حزب البعث بصفته وباءً سياسياً1-2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
المصادر التي درست تاريخ الأحزاب ونشوئها في العالم المعاصر، تشير إلى كون الحزب ظاهرة سياسية تفرضها الضرورة لتمثيل مصالح طبقة أو فئات إجتماعية معينة. لكن المتأمل لتجربة حزب البعث الذي حكم العراق وسوريا لأكثر من أربعين سنة، لا يجد هذا التوصيف أو التعريف ينطبق عليه. ففي ظل حكم هذا الحزب لم تستفد أية طبقة من الطبقات المنتجة التي يعتمد عليها تطور البناء الإجتماعي.
لقد هيمنت الدولة على اقتصاديات البلد وأصبحت هي رب العمل الرئيسي، وهذه هي طريقة الأنظمة الشمولية في السيطرة على المجتمع والتحكم بمصائر المواطنين. وبستثناء بيروقراطية الدولة والنشاط الصناعي والزراعي المحدود أو الاستثمارات المتعثرة، لم يستطع أيٌّ من النظامين في العراق وسوريا، ولم يكن في رغبته أن يعمل على تطوير الطبقة الوسطى المنتجة، التي هي أساس أي تطور اقتصادي واجتماعي، بالطريقة التي يمكن أن ينمو معها ممثلها السياسي، أي حزبها الذي لا بد أن يمثلها داخل الدولة وخارجها، خوفاً من أن ينافسه على السلطة، في حين أنتقلت حالة صغار الموظفين وشغيلة المدن والأرياف من سيء إلى أسوأ. لقد تم إفقار الأرياف نتيجةَ عدم التخطيط الاقتصادي المسؤول عن مستقبل المجتمع والتوزيع العادل للثروات.
وبهجرة الفلاحين الاضطرارية بدأت عملية ترييف المدن، فإصبحنا أمام أختلاط غريب للقيم والمفاهيم والظواهر، لتفتح المؤسسات العسكرية والأمنية أبوابها للهاربين من الفقر والحرمان كي يكونوا أدوات طيّعة بيد أجهزة النظامين الأمنية والمخابراتية. ومن هنا بدأ التشويه المبرمج للمجتمع سياسياً وحقوقياً.
لذلك ليس بوسع أي باحث موضوعي إعطاء حزب البعث هوية طبقية محددة، بل أن استمرار الحكم وإدامته ظلت تعتمد دائماً على تخريب الحياة السياسية وعرقلة التطور المفترض للطبقات الإجتماعية إلا ما تقتضيه مصالح الفئة الحاكمة واتباعها.
لقد نمت وتضخمت الإجهزة الأمنية والاستخبارية على حساب تطور المجتمع المدني والثقافة الحقوقية للدولة بصفتها مؤسسة محايدة بين النظام السياسي وبين المواطن، حيث يُفترض أن يكون الدستور والقوانين المتفرعة عنه هي المرجع الأعلى للسلطة وليس الأجهزة الأمنية. وهكذا تم تكريس ثقافة الطواريء والأحكام العرفية، ما أدى إلى تهميش إستقلالية سلطة القضاء وإفساده لاحقاً. هذه هي أهم الصفات المشتركة لحكم الحزب في البلدين المنكوبين سوريا والعراق. وهكذا تلاشت المكونات الأربعة الأساسية لأي تطور ديمقراطي محتمل، وهي الحريات العامة والحريات الفردية واستقلال القضاء والتبادل السلمي للسلطة. لقد خُنقت التعددية الثقافية والسياسية وأصبح الجميع خاضعاً لسلطة الحزب الواحد الخاضع بدوره لسلطة الرئيس الأوحد!!
لا يمكن واقعياً إعطاء حزب البعث هوية طبقية محددة، فالبعثيون هم خليط غير متجانس من طبقات وفئات لا رابط بينها، سوى (العقيدة البعثية) التي يمكن فهمها، ليس من خلال أدبيات البعث التي تركز على الشعاراتية والإنشاء الأجوف، بل من خلال وقائع تجربة حكم البعث في العراق وسوريا وما فعلاه في بعض الدول المجاورة، والتي امتدت لأكثر من أربعين سنة. أي من خلال نتائج حكم هذين النظامين السياسية والاقتصادية والحقوقية، حيث تم التنكيل بهذين الشعبين حتى وصل البلدان إلى حالة يرثى لها على مختلف الصعد، في حين أن العراق وسوريا هما من أغنى بلدان المنطقة سواء بالموارد الطبيعية أم بالكفاءات العلمية والتقنية والاقتصادية أم في الموقع الستراتيجي، أي كل ما من شأنه أن يخلقَ دولة ومجتمعاً معاصرين.
فمنذ استلام البعثيين للسلطة في البلدين في شتاء العام 1963 بدأت واستمرت هجرة الكفاءات العراقية والسورية، ليتحول وجودها بالتدريج إلى ظاهرة ملحوظة في مختلف الجامعات والمراكز العلمية في الولايات المتحدة الاميركية وأوربا الغربية، وفي مختلف الاختصاصات الهندسية أو الطبية أو الاقتصادية أو الاكاديمية، ناهيك عن رجال الأعمال والمستثمرين الكبار.
وإذا كان بعثيو العراق قد دشنوا حكمهم في شباط (فبراير) 1963 باعتقال عالم الفيزياء ورئيس جامعة بغداد وقتذاك الدكتور عبد الجبار عبد الله، في اسطبل للحيوانات ثم نقلوه إلى المرافق الصحية، فإن البعث السوري قد واصل هذا النهج القومي ليدشن القرن الواحد والعشرين باعتقال عالِم الاقتصاد والشخصية الأكاديمية المرموقة الدكتور عارف دليلة رغم أنه رجل مريض وفي العقد الثامن من العمر !! وبين الراحل عبد الله والدكتور دليلة وهما من الشخصيات المستقلة، شهدت الحياة الأكاديمية والعلمية والثقافية في البلدين المزيد من الإنتهاكات والمآسي المعروفة جداً بالنسبة للشعبين والتي أقلها موت العديد من المفكرين والأكاديميين كمداً وحرماناً في بلدانهم.
إن معاداة العلماء والمثقفين غير القابلين للتدجين، هي صفة أساسية للنظامين، وإذا كان من المفيد هنا ذكر مقولة غوبلز وزير الإعلام الهتلري (عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي) فإن الأهم هو معرفة السبب، السبب كما تدل الوقائع يعود إلى الطبيعة المشوهة لحزب البعث نفسه، الذي أعتمد على مبدأ الموالاة وليس الكفاءة لتسهل عمليات الفساد والإفساد المالي والإداري الواسعة النطاق في الدولتين. وأيضاً إلى العوامل والأطراف الخارجية التي ساعدت على دعم هذا الحزب والدور الموكول إليه في تدمير البلدين.
وقبل الاستطراد، وحتى لا نقع في إلتباس غير مقصود، لا بد من ذكر حقيقة هامة هي أن العديد من قيادات وكوادر الحزبين قد تم طردها أو إعدامها أو تهميشها في مراحل مختلفة، أو أنها اختارت العزلة بنفسها بسبب رفضها الإنخراط في الأجواء الكابوسية التي أراد النظامان فرضها على البلدين. حديثنا هنا إذن، هو عن البعثيين المشاركين في الحكم والذين يتحملون مسؤولية ما جرى ويجري في سوريا والعراق لحد الآن. وعلى هذا الأساس، لا بد من التوقف عند مفهومي (الوباء السياسي) و ( مقاومة الوباء السياسي)، فالوباء السياسي يعني الأصرار على الأفكار والممارسات السياسية المشوهة وتعميمها بقصد تحويلها إلى ثقافة عامة !! ومفهوم الوباء السياسي هنا لا يستدعي فكرة ( التعقيم ) النازية بما تنطوي عليه من تصعيد غريزي وعدوانية مقابلة، أي معالجة الخطأ بخطأ مماثل، لأننا في هذه الحالة سنقع في مستنقع ثقافة البعث ذاتها. ومن هذه النقطة بالذات يبدأ مفهوم (مقاومة الوباء السياسي) أي رفض مفاهيم البعث العنصرية ومبدأ الأستحواذ على السلطة بصفتها غنيمة !! من أجل السيطرة على المجتمع وتسييره على الطريقة النازية ( أو الشمولية اليسارية أو الحزبية الدينية ) المظلمة التي قادت شعوباً عديدة من كارثة إلى كارثة.
لم يعد أحد من المواطنين يأخذ شعارات الحزب أو أناشيده القومية بنظر الإعتبار، فبموازاة الإفلاس السياسي والاقتصادي وانكماش الفئة الحاكمة على نفسها، حيث أصبحت أسيرة لسلطة قلقة وغير شرعية، أي متورطة في الحكم الذي تحول لاحقاً إلى (حكم جمهوري - ملكي)!! إمعاناً في التشوّه وتأكيداً له. حكم عائلة يتوارثه الأبناء عن الأباء !! لم يعد أمامه سوى القناع الطائفي ليتكيء عليه، ومن هنا جاءت مقولة أو مشكلة (توريط الطوائف) التي حذر منها بعض اليسار السوري في الثمانينات ولكن دون جدوى مع الأسف !! فرغم أن معظم المعتقلين السياسيين في سوريا هم من العلويين، في حين أن أفقر الأرياف السورية وأفقر الأحياء في دمشق والمدن الرئيسية هي أرياف وأحياء العلويين. ورغم أن نظام البكر - صدام قد بدأ بطشه وتصفياته الجسدية ب(المجتمع السياسي السني) من وزراء ومسؤولين وضباط كبار سابقين، حتى أفقره تماماً، دون أن يفرق لاحقاً بين سني وشيعي في قمعه للمنافسين واقعياً أو احتمالاً، لكن الكثير من الجمهور بمن في ذلك قوى سياسية معارضة، لا تستطيع التفكير بالنظامين إلا بصفتهما ( الطائفية ) !! وهنا تكمن الورطة التي تزيد من عمر الضياع السياسي في البلدين، وهنا أيضاً تكمن الهوية الحقيقية لحزب البعث بصفته وباء سياسياً وليس ظاهرة سياسية يمكن التعامل معها أو فهمها بالمنطق والتحليل الموضوعي المفترض، ليس بسبب عجز المنهج العلمي عن التحليل ولكن بسبب الكمية الكبيرة من الظواهر المشوَّهة والإلتباسات التي أنتجها هذا الحكم، وكذلك بسبب عدم إهتمام الأطراف المعنية بالتحليل المعرفي لفهم ظواهر الصراع السياسي. ولمزيدٍ من الإيضاح لهذه النقطة الحساسة نقول: ليس من المستغرب أن ينتشر وباء الطائفية في النسيج الاجتماعي للبلدين بالطريقة التي هي عليه الآن، بعد أن كان كامناً ومحدوداً. إن ما يقارب النصف قرن من حكم انقلابي يتقنع بالطائفية بعد اهتراء القناع القومي، حيث مراكز السلطة الأساسية في كلا البلدين يهيمن عليها أشخاص من طائفة معينة، لا بد أن يترك انطباعاً لدى الجمهور الواسع بأن الحكم طائفي، فلم يعد من السهل أقناع المواطنين بأم الحكم هنا وهناك ليس طائفياً، أو أن (طائفية) النظامين ما هي إلا محاولة لتزييف حقيقة الصراع ونوعيته، فحقيقة الصراع هي بين أنظمة غير شرعية دستورياً، لا تقر بدولة القانون والتعددية والتبادل السلمي للسلطة وبين مجتمع مغلوب على أمره. لكن الوقائع التي تراكمت خلال العقود المتتالية حولت الكثير من الادعاءات المزيفة إلى (حقائق) لم يعد من السهل تفكيكها وإنقاذ الرأي العام من مضاعفاتها، ومما زاد الطين وحلاً هو أن هناك أحزاباً طائفية مضادة في كلا البلدين تريد استغلال هذه المشكلة الخطيرة لمصلحتها الحزبية، كي تتربع على عرش السلطة حتى لو كان خراباً كما تركه صدام حسين مثلاً !! هذا ما فعلته الأحزاب الشيعية في العراق التي لم تستطع أن تحلَّ أية أزمة من أزمات الدولة أو المجتمع، بل تعرضت المحافظات الشيعة التسع خلال الأربع سنوات الماضية إلى مزيد من الحيف والضياع السياسي. لقد أكدت الأحزاب الشيعية أنها لا تمثل الشيعة ولا مصالحهم أنما استخدمت مشاعرهم المجروحة ومظلوميتهم الكبيرة استخداماً رخيصاً ومبتذلاً من أجل مصالحها الحزبية الضيقة، والأسوأ من ذلك أن الأحزاب السنية ازدادت طائفيةً ومغالاة في رد الفعل السلبي، في حين يزداد كل طرف انشقاقاً وتشتتاً داخلياً!!
وتتكاثر أحزابه وتتعدد ولاءاتها الاقليمية والدولية بطريقة غريبة (وهذا دليل واقعي على زيف الإدعاءات الطائفية عند الطرفين) ما عقـّد الأزمة العامة أكثر فأكثر وجعل العراقيين أمام طريق شبه مسدود. وإذا كان هذا المأزق هو أحد نتائج وباء البعث، فهو يدل بوضوح على أن الأحزاب العراقية لم تكن تمتلك (المناعة السياسية) الكافية ضد هذا الوباء بل خضعت له وساهمت بإشاعته على نطاق واسع!! ما يدل قطعاً على أنه حتى هذه الأحزاب الدينية إنما تتقنع بالطائفية وتستعمل مشاعر الجمهور المستلب إستعمالاً لمصالحها الحزبية الضيقة، وإلا لما تكاثرت إنشقاقاتها وصار بعضها يضرب بعضاً !! أليست هذه فضيحة لزيف الفكر الطائفي؟!
إن الطبيعة الوبائية لحزب البعث أخرجته من صفته التنظيمية المحددة إلى ظاهرة سلوكية وثقافية نجدها بوضوح عند الأحزاب العراقية النافذة عموماً، التي أعادت إنتاج جميع شوائب وانحرافات النظام السابق بما في ذلك أساليب تشويه السمعة والاغتيالات وشراء الذمم وتقديم الموالاة على الكفاءة والنزاهة !! ولنفس السبب الذي كان يتبعه صدام حسين، أي لشراء الذمم وتسهيل عمليات الفساد المالي واسعة النطاق.
لقد أصبح الجميع تقريباً عبيداً لأوهام السلطة. أحزاب تتصارع على المناصب والامتيازات بينما البلد خاضع لاحتلالات دولية متعددة ومصيره في مهب الريح !! هذا هو الإنتصار الخطير لثقافة الغرائز العمياء التي أرسى دعائمها حزب البعث منذ 1963.
ومقابل هذه الصورة المأساوية لأوضاع العراق، يصبح على الأحزاب المعنية في سوريا والمثقفين السوريين الفاعلين أن يتذكروا الحكمة القائلة (الذكي من استفاد من أخطاء غيره) فالسماح باتساع وباء الطائفية وعدم معالجته علمياً وواقعياً، قبيل سقوط النظام، لن يكون بمصالحة أحد. لا يمكن بأية حال القول بالحرص على وحدة الدولة والمجتمع في سوريا والخضوع للوباء الطائفي البعثي في نفس الوقت. أن التخلص من ثقافة البعث شيء وتصعيد رغبات الإنتقام الطائفي شيء آخر. إن إنقاذ المجتمع من ثقافة البعث تبدأ من أجتثاث الأوبئة التي تركها هذا الحزب المشبوه، وأولها وباء الطائفية، وإلا إنفلتت الضغائن والحساسيات ما يعطي المزيد من الفرص للطائفيين والتكفيريين وأعداء سوريا الخارجيين على حساب المشروع الديمقراطي والدولة المدنية التي ستصبح أكثر بُعداً وأصعب منالاً إذا لم يتم تدارك الأمور منذ الآن.
كريم عبد