انسلاخ الاطوار وتحول الحلم الى بخار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
انسلاخ الاطوار وتحول الحلم الى بخار
في العراق البيرق أولى من الخلق
يؤكد الفرنسي (غوستاف لوبون) أحد رواد علم النفس الاجتماعي، أن اي فكرة أو عقيدة شائعة داخل مجتمع ما، تصبح مثل النهر الذي يجرف كل شئ في طريقه. على الجميع الرضوخ لذلك حتى ولو خالف قناعاتهم ومذاهب عقولهم. الفلاسفة والعلماء غير مستثنين في ذلك حسب لوبون.
في عام 1993 اثناء عبوري نقطة الحدود السورية العراقية، كان علي البقاء في مكتب حزب الدعوة الاسلامي في مدينة قامشلي بسورية، ريثما أحصل على موافقة السلطة السورية للذهاب الى دمشق. أقمت هناك اسبوعا ومن دون ارادة مني وقعت في جدالات غير مفيدة وغير محمودة مع اعضاء الحزب المذكور. كان هناك بضعة نفر يتفقون في القول والمذهب. مازلت اتذكر قول أحدهم، الذي كان يشبه عدي صدام حسين في صورته واسلوبه: "ان شاء الله صدام يبيد الأكراد كلهم ولا شمالنا الحبيب ينفصل من العراق"!
أصبحت نزيل الشام، والتقيت فيها باستمرار برموز ومسئولي الاحزاب العراقية هناك. مرة وحسب العادة كنت في زيارة لمكتب الحزب المذكور بدمشق والتقيت فيها بالسيد ابو اسراء المالكي مسئول المكتب، رئيس الوزراء حالياً. كان رجلاً عادياً ومتواضعاً. كنت اعمل في مكتب الحركة الاسلامية الكُردية. أثناء الحديث قال لي السيد المالكي باسلوب الخاطب والناقد والناصح: " عيب على الحركة الاسلامية الكُردية الانجرار وراء مشاريع التقسيم المصطنعة لدى الامريكان واليهود. نحن الاسلاميين مفروض نلتزم بالخط الاسلامي الاصيل"!
كانت الحركة قد وافقت على قرار الفيدرالية لكُردستان الصادر من البرلمان الكُردي عام 1992. وتسبب ذلك في تذمر وامتعاض الاسلاميين العرب من الشيعة والسنة، فضلاً عن القوميين والوطنيين والبعثيين وآخرين. فالفيدرالية في رأي القوم ليست إلا تقسيماً للوطن العراقي المقدس.
السيد المالكي نقض موقفه ذاك، ووافق ضمن لعبة التوازن السياسي على الفيدرالية، و(فتح) العراق بدبابات امريكا ومشاريعها الاصطناعية.
الشرقييون منذ امد بعيد وهم اسرى اوهام العظمة والوحدة، والحلم بالتحول الى قوة لا تقهر. تركيا، سوريا، العراق، ايران، ليبيا، مصر، السنة، الشيعة، العرب، الكُرد، الفرس والآخرين جميعاً لديهم احلامهم واوهامهم التي تغذي سياسات منطقتنا على الدوام.
الوحدة مظهراً حتى ولو تخطى الجوهر الهادف لها، امست المكنون المقدس لدى الجماعات السياسية في بلادنا.
الجيش العراقي في كُردستان كان يتسلى بتخريب الموجود من الأحياء والجمادات. كان الرئيس الراحل صدام حسين في صراع مستمر مع جهات عدة كايران والاحزاب الكُردية الموالية لها. لكنني لا أظن انه كان يأمر جنوده بحرق اشجار الجوز من جذورها، فهي على الأقل من املاك الدولة. كان الجنود والضباط يأخذون الجوز وكذلك الاوراق (لاستعمالات التجميل) ثم يحرقون الشجرة من جذورها.
في بداية التسعينيات وفي دمشق نفسها اقرّ آسفاً احد الصحافيين العراقيين من جريدة (نداء الرافدين) ان الجيش العراقي كان يعبث بكُردستان!
الجيش التركي منذ استقلال تركيا وهو يعبث بكردستان. والجيش السوري كان يعبث بلبنان. والميليشيات اللبنانية عبثت بلبنان. الميليشيات الكُردية عبثت بكردستان. الاحزاب والميليشيات العراقية عبثت بالعراق. الانظمة والاحزاب والحركات في بلادنا عبثت بنا وبالحياة. لكنها لم تزل متعطشة للوحدة والعظمة.
لو كنا نعيش في بلاد اسكندنافيا لانتهينا من الوجود بسبب الجوع والبرد والتعطش للدماء. لكن الاسكندنافيين ينتجون ما نستهلكه. اما نحن مع كل ما اوتينا من نِعَم الحياة مازلنا نصدّر اللاجئين الجائعين الى اسكندنافيا واصقاع اخرى بحثاً عن المأوى والطعام، فضلاً عن الملايين من الضحايا قرابين للآلهة والأصنام: الوحدة، القومية، الوطنية، المذهبية، الدينية...!
منذ ما يقارب قرناً وثروات هائلة تهدر عبثاً ليس لشئ سوى تلك الاوهام والاحلام والعصبيات. انساننا اصبح مهوساً برؤية قطع الاقمشة الملونة (البيارق) ترفرف في الساحات، والملاعب، والاستعراضات العسكرية في عاطفة جياشة ممتزجةً بدموع واحاسيس تشبه انفعالات الانسان الاول. لكن اليس بوسعنا التفكير في هدر الارواح والثروات والطاقات بدل الانشغال بما هو اضاعة للوقت لا اكثر؟
حين اتحدث عن العراق فانني ارسم به صورة الشرق الكالحة والمختنقة. العراق مذ تكوينه وهو يعاني من عقدة الشعور بالنقص على مستوى الكينونة/ الدولة.
فالشيعة كما اخبروني في دمشق وفي لبنان انهم ظلموا بيد السنة لسبعة عقود في عراقٍ لم يكن سوى جحيم مسعّر لهم. الكُرد على المنوال يذهبون حثيثاً لاثبات الاكراه في تقليدهم بهوية العراق. حروب ومعارك ودماء كثيرة جرت لتثبيت اركان الوحدة التي لم تصمد امام القوى الخارجية والاعيب الزمان وهي خاوية الآن على احلامها المظلمة.
التقرير في امضاء صيرورة العراق ونصيبه المفروض لم يكن يوما بيد العراقيين انفسهم. والعراق كهوية ليس سوى جامعٍ منافر ومضطرب لكينونات لا تستعمل الهوية نفسها الا للاستيلاب وهضم الآخرين في ذات الجماعة: البعث سابقاً، والتيارات اللاحقة كالصدرية وهيئة العلماء السنية، والقوميين وآخرين.
اذا كانت الوحدة من اجل الحفاظ على ارواح الانسان ورفاهيته وتطوير اركان الدولة، فما الذي يحدو بهذه التيارات نشر الموت في شوارع وازقة المدن والقرى في رعب قلّ نظيره في التاريخ؟!
الاستمرار في الهلوسة والعنجهية والعصبية هو مد التراكم النكد بالمزيد مما يثقل كاهلنا في بليّة شرها يضحك لا محال!
فالسيد الهاشمي رئيس برلمان العراق وحيث ضاقت سبل وحدة الجماعات العراقية الوحدوية، لجأ الى نكاح الفروج لتوحيد البلد! ولو كان الأمر قبل بعثة الاسلام حيث كان العرب قبائل متناحرة موزعة الولاء بين الروم والفرس، لقلنا ان النكاح بين الشيعة والسنة سيخلق لا محال مولود الوحدة. لكن السيوطي ليس بيننا ليسجل ذلك في مدوّنه المشهور (نواظر الأيك في نوادر النيك) لضيق السبل في توحيد البلد الا بفُرجة النكاح!
والأمر في مضمونه مسرحية ثقيلة الظل، لا تخلو من فكاهة كئيبة. فالشبان المستعدين للنكاح المزدوج ليسوا هم معاول هدم العراق ولا اركان توحيده.
في عام 1990 خرجت مظاهرات حاشدة تاييداً للرئيس صدام حسين في عموم البلاد العربية والاسلامية. صيحات واستنكارات ورفض وشجب ملأت الفضاء والشاشات. الجلبة استمرت الى يومنا فينة بعد أخرى. لكن كل ذلك لم يغيّر قيد أنملةٍ ما خططت له امريكا والغرب، وما جسدتاه من سياسات خلقوها في منطقتنا.
العراق منذ ولادته مقسوم بين مراكز القوى والحروب وهدر الحياة. لكن اذا كان العوام من الناس لهم مذاهبهم في رؤية الاشياء والمسائل فان المثقف والمفكر مدعوٌ الى الترفع قليلاً والرؤية من علٍ. فاجئنا المفكر اللبناني رضوان السيد في مقاله الأخير عن تقسيم العراق برؤية ليست سوى تدوين للفضاء العام ونظرة الشارع السطحية للاحداث الجارية. ففي رؤية السيد فان امريكا تورطت في العراق وهي الآن نادمة وخاسرة!
وقيامة الدولة الكُردية ستكون لا محال في فضاء مطوق بالاختناق، وان التيار الصدري ــ حسب رأيه ــ الاكثري على غرار هيئة العلماء والقوميين وسواد الشعب العراقي ذائبة في وجد الوحدة العراقية، وعليه فالتقسيم لا قوام له سوى أعمدة عرجاء ليس لها من قرار: أكراد مختنقون، وامريكا اليائسة والنادمة، وتوازن سياسي هش في حكومة العراق الحالية.
ومرابط هذا الفكر متصلة ابداً بتلك الاحلام والاوهام الضاربة جذورها في الوعي الشعبي العام. ولكن الانسان ككائن علوي والحياة بمضمونها الغالي النفيس، وعلائق الدنو من عقلانية هادئة لقراءة الواقع، والاستدلال بنتائج الفشل لاجتراح حلول متزنة ورصينة ليست سوى مخلوقات ميتة قبل ولادتها. ولكن اذا كان لوبون صادقاً في ما ذهب اليه، فان الكارثة عظيمة في بلادنا: مثقف ومفكر يصطف مع العوام ليكرر تعاضد اهوائهم واحلامهم في فضاءات الاوهام في كل الاطوار. ولكن كم طوراً من حياتنا نقضيه من اجل الاوهام والانتكاسات وقد انسلخت الاطوار من الاطوار، ولم يعد في علوٍّ سوى بيارقنا ترفرف في ساحات الوغى والعصبيات؟!
الطور الوحيد الذي نتحد فيه ويتحد بنا في كل الاطوار هو طور اعدام الحياة. انظروا الى العراقيين يتوسلون من اجل لقمة العيش، وفسحة الأمن في كل ارجاء المعمورة، وفي بلاد عمر الليالي فيها شهور وكذلك الأيام. والاجنبي اذا ما فكر بزيارة بلداننا الحاضنة لآثار الحضارات ذات الالوف من السنين، يمكث مليّاً. فرحلته في دروب الحياة تتمثل في ملاقاة اشباح الموت المنتشرة في بلادنا الوحدوية!
تلك الاشباح التي يعول عليها العوام لوحدة البلاد في حلم يستحيل ابدا الى بخار وسط كثافة الدم وغبار الفتنة!
علي سيريني