أصداء

من أهل الذمة الى أبناء الجالية، طريق الألام

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

درجنا نحن الشرقيين على الاعتقاد ان قلع شجرة من حديقة دار او مكان ما، هو نذير شؤم لمن يسكن الدار او تلك المنطقة التي تقع الشجرة بالقرب منها، وقد اتفق قراء الطالع على ان عاقبة عملية القلع هذه على الدائرة القريبة يمكن ان تكون واحدة من ثلاث، مرض احدهم اورحيله وتركه للمنطقة اوموته. ربما يكون الغربيون يذهبون في الاعتقاد الى ذات المنحى حيث لاحظت قبل اسابيع ضجة قد نشبت في الصحف المحلية في المدينة السويدية التي اسكن فيها بسبب بضعة اشجار تتوسط احد الاحياء السكنية يفكر مجلس بلدية المدينة في اتخاذ قرار باقتلاعها. هذا هو الحال مع اقتلاع الاشجار فما بالنا باقتلاع الشعوب بجرة قلم!، كما حدث عندما قرر مكتب السيد رئيس الوزراء العراقي، بقصد او في محاولة خبيثة لجس النبض، اعتبار المسيحيين جالية دون تحديد لمقر سفارتها او اسم سفيرها! فحاول ذلك المكتب، الذي يشكو من ضعف الفعل ووهزالة النفوذ، دفن تاريخا يمتد الى الاف السنين بصم المسيحيون فيه بالدم حبهم للعراق قبل الاخرين ومعهم، وكانوا على الدوام الوردة المتميزة في باقة وروده، وملحه الذي بدونه لاطعم له. أم ان المسيحيون العراقيون قد كُتب عليهم ان يكونوا كفَارة رحيل الاحتلال وملحقاته او مرضه او موته حالهم حال معلمهم المسيح له المجد الذي قرر ان يصعد خشبة الصليب ويموت عليه استحقاقا لثمن الخطيئة وليعود الانسان متصالحا مع الله من جديد.

اتذكر مرة كنت في القطار على الطريق بين بغداد والرمادي متوجها الى جامعة الانبار حيث كنت اعمل، كان ذلك في نهايات التسعينات، حيث كانت مخالب الحصار الاقتصادي المفروض انذاك على العراق قد اصبحت اثارها واضحة على الجسد العراقي النحيل، فكان بعض الاساتذة من خارج الرمادي يجدون في استعمال القطار للوصول الى الجامعة الوسيلة الافضل، لرخص ثمن التذكرة و كون القطار مخصص للجامعة، اي انه يترك المسافر يصل مباشرة اليها دون ان يلجأ الى الانتقال من مأرب الى مأرب ( كراج الى كراج ) في حالة استخدامه الباصات او العربات الصغيرة، كما ان عدم وجود ازدحام كبير في المسافرين بالقطار كان يتيح الفرصة للانسان ليختلي مع من يرتاح اليه في احدى الكابينات ويفتح قلبه بالحديث عن المعاناة، بينما كان من يرى نفسه مجهدا يقفل باب الكابينة عليه ليذهب في قيلولة نوم دون ان يشك في ان رفاقه سيضربون باب الكابينة للتنبيه عند الوصول. في تلك المرة كنا ثلاثة او اربعة على ما اذكر جمعتنا الكابينة وكان جميعنا من الذين قد فعلت المعاناة بهم فعلها حد النقمة، ولذلك فقد انفتحت قرائحنا لتصول وتجول في وضع البلد وتستعرض حكايات عنه، كان احدنا، وهو صديق واخ عزيز، يعمل خارج اوقات الدوام في شارع المتنبي، ولذلك فقد كان قريبا وملما بحركة الثقافة والادب فقرأ لنا قصيدة قال انها للراحل الجواهري نظمها ردا على قرار الحكومة تجريده من الجنسية العراقية ولازلت لحد اليوم اتذكر احد ابياتها
سَلْ (.........)
مَنْ العراقي انت أم انا
عندما اعلنت قناة الشرقية الفضائية عن تقديم حلقات متسلسلة عن الجواهري في ذكراه، قام بتقديمها الكاتب والصحفي العراقي المشهور الاستاذ حسن العلوي، بذلت قصارى جهدي لمحاولة متابعة تلك الحلقات عسى ولعل الاستاذ العلوي سيُعرج على موضوع القصيدة تلك ولكنني لم افلح في تحقيق متابعة كاملة لتلك الحلقات ولا اعرف ان كان قد مرعليها أم لا، لذلك تبقى حكاية نسب تلك القصيدة الى المرحوم الجواهري هي رواية مسموعة من ذلك الصديق فقط دون ان اتحمل مسؤولية تاكيدها او نفيها.

على اية حال، إن كان الجواهري أم غيره، فان مايهمنا هنا هو ان قوة البيت بل انحداره الى الدرجة السوقية توضح للقارئ اي نوع من الغضب الذي يرقى الى درجة الهستيريا هو ذلك الذي يصل اليه المرء عندما يرى ان قوة ما تحاول ظلما سحقه من جذوره. اما اذا كان البيت صدقا للجواهري فانه يكشف للعيان تاثيرا مضاعفا لفعل الانتماء الى الوطن في نفس المنتمي حين يترك شيخا هرما، كالجواهري في حينه وهو شاعر العرب الاكبر، يفقد اعصابه ويصبح غير قادر على ضبط استقرار وهدوء نفسه، لانه يرى ان قرارا قد جاء اليه كموجة تسونامي تكسر ظهره، حيث انتمائه وجنسيته هما شخصه وحاضره كما اجداده وماضيه كذلك ابنائه واحفاده. ترى كم من المسيحيين ينتابهم الشعور في قول مشابه وهم يتقبلون الصاعقة باعتبارهم جالية في العراق؟!

لقد بقي المسيحيون الشرقيون ومنهم مسيحيو العراق يتطلعون لمئات السنين لنظام يعتقهم من النظرة الدونية للبعض على اساس انهم من اهل الذمة، حيث بقيت ( سخونة ) هذا الشعور المحبط ملازمة لهم وجزءا من حياتهم على مر الاجيال، وقد توهم البعض او أوهم نفسه بدافع التمني عندما اعتقد ان المناخ السياسي الذي انتجه الاحتلال يمكن ان يكون علاجا لتلك ( السخونة ) فاذا بالسخونة تنقلب الى ( حُمَى ) خطيرة ومرض صعب يستهدف المسيحيين حياة و وجود، ناهيكم عن تهميش يكاد يكون كليا في الحياة العامة. لم يكن سهلا على الكثيرين من المتعطشين للتغير، املا في وطن ترفرف عليه رايات العدالة والرفاه والحرية، ان يفطنوا الى كمية التفاح الفاسد في اسفل الصندوق الذي جاء به الاحتلال. لقد سجل البعض الاحتلال وابنائه بضاعة مُلزمة الدفع لشعبنا المسيحي في وقت يرى شعبنا المسيحي انه ليس من هواة التجارة بهذه البضاعة وهي اصلا لاتستحق ان يغامر من اجلها بقرش احمر. سمعت احد الاخوة الاشوريين يتحدث في قناة المستقلة فيقول انه سأل الرئيس العراقي جلال الطالباني قبل الاحتلال عن ارائه حول القضية الاشورية ( هكذا اطلق على تسميتها وهو يقصد يقينا حقوق شعبنا الكلداني السرياني الاشوري )، فقال له حينها انها جنبا الى جنب مع القضية الكردية والقضايا الوطنية الاخرى، ثم يستطرد الاخ الاشوري المسيحي في القول فيقول انه سئل الرئيس الطالباني ثانية نفس السؤال قبل عام، اي في 2006 فاجابه الطالباني باسلوبه المرح المعروف وصراحته المعهودة، انها اي القضية الاشورية اصبحت على عمق مترين في الارض، ونحن الان على مشارف نهاية 2007 حيث من المؤكد ان الحفريات المستمرة في هذه القضية قد تركتها تقبع في اعماق سحيقة في مأمن من الكوارث الطبيعية!. ربما تكون شخصية الرئيس الطالباني مثار خلاف في نقاط معينة، لكنني اعتقد ان الخصوم والاصدقاء يتفقون على النزعة العلمانية وغياب التطرف الديني كسمات واضحة في شخصية الرجل، ولذلك لايمكن ان يكون شخصيا عاملا معرقلا لبناء مجتمع قائم على المساواة وتكافؤ الفرص بعيدا عن التمييزعلى اساس الانتماء الديني او المذهبي، اوعلى الاقل في العمل لكي ينال كل اطياف الشعب العراقي حقوقهم المشروعة و على هذا االاساس لا نتوقع ان يكون جواب الطالباني هذا منطلقا من مواقف مبدئية سلبية تجاه حقوق شعبنا ليرى فيها بعض القياديين في الاتحاد الوطني الكردستاني فرمانا يمنحهم حرية التحليق في فضاءات اقصاء شعبنا وإنكار تاريخه ووجوده، ولكن مشكلة الطالباني تكمن في انه يرى ان كثيرين، ممَن رفعوا معه نخب الديموقراطية والعدالة والمساواة في مؤتمرات لندن وصلاح الدين وغيرها، قد اتخذوا لانفسهم رداء اخر عندما اصبحوا في بغداد. ان هذه الظاهرة تشابه تماما ما كان يفعله بعض طلبة البعثات والزمالات،حيث ما ان يصل الطالب الى بلد الدراسة في احدى الدول الاوربية حتى تراه قد منح كل ارائه وافكاره اجازة طويلة فاصبح كل شئ حلالا زلالا، ولكن ما ان تنتهي الدراسة ويعود الى الوطن حتى يتخذ صورة اخرى. جاء مرة احدهم، وكانت تجمعنا معا صولات وجولات في بلد الغربة، ليقول لي انه اصيب بالارق حيث لم يستطع النوم لانه راح يفكر في حالي ومصيري ووجد انه لباعث على الاسى ان يذهب رجل ( طيب ) مثلي الى النار لانني لاأستوفي شروط ومؤهلات دخول الجنة، فقلت له إن كنتَ قد اصبحت ضابط سيطرة أمن الجنة وتتحكم في كارتاتها الخضراء فانني ارى افضل لي ان اقابل ابا رغال حيث يكون من ان التقي بك في الجنة. لانتحدث هنا عن التائبين التوابين الصادقين فهؤلاء محل تقدير واحترام، كما تجدر الاشارة الى وجود ملايين اخرين، منهم اخوة واصدقاء اعزاء، من الذين يَسْمون بالدين ويسمو الدين بهم فتراهم نموذجا رائعا في التعامل مع النفس الانسانية بغض النظرعن خلفيتها الدينية او المذهبية او القومية، ولكننا نتحدث عن اؤلئك الذين هم في الحياة كما في السياسة مثل البوصلة التي تحرص على ان تبحث دوما عن الشمال الذي يناسبها، حيث لو دار الزمن دورة ثانية وسنحت فرصة اخرى لعادوا المسلسل من جديد، والطامة الكبرى عندما يتمكن البعض منهم في غفلة من الزمن من التسلل الى دائرة النفوذ ومركز القرار. وعلى هذا الاساس واستنادا الى واقع راهن فيه بعض اصحاب النفوذ امثلة لهؤلاء حيث الصراع في اقصى درجاته لاغتنام الفرصة والاستحواذ على اكبر قدر من الغنائم، يكون الرئيس الطالباني قد اصاب الحقيقة المرة، حيث ( ابناء الجالية ) في نظرهم وتفكيرهم يعتبر ( مِنَة وفضلا ) وربما يعتقد البعض منهم في قادم الايام انه هو الكريم الذي منح شعبنا المسيحي حق الاقامة المؤقتة في العراق وهوالوحيد الذي يملك صلاحية انهائها وسحبها حين يشاء!.

د. وديع بتي حنا
wadeebatti@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف