أصداء

تركيا والفرصة التاريخية لحل القضية الكردية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تحتل القضية الكردية في تركيا حضورا مستمرا من زمن بعيد يعود الى بدايات تشكيل الدولة التركية الحديثة، وقاد الكرد الأتراك ثورتين بين الحربين العالميتين لنيل حقوقهم القومية والسياسية والثقافية والاقتصادية ولكنهم لم ينجحوا فتعرضوا الى قمع شديد وقاسي من الجيش التركي، فظل مطلب نيل الحقوق قابعا في صدور الكرد مع استمرار الأحداث في العقود الماضية الى أن تشكل حزب العمال الكردستاني في الثمانينات من القرن الماضي بقيادة عبدالله أوجلان للكفاح من أجل نيل الحقوق القومية ضمن السيادة التركية، لكن هذا الحزب سلك الكفاح المسلح طريقا له، لم يتم التحاور معه من قبل الأوساط العسكرية والسياسية التركية فبدأ صراع عسكري متسم بالعنف بين الطرفين ولا زال الصراع على حاله بالرغم من تعرض الحزب الى حملات عسكرية كبيرة وعديدة فلم تفلح الجيش التركي من القضاء عليه.
وفي ظل الظروف الراهنة، تجدد محاولات الحكومة والجيش التركي باللجوء الى الخيار العسكري للقضاء على الحزب المذكور وهددوا باجتياح أراضي إقليم كردستان العراق، وعلى ما يبدو ان أصحاب القرار في تركيا لم يستفيدوا من تجارب الماضي العسكرية وخاصة المؤسسة العسكرية منهم ولم تصل الى قناعة لحل القضية بالوسائل البديلة، بالرغم من أن القضية الكردية في تركيا أخذت أبعادا دولة وإقليمية خاصة على صعيد محاولات دخول الأخيرة الى الاتحاد الأوربي الذي منح القضية اهتماما خاصا من باب حقوق الانسان والمواطنة.
ويبدو أن المؤسسة السياسية التركية الجديدة المتمثلة بالأغلبية البرلمانية لحزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان قد تولدت لديها بعض القناعة بالانفتاح على قضية القوميات والأقليات ومحاولة حلها بإصلاحات وتغييرات في المفاهيم الدستورية والسياسية السائدة في تركيا، وبالفعل قد حصل بعض الخطوات على ارض الواقع خاصة في مجال منح الحقوق الثقافية والانفتاح السياسي على الأحزاب الكردية فيها، ولكن ما زالت هذه الخطوات غير كافية لأن القضية التركية الكردية لازالت معالجتها السياسية تتراوح في مكانها ولا زالت بعيدة عن طموح أكراد تركيا.
ضمن هذا المنظور، فان الأعمال الإصلاحية المميزة التي تدخل ضمن الإنجازات السياسية المتحققة لأردوغان على ساحة الدولة التركية التي تتكون من قوميتين رئيسيتين الترك والكرد وقوميات أخرى، قد وفرت واقعا جديدا فيها من خلال توفير رخاء اقتصادي واجتماعي لأغلب أفراد الشعب، وكذلك من خلال أعماله التي تستحق التقدير منها اعترافه بالمشكلة الكردية وإقراره أنها بحاجة الى حل جذري، ولهذا الغرض منحت حكومة أردوغان بعض التسهيلات الثقافية والاجتماعية للكرد كحق من حقوق المواطنة وكحق من حقوق التنوع الثقافي والقومي للمجتمع التركي، استجابة لمطاالب الأسرة الأوربية للدخول الى السوق الأوربية المشتركة، ولكن الى جانب هذا وبالرغم من هذه التحولات المحسوسة، لم يتمكن أردوغان وحزبه وحكومته من التقليل من سيطرة المؤسسة العسكرية على الشؤون الاستراتيجية في الدولة، ومنها القضية الكردية، حيث لم تبادر هذه المؤسسة الى طرح حل يتسم بالحكمة لمعالجة قضية الحقوق القومية للكرد والأقليات، بل على العكس دائما بادرت المؤسسة العسكرية الى اختيار الحل العسكري بدلا من الحوار والتفاهم السياسي.
والواضح للعيان أن حل القضية الكردية هي المدخل الذي يمكن عن طريقه لتركيا الوصول الى سلام دائم واستقرار آمن والدخول الى الاتحاد الأوربي من خلال تطبيق المعايير الأوربية في منح الحقوق القومية والثقافية والسياسية لمواطني الدولة التركية، ولكن من خلال قراءة الواقع يبدو أن بعض الأوساط السياسية والعسكرية التركية لا زالت بعيدة عن تفهم هذه القضية وعن تفهم المطالب الأوربية لفسح المجال أمام الدولة للدخول الى النادي الأوربي، ولا زالت المؤسسة العسكرية بعيدة عن تفهم المرونة التي يبديها أردوغان لحل المعضلات السياسية والقومية ومنها مسالة حزب العمل الكردستاني، ومرونة رئيس الوزراء تعتبر من محاسن الأمور في تركيا الجدية التي تسيرها حزب إسلامي معتدل، والإصلاحات السياسية التي ادخلها رئيس الحكومة ضمن منهاج مسار الإصلاح والتغيير والتجديد لتنفيذ المعايير الأوربية في مجال الحقوق السياسية والديمقراطية والثقافية إحدى الحلول المطروحة لحل المعضلات على الساحة السياسية.
ولكن الأحداث الأخيرة المتعلقة بالتهديدات التركية لاجتياح الأراضي العراقية في إقليم كوردستان، قد بدد بعض هذه الآمال، ولولا المطالبات الدولية والإقليمية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي لتركيا بالتريث وعدم اللجوء الى الخيار العسكري واللجوء الى بدائل أخرى للحوار والتفاهم واختيار العمل الدبلوماسي، التي شكلت ضغطا دوليا على تركيا للتريث والبحث مع العراق لإيجاد حلول بديلة، لكانت المنطقة تعيش في واقع مفروض بالخيار العسكري بسبب موقف المؤسسة العسكرية التركية الذي لا يزال يشكل عائق كبير أمام حل القضية، والموقف الذي بدر منها بخصوص عدم استقبال الوفد العراقي في أنقرة لوجود مسؤولين كرد عراقيين فيه شكل تعاملا غير لائقا على الصعيد الدبلوماسي وشكل في غين الوقت موقفا غير مقبولا على صعيد العلاقات بين دوليتين جارتين.
استنادا الى هذا الواقع، وبالرغم من المواقف السلبية التي تبدر من بعض الأوساط في تركيا، خاصة منها عدم تعاملها مع حكومة إقليم كوردستان وعدم تعاملها مع القيادة السياسية الكردية العراقية، فان الآمال ما زالت متعلقة برئيس الحكومة التركية الإصلاحي رجب طيب أردوغان لأن خطواته الإصلاحية الاقتصادية والسياسية لا يستهان بها، والوعود التي أطلقها في المرحلة الانتخابية محل تقدير لحل القضية الكردية في تركيا، والمصالح الاقتصادية بين البلدين تحتم إرساء علاقات طبيعية مبنية على المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة بين الدولة الجارة وبين العراق وإقليم كوردستان.
انطلاقا من هذه الرؤية فان الفرصة المتوفرة في الظروف الراهنة لرئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان لحل مشكلة أكراد تركيا تعتبر بحق فرصة تاريخية في ظل توفر أجواء دولية وإقليمية مناسبة خاصة منها الحضور الدولي للولايات المتحدة ومرونة الموقف العراقي واستعداد القيادة الكردية للتفاهم الايجابي ومعرفته بالخلفيات والإشكالات السياسية والتاريخية والاجتماعية للمشكلة الكردية في تركيا، هذه الفرصة لا ريب في حالة اتخاذها في مسار صائب لحل القضية سلميا من قبل السيد أردوغان ستشكل بادرة تاريخية تركية ودولية كبيرة له على صعيد حل مشكلة تاريخية متفاقمة من أمد بعيد في منطقة حساسة متسمة بالأزمات والمشاكل لإحلال سلام دائم فيها لصالح شعوبها ومجتمعاتها وحكوماتها ودولها من أجل ضمان حاضر مشرق وبناء مستقبل زاهر لتوفير الحياة الكريمة الرفاهية لأبناء كافة شعوب المنطقة.
ولا بد من القول أن مقومات هذه الفرصة التاريخية، فرصة الحل السياسي للقضية الكردية في تركيا، بدأت تفرض نفسها على الساحة من خلال اعتراف المؤسسة السياسية المنتخبة بوجود المشكلة الكردية، وهذا الاعتراف لم يكن من السهل الحصول عليه من الحكومات السابقة، والوعود التي قطعها أردوغان للأكراد في تركيا خاصة في ديار بكر و دخول الطرف الأوربي في المعادلة من خلال مطالبته باتخاذ خطوات وإجراءات عملية لحل مسألة القوميات وضمان الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للقوميات والأقليات، كل هذه المواقف يشكل مدخل أساسي لحل القضية، ومن خلال تحليل الأحداث في الوضع التركي نجد أن المقومات التي تفرض نفسها في استغلال الفرصة التاريخية المتاحة للمؤسسة السياسية خاصة أمام رئيس الحكومة أردوغان لحل المشكلة تجد وجودها وحضورها في ما يلي:
1. النهج الإصلاحي لحزب العدالة والتنمية الاجتماعية الذي فرض نفسه على الساحة السياسية التركية.
2. المعايير الأوربية في مجال حقوق الانسان والحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تطالب بها الاتحاد الأوربي لتطبيقها في تركيا.
3. الأغلبية البرلمانية لحزب أردوغان في البرلمان التركي ووجود ممثلين برلمانيين للكرد فيه.
4. المطالبات الدولية والإقليمية والتركية والكردية التي تطالب بابتعاد حزب العمال الكردستاني عن العمل المسلح
وتحويله الى حزب سياسي للعمل داخل تركيا تحت قبة البرلمان مثلما طالب به رئيس الحكومة أردوغان.
5. المرونة التي تطرحها القيادة السياسية الكردية في كوردستان العراق الممثلة برئيس الإقليم مسعود البارزاني من خلال مساعدة الحكومة التركية للحوار والتفاهم لحل القضية الكردية في تركيا.
6. التفاهمات والمرونة التي تبديها الحكومة العراقية الفيدرالية بخصوص المسألة وبخصوص علاقات الجوار بين الدولتين الجارتين.
7. وجود الطرف الأمريكي في المعادلة الذي يتميز بوجود علاقات قوية مع تركيا والعراق وإقليم كوردستان، واستعداده لخلق أرضية ملائمة للتفاهم والحوار والاتفاق بشأن المسائل المشتركة بين الأطراف المعنية.
8. حضور الطرف الأوربي خاصة على الساحة التركية لمساعدة حكومة أردوغان على البحث الجدي لدخول تركيا الى الاتحاد الأوربي.
باختصار هذه المقومات التي ركزنا عليها بإيجاز، تشكل العوامل الرئيسية وفق الحسابات الحالية المستندة الى قراءة الواقع السياسي للمنطقة لحل القضية الكردية في تركيا ولإخراج المنطقة من أزمتها، ونجد أن البرنامج الإصلاحي للسيد أردوغان يشكل مدخل جوهري بحكم ما هو متاح وفق حسابات الأمر الواقع لإرساء بداية جيدة، وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن أمام السيد أردوغان فرصة تاريخية في ظل المعطيات المتوفرة على الساحة، لرسم أمل كبير لإرساء حلول جذرية لمعالجة الواقع الكردي برؤية حكيمة لتهيئة المقومات الأساسية التي سترتكز عليها بناء الدولة التركية الحديثة لتلبية تطورات الحاجات الحاضرة والمستقبلية للأمة التركية بتركها وكردها لضمان مستقبل زاهر، وانطلاقا من هذا المنظور فان الواجب الإنساني والوطني والديمقراطي يلزم جميع الأطراف المعنية باللجوء الى الحكمة والعقل لإرساء سلام قادر على النهوض بشعوب المنطقة لضمان حياة حرة كريمة ولرسم حاضر مشرق ومستقبل زاهر لتركيا والعراق وإقليم كوردستان.

د.جرجيس كوليزادة
Gulizada_maktab@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف