيث أن شرطيها الأساسيين وهما الطبقة البروليتارية المدربة والمنظمة والإقتصاد الرأسمالي المتطور غائبان تماماً في العالم العربي بالإضافة إلى أن الإشتراكية لا تقوم بداية إلا في دولة كبرى ذات وزن دولي.

التبادل غير المتكافئ بين السلع والخدمات ألحق هزيمة كبرى بطبقتي العمال والرأسماليين وتسبب بانفلاش الطبقة الوسطى في جميع أنحاء العالم، في العوالم الثلاثة التي ورثناها من نتائج الحرب العالمية الثانية؛ وقد ظهر ذلك فيما بات يعرف بالتشوّه الهيكلي للمجتمعات القائمة حالياً. إن أي مشروع لا ينطوي على تصحيح مثل هذا التشوّه والخلل البنيوي لن يكون له أي نصيب من النجاح. لقد أضحى المشروع التصحيحي ضرورة ملحة لوقف انحدار العالم السريع نحو الهاوية في مختلف الحقول، في الإنتاج السلعي ـ رغم التطوير النوعي لأدوات الإنتاج الذي تقوم به الطبقة الوسطى دون أن ينعكس هذا في الإنتاج ـ في العلاقات الدولية، في القيم وانحطاط العلاقات الجنسية كما في تفشي النخاسة والمخدرات، في انحطاط الإبداعات الفكرية والأدبية والفنية، في الإرهاب وقتل الناس بالجملة دون وازع من ضمير، في تفشي التدين والإيمان بالخرافة والأهم من كل ذلك ربما هو سيطرة الروح الإنقسامية على الجماعات والطوائف المختلفة وما يتبع ذلك من إنقسام الدول وشعوبها وفقاً للأديان واللغات والأعراق من خلال حروب التطهير العرقي كما حدث في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وأندونيسيا، وما يتهدد اليوم العراق وكندا وسيريلانكا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا والصين وغيرها.

ثمة مشروع تصحيحي واحد لا غير يمكن أن يكون له نصيب من النجاح وهو ما يمكن تلخيصه بالديموقراطية الشعبية. يتحالف منتجو السلع لوضع حد لانفلاش منتجي الخدمات وتغولهم في إلتهام العالم من خلال نمط الإقتصاد الإستهلاكي الذي أسست له قمة الدول الصناعية الكبرى الخمس الأولى(G5) في رامبوييه/باريس في نوفمبر 1975. تحالف غير مكتوب بين عصابة الردة السوفياتية وأساطين الرأسمالية الخمسة الكبار قضى أن يكون انهيار الرأسمالية ليس باتجاه البروليتاريا العالمية ونظامها الإشتراكي بل باتجاه الطبقة الوسطى ونظامها الخدمي الإستهلاكي. أي مشروع إنقاذي لا بد أن يتجسد في تحالف أخوي بين منتجي السلع وهم الطبقات الإنتاجية الثلاث، العمال والفلاحون والرأسماليون، يأخذ على عاتقه المهمات التالية..
1.الاستيلاء على السلطة بكل الطرق الميسورة ودون اعتبار لشكل الحكم أكان ملكياً أم جمهورياً.
2.إقتسام السلطة بين الطبقات الإنتاجية الثلاث بالتساوي فيكون 30% لكل طبقة والباقي 10% للطبقة الوسطى
3.تلبية احتياجات الشعب بسلع نظيفة ومتطورة بديلة تحاكي الصناعات الأجنبية وتتفوق عليها بالسعر.
4.تتحمل كل من الطبقات الإنتاجية الثلاث شيئاً من الأحمال الثقيلة بداية كي تتمكن فيما بعد من جني مكاسب حسنة.
5.تسهر بكل جدية على سوية إنتاجها لأنه لن ينجح بغير ذلك في منافسة المنتوجات الأجنبية الواردة بنظام(WTO).
6.تتخلق كل طبقة بالأخلاق الديموقراطية العليا فلا تحرم الطبقتين الأخريين من امتيازات مستحقة لهما.

إدارة الدولة بالقوى الطبقية المنتجة الثلاث بتساو ٍمتكافئ من شأنه أن ينقل البلاد إلى حالة من الوفرة تتيح لكل القوى التقدمية أن تأخذ على عاتقها بالتنمية الراقية الخاصة بها. الديموقراطية الشعبية والتي سماها حزب التجمع الوحدوي في مصر " التنمية المستقلة " هي الطريق التي تستحق المحاولة الجادة في آخر فرصة تسنح لتحاشي الإنهيار المريع المأساوي بكل المقاييس. ما لم يدركه المفكرون الاجتماعيون والمحللون الاستراتيجيون والمراقبون السياسيون حتى اليوم هو عمق الهاوية التي يسارع العالم للوقوع فيها حيث تنعدم كل فرص الإنقاذ فيندم العالم ولات ساعة مندم.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف