الأيزيدية في كتب التأريخ العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لايختلف أحد على أن الأيزيدية من الكورد، وكانوا ولم يزلوا وسيبقون في منطقة كوردستان العراق، وانتشروا أيضا في مناطق تركيا وسوريا وأرمينيا، وأنهم يؤمنون بديانة لها خصوصية تعيش جنبا الى جنب مع العديد من الديانات القديمة في المنطقة، وان هذه الديانة تجعل لبقعة من الأرض معينة في كوردستان قدسية كبيرة، وهي منطقة لالش، ولهذا فأن مركز الديانة الأيزيدية تكون ضمن هذه الدائرة.
ولا يختلف احد أيضا على الوقعات التاريخية التي جرت عليهم، والمجازر والمذابح التي تحملها مجتمعهم بسبب تمسكهم بعقيدتهم وعدم التحول عنها بالقوة والقسر، ولم تزل تتحمل النكبات والويلات التي تقترفها عقليات متطرفة ومنحرفة لحد اليوم.
غير أن أحدا لم يسأل نفسه عن الأسباب التي دفعت المؤرخين وكتبة التاريخ إلى إلغاء وشطب كل ما له علاقة بالتأريخ اليزيدي، فلا حضور للأيزيدي في كل المتغيرات التاريخية، ولا أثر للأيزيدي في مراحل التاريخ القديم والحديث، بالرغم من أن الكتابات التاريخية التي كتبت عنهم عبرت عن وجهة نظر غير محايدة ولا تمثل الحقيقة، وصارت تلك الكتابات التاريخية ما توزعهم دون غيرهم على القوميات، فصيرتهم مرات عدة على أنهم عربا مرتدين عن الإسلام، وأعتبرهم آخرين مسيحيين حرفوا العقيدة المسيحية، وأعتبرهم بعض على أنهم بقايا الزرادشتيين على أرض العراق، وغالى بعض في اعتبارهم من عبدة الشر والشيطان فأستحقوا اللعنات.
والأيزيدية دون غيرها كانت مستهدفة في ديانتها أكثر من مجتمعها، وصارت مثار خلاف حول حقيقة منشئها وتكوينها، وأعتبرها بعض الكتاب أنها الديانة الأكثر تقاطعا وتعارضا مع الإسلام، في طريقة العقيدة والسلوك والأيمان دون ترتيب السندات التي تعرض لهذا التقاطع، ودون أي دليل يؤكد هذا ألاتهام.
فإذا كانت الأيزيدية حركة أموية نشأت من داخل بنية الدولة العربية والإسلامية، فلماذا تقتصر على الأكراد دون العرب، وهل توقف عملها من اجل إحياء تلك الدولة المندثرة؟ وهل اتفق الأيزيدية اليوم على إسقاط تلك الفكرة السياسية من مناهجهم؟ وأين انتهت تلك الدعوة، بل وأين صار الأيزيدية منها اليوم؟ وهل يعقل أن تكون الأيزيدية منشقة عن الإسلام بسبب تعصبها للخليفة الأموي يزيد بن معاوية؟ حيث تم استغلال تشابه أسم الله ( أيزيد ) مع أسم الخليفة الأموي ( يزيد ) للطعن والتنكيل بهم. ثم الم يحن الوقت لنكشف عن عدم وجود ترابط بين الأساس الديني والفلسفي لديانتهم وبين الدعوة السياسية المزعومة؟
وإذ تكشف الأيزيدية اليوم للناس حقيقة أيمانها وتمسكها بالخالق، والتي تتطابق في حدود الأيمان مع كل الديانات التي تؤمن بالله ( خدا في الكوردية ) وتؤمن بالتوحيد، وإذ تكتشف الناس مدى تطابق العديد من القيم التشريعية والدينية العامة مع الديانات الأخرى، فتتوضح قضية التداخل والتلاقح بين تلك الديانات في العديد من القيم والأعراف والطقوس، بعيدا عن استبعاد ديانة على حساب الأخرى.
وإزاء التجاذب القومي أوالديني الذي يريد أن يضم الأيزيدية تحت معطفه، أو بروز المصالح السياسية التي تتجاذب قضية الانتماء الأيزيدي وفق الظروف والمكان والزمان، تبدو أهمية الأيزيدية واضحة في كل هذا بالرغم من كل التجاهل التاريخي أو التعتيم الذي مورس ضدهم في كتب التاريخ القديم والحديث.
وإذا كانت الأيزيدية من الديانات التي تؤمن بها مجموعة بشرية، فهل يعقل أن يتم حصر تلك الديانة التي قاومت كل تلك الأحداث والهزات ضمن حيز جغرافي وتأريخي؟ في حين نجد أن العديد من أبناء ديانات أخرى لهم التأثير والحضور في الفترات المختلفة للزمن القديم والمكان، وحين ندقق في الصراع التاريخي الذي حصل بين الديانات، لانجد ذلك التعرض الواضح ضد الديانة الأيزيدية، فهل أن أبناء الأيزيدية كانوا يختبئون في مجاهل الأرض وغابات أفريقيا حتى يمكن أن يتمسكوا ويصمدوا ضد عاديات الزمن؟ وهل أن ابناء الأيزيدية كانوا غائبين عن الوعي حتى يمكن أن يبقوا تحت الأرض ليتعرفوا على ما يجري فوق ألأرض؟
بالتأكيد أن ثمة حقائق مخفية ومغيبة عن ضمير من كتب التاريخ، فقد تم تغييب ليس الأيزيدية باعتبارها ديانة قديمة وتتمسك بها مجموعة بشرية، إنما تم تغييب الكورد بشكل عام عن حقائق كثيرة من التاريخ، ولم يلتفت احد الى تلك الكلمات السومرية والأشورية والبابلية والاكدية التي لم يزل يتعامل بها الايزيدي سواء في تعامله اليومي أو في طقوسه الدينية، وماهي أسباب بقاء تلك الكلمات المتطابقة؟
وإذ يتم تحريف الاسم بغية التناغم والانسجام مع وجهة نظر التاريخ المكتوب من وجهة نظر واحدة، فيصيروا ( يزيدية ) بدلا من ( ايزيدية )، ويتم نسبتهم الى يزيد بن معاوية أو الى يزيد بن انيسة الخارجي حسب مقتضى الحال، مع أن كتاب التأريخ يدركون حقيقة عدم وجود ترابط ديني أو فقهي بين هذه ألأسماء وبين الديانة الأيزيدية، فيصيرهم بعض على أنهم الجنود الأكراد الذين أعتمدهم الخليفة يزيد بن معاوية في حربه لقمع ثورة الحسين بن علي ( ع )، واستغلال تلك الافتراءات في قضية انشغال الأمة الإسلامية في مسألة الصراع الأموي مع المسلمين الشيعة ومحبي آل بيت الأمام علي بن ابي طالب، وينسبهم بعض على أنهم أولاد الجن الذين بقوا في الجبال.
وإذ يتم تغييبهم عن الضوء، فلا وجود لهم في التاريخ القديم، ولاأثر لهم في زمن الفتوحات الإسلامية، مع أن الفتح الإسلامي وصل الى مشارف جبال كوردستان وتوقفت تلك الخيول الهادرة والجمال من الصعود على صخور الجبال، غير أن أحدا لم يكن يفسر الأسباب التي دعت الأمة الكوردية التي اشتهرت باعتناقها الديانة الأيزيدية والزرادشتية واليهودية والمسيحية قبل أن يحل عليها نور الأسلام، أن تبقى مجموعات بشرية غير قليلة متمسكة بدياناتها القديمة، فكيف عبر الأسلام تلك المجموعة البشرية التي كانت ضمن المجتمع الكوردي؟ وماهو السبب الحقيقي الذي أبقى تلك المجموعة تتمسك بديانتها؟ بل وما المنطق الذي يدعو تلك المجموعة البشرية أن تتفق على الانحراف والخروج عن الأسلام لو كانت قد اعتقدت بالأسلام؟ ثم عل يعقل أن لاتنتج تلك المجموعة البشرية بعد إسلامها رجلا واحدا أو رمزا واحدا لتشير له كتب التاريخ بدلا من هذا التجهيل.
ونلمس أيضا من خلال قراءة التاريخ ذلك التجريد والتقليل من الأهمية الدينية والمجتمعية حتى ضمن المجتمع الكوردستاني، مع أن الكورد يقرون حقيقة أن الأيزيدية هم أصل الكورد، وأن من ينسبهم الى الأمة العربية يعوزه دليل قاطع في عدم وجود عشيرة عربية واحدة على مدى التاريخ القريب أو البعيد بينهم، ومن ينسبهم الى الانشقاق والارتداد عن الأسلام أيضا يعوزه الدليل الأكيد من أنهم لايقبلون الانتساب لهم من غير ديانتهم، ومن ينحرف عن ديانة لايمكنه أن ينغلق على نفسه، والمنطق يقول انه يجب أن يفتح صدره لكل من يتضامن معه ويعيد من ينحرف أو ينشق عن تلك الديانة الى صفوفها، غير أن الأيزيدية مجتمع ديني مغلق على نفسه لايقبل حتى عودة من يخرج عن ديانتهم من ابناء الأيزيدية أنفسهم، عدا عن تلك الأطواق الحديدية التي تحكم المجتمع الأيزيدي في وجود الطبقات الدينية وقضية التزاوج فيما بينها، والمحرمات التي تحددهم وتلزمهم.
ومن الحقائق التي تم تغييبها أيضا أن الديانة الأيزيدية لم تتعارض مع تلك الديانات في المنطقة، وتبدو تلك العلاقات الاجتماعية والانسجام في الحياة المشتركة دليل يؤكد تلك الحقيقة، بل وأن العديد من المحرمات ما يتطابق مع الأسلام، وما ينسجم مع المسيحية، وما ينسجم مع الزرادشتية، فهل أن الديانة المسيحية والزرادشتية حلت بعد الإسلام لتأخذ منها الأيزيدية بعض الملامح؟
وإذ ينتقل العديد من ابناء الأيزيدية الى الأسلام، فليس لهم العودة الى ديانتهم السابقة قطعا، لأسباب عدة، أو لها إن الأسلام يحكم عليهم بالردة وعقوبة المرتد كما يقول فقهاء الأسلام القتل، كما أن الديانة اليزيدية لاتقبل منهم تلك العودة مهما كان تبريرهم وأسبابهم، وهذه الشريحة التي أنسلخت عن المجتمع الأيزيدي غيبت عن التاريخ أيضا، فلم تذكر لنا صفحات التاريخ حتى ضمن المناطق التي عاشوا بها بعد انتقالهم من ديانتهم القديمة الى الجديدة، أنهم كانوا حاضرين مؤثرين في التاريخ، فهل ليس بينهم من لم يكن مؤثرا أو بارزا في التاريخ الإسلامي القديم أو الحديث على الأقل؟ غير أن التأريخ لم يغفل ذكر المتحولين من ابناء المسيحية واليهودية والمندائية وحتى الزرادشتية، بل أن التاريخ ذكر بشيء من الأنصاف رموز عديدة كانت لم تزل على ديانتها غير الإسلامية وكان لها التأثير المهم في التاريخ، غير أن الأيزيدية لم يكنوا بين هؤلاء وهؤلاء.
هناك من يشير الى العلاقة بين التاريخ العربي وشعب كوردستان، وهذه الأشكالية الموغلة في النظرة القومية الاستعلائية لمن هم غير العرب، وتلك النفوس الممتلئة بالغطرسة التي عبأها المؤرخ العربي الذي استند واعتمد على آيات مقدسة وأحاديث نبوية مقدسة وتطويعها لصالح المنهج الاستعلائي، جعلت أرضية لذلك التغييب المتعمد.
وإذا كانت تلك الحقائق التي تخص الأيزيدية بهذا الحجم من التغييب والإعماء في منطقة سكناهم، لسببين أولهما الديانة التي تم تغليفها بالأسرار والخفايا والطلاسم، وثانيا تلك القومية التي لم تزل تتحمل رذاذ تلك النظرات والعقليات التي تستكثر عليها حتى حقها في الحياة.
هذا الحيز الجغرافي في منطقة وجودهم التاريخي، ونعتقد إننا نتفق إن الأيزيدية مهما كانت وجهة النظر تجاههم، موجودين في تلك المنطقة منذ أن حل الإنسان فيها، فكيف بالمناطق البعيدة عنهم وعن المجتمعات التي لم تتوضح لها حقائقهم؟ كيف بالمجتمع المصري أو الجزائري أو السعودي الذي كانت الكتابات التاريخية المنحرفة هي الوحيدة التي يمكن لها أن تكون بينهم؟ فلا يمكن قطعا أن تكون كتابات حيادية أو تتحدث عن حقيقتهم أو تدافع عن ديانتهم، وليس بغريب أن يكتب بعض عنهم استنادا لما كتبه الأسلاف دون تمحيص ودون تدقيق تأريخي فتختفي الحقيقة وتبرز الصورة الوهمية.
بل لم يكن الكورد أنفسهم يهتم بهذا الجانب، فلم يبرز من يكتب عنهم باللغة العربية توضيحا لحقيقتهم ولاحتى باللغة الكوردية، لأسباب عدة منها انشغالهم بقضية حقوق شعب كوردستان والدفاع عن قضيته، ومحاولة أعادة كتابة التاريخ وتقويم التحريف الذي حل في كتابة التاريخ العربي، كما لم يهتم الأيزيدية أنفسهم أيضا الاهتمام بهذا الجانب لأسباب عدة أيضا، منها أن مثقفيهم لم يلتفتوا الى هذا الجانب المهم إلا مؤخرا.
سادت الكثير من الكتابات التأريخية فكرة أعادة نسب الأيزيدية الى العرب، وتعكزت سلطات حكمت العراق على تلك الفكرة في سبيل سلخهم عن حقيقة قوميتهم، غير أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع، فقد انتهت تلك السلطات ومعها تلك المحاولات، وبقي الكورد الأيزيديون لم تمرر عليهم تلك الأساليب الخادعة في تزوير حقائق التاريخ العراقي، ومن اللافت للنظر أن الأيزيدية في مناطق العراق أو سوريا أو تركيا يتجاورون مع العرب ويختلطون ضمن مجتمعهم في العديد من تلك القرى، لكن الجميع يدرك حقيقة قوميتهم الكوردية، بل ولا يشك في ذلك مطلقا، غير أن تبطين الكراهية لهم لم تزل تتلبس نفوس العديد من جيرانهم من العرب وحتى من ابناء جلتهم من الكورد المتعصبين دينيا.
المتصفح للانترنيت وللكتابات التي كتبت عن الأيزيدية تجتزئ فترات طويلة ومهمة من حياة الأيزيدية، فتجزم في قضايا دون دليل، وتحكم في قضايا دون أسانيد، ويستند كل تلك الكتابات على الأخرى، دون تحليل ودون تمحيص، وحتى دون إدخال الذاكرة التأريخية والحقائق الموضوعية، ألا يمكن أن تتم مناقشة أسباب وجود قبر الشيخ عدي بن مسافر في لالش، وطريقة الدفن التي تختلف عن طريقة دفن المسلمين؟ إلا يمكن أن تتم مناقشة اللغة العربية التي يزعم انه يتحدث بها الشيخ عدي لقوم كورد لايعرفون اللغة العربية يعلمهم أمور دينهم ودنياهم؟ فالقدرة على التحدث باللغة العربية تختلف بالتأكيد عن القدرة في فهم المفردات وطريقة هجاء الحروف فيعجز المرء عن فهم العديد من النصوص والقدرة على التعبير باللغة الأخرى، خلال فترة التبشير والإقناع، ألا يمكن مناقشة وجود الشيخ عدي بين اتباع يزيد بن معاوية بحرية تامة، بينما تلاحق الدولة العباسية كل الأمويين حتى تصل الى حدود البحر، دون أن تلتفت الى هؤلاء الذين يزعم أنهم يعبدون يزيد بن معاوية من دون الله؟ ألا يمكن مناقشة حقيقة الفكرة الدينية التي تولدت في عقل يزيد بن معاوية من عدمها، وهو المنشغل بملذات الدنيا والبعيد عن التصوف والتفكر الفلسفي بعد الأرض عن السماء؟ الا يمكن مناقشة الفترة التي قضاها يزيد في الخلافة (( حكم للفترة من 680-683م )) والتي لم يرد في أي مرجع تاريخي اهتمامه بالأديان والمذاهب، ثم الم يفكر من يروج مثل تلك القصص الى صعوبة تصديق أن مرجعا دينيا عربيا يتحدث لمجموعة بشرية تتحدث الكوردية ولاتفهم مايقوله بالعربية، ليطرح عليها فلسفته وديانته، حتى تتمسك بأقواله وتفهمها وتجعله في مصاف القديسين !!! كيف ينسجم الأمر بين طرفين لايفهم احدهما لغة الأخر إلا بالإشارة !!
حفظت كتب التاريخ العربي خطبة طارق بن زياد الليثي مولى موسى بن نصير حين قرر أن يقتحم البحر ليفتح الأندلس، وحفظ الجميع تلك الخطبة التي صارت نشيدا للتلاميذ العرب في المدارس، يتغنون بها ويتفاخرون، ويقول فيها ((أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ))...... الخ الخطبة، غير أن حقائق التاريخ لم تذكر أن القائد طارق بن زياد الذي فتح الأندلس كان (( امازيغيا )) لايتحدث حرفا من اللغة العربية، وأنه أسلم بعد فتح بلاد المغرب.
ولد طارق بن زياد في القرن الأول الهجري 670م في المغرب وتوفي 720م، وقد اختلف مؤرخو العرب في أصله، فذهب بعضهم إلى أنه كان فارسيًا، وذهب فريق آخر إلى أنه كان بربريًا من إفريقيا ومن قبيلة نفزة البربرية أو من قبيلة الصدف الأمازيغية، كان وثنيا وأسلم على يد موسى بن نصير بعد فتح بلاد شمال إفريقيا من قبل الجيوش الإسلامية، ولم يكن يتحدث بالعربية، فكيف صارت تلك خطبته المشهورة؟؟
وأخيرا أين نجد تلك النظرة التاريخية الحيادية في الكتابة عن الأيزيدية، ومناقشتهم دينيا بعد تقبل وجودهم وحقيقتهم؟
المتصفح لأمهات الكتب التاريخية العربية لن يجد أسم الأيزيدية فيها، مع أن ابن الأثير في الكامل في التأريخ يتحدث عن صحف إبراهيم التي تحدث بها النبي محمد ( ص ) الى أبي ذر الغفاري (( الصفحة 40 ))، دون أن يتعرض أحد الى تلك الصحف، مع أن الأيزيدية تقول أنهم اخذوا ديانتهم من إبراهيم الخليل. فهل إن تلك الصحف هي كتب الأيزيدية التي تشكلت منها كتبهم المقدسة؟ أم أن تلك الصحف الأولى تشكل المعالم الأولى للأيمان بالخالق والتوحيد؟ ويعلق السيد قطب في كتاباته عن تلك الصحف بقوله (( تتضمن أصول العقيدة الكبرى. هذا الحق الأصيل العريق. هو الذي في الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى.
ووحدة الحق، ووحدة العقيدة، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها. ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر.. إنه حق واحد، يرجع إلى أصل واحد. تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة، والأطوار المتعاقبة. ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد. الصادر من مصدر واحد.. من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى )).
ودون شك أن الصحف الأولى هي الآيات المقدسة التي نزلت على النبي إبراهيم، ودون أن يتطرق احد من الكتاب الى تفصيلاتها الخصوصية، وإنما جاءت الشروحات والتعليقات جميعها تعتمد العموميات.
ثم الا يمكن الالتفات الى تلك التطابقات في الممارسة الدينية والطقوس التي تمارسها الأيزيدية، مع تلك الطقوس والممارسات المتبعة في تلك الحضارات القديمة التي سادت في بلاد الرافدين، أو تلك التي بقيت راسخة في جبال كوردستان؟
وإذ يتم التنقيب في مناطق عديدة من العراق عن حقائق التأريخ القديم في منطقة من مناطق العراق التي سكنها البشر، ترى الا تستحق المناطق القديمة والغارقة في القدم والتي سكنها الأيزيدية التنقيب والتحري واستنتاج الحقائق؟ ألا يمكن أن تنكشف الأسرار المدفونة تحت صخور لالش وهي التي يعتبرها الأيزيدية مكانهم المقدس؟
وبعد كل هذا الايمكن للمطالع العربي أن يتعرف على ملامح مجموعات بشرية بادت في العراق مثل الزرادشتية، أوالتي لم تزل باقية حتى اليوم مثل الكاكائية والجرجرية وأهل الحق والصارلية، حتى يمكن للمتابع العراقي بشكل خاص والعربي بشكل عام من معرفة حقيقة الأقوام التي تعيش في العراق ودياناتها ومذاهبها؟
ومن يتصفح كتب التاريخ العربي كالكامل في التاريخ أو الأخبار الطوال أو السلوك لمعرفة دول الملوك لعز الدين أبن الأثير، وكذلك الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، لن يجد فيها سطرا واحدا يشير الى الأماكن المقدسة التي يقدسها الأيزيديون، بل أن ياقوت الحموي الذي لم يترك مدينة أو قرية إلا وذكرها في معجم البلدان، أشاح وجهه عن الأماكن التي يسكنها الكورد الأيزيديون ولم يتقرب منها مطلقا، بالرغم من احتواء معجمه بالصفحة 139 على قصيدة تهكمية على الكورد ومطلعها: ( تبا لشيطاني وما سلا لأنه أنزلني إربلا )، ويقطع الحموي بمشاهداته لأربيل المدينة الكوردية، لكنه يتجاوز ذكر أديانهم ومعتقداتهم.
حتى أن الرحالة أبن جبير الذي عبر بلاد بكر ومايليها يصف ملامح الأيزيدي في تفاصيل ضفائره وشكل ثيابه والطبيعة التي يعيشها المجتمع الأيزيدي ضمن تلك البقعة الى عبرها، غير انه يجعله وصفا عاما للكورد.
بل أن تأريخ الإسلام لشمس الدين أبو عبد الله الذهبي الذي ذكر الفتوحات والأقوام التي قاومت الدين الإسلامي لم يذكر ليس فقط أخبارهم إنما حتى ديانتهم أو ارتدادهم المزعوم عن الإسلام، وحتى أن مؤرخا مثل أبن خلدون في تأريخ ابن خلدون لم يذكرهم ابدا، ولم يتعرض لهم الطبري في كتابه تأريخ الرسل والملوك، بل أن أبن منظور مؤلف كتاب مختصر تأريخ دمشق لم يذكرهم مطلقا مع أن الكتاب العرب لم يزلوا حتى اليوم يعتبرون الأيزيدية فرقة أموية انحازت الى جانب الخليفة يزيد بن معاوية، وبدأت تباشيرها من دمشق، دون أن يضعوا الأسباب المنطقية التي تدعو الكوردي الملتزم سواء بالإسلام أو بديانة أخرى ينتصر ليزيد بن معاوية على أعداءه، ثم تستمر تلك العقيدة والالتزامات حتى بعد وفاته، ودون أن نجد أي اثر تاريخي أو مادي على تلك الدعوة الباطلة، في أعادة الخلافة الأموية، سواء في الأقوال التي يرددها شيوخ الأيزيدية وقواليهم، أو في نصوصهم الدينية المتناثرة.
أن المعنيين بكتابة التأريخ تدعوهم الحقيقة اليوم للمساهمة والبحث عن الحلقات المخفية من حياة تلك الشريحة العراقية، والديانة العريقة الواضحة القدم، والانفتاح عليهم باعتبارهم أولا وقبل كل شيء جزء من المنظومة البشرية، وثانيا أنهم أهل ديانة يتمسكون بها ويفتدوها بأرواحهم، وثالثا أنهم من شعب كوردستان الذي اثبت جدارته في التضحية والتمسك بحقوقه الإنسانية المشروعة، بالرغم من حجم الهجمة الشوفينية المتطرفة التي واجهها، والتي نالت من الأيزيدية جزء منها.
وإذا كانت الفلسفة الدينية للأيزيدية مثل غيرها تعني الدراسة العقلية لظواهر السلوك الإنساني، وتفسيراتها للظواهر الطبيعية و ما وراء الطبيعة مثل الخلق و الموت والإقرار بالوجود ووحدانية الخالق، فأن التعرض لتلك الفلسفة بالتكفير دون مناقشة أساساتها الإنسانية وحقيقتها القائمة، واختزال تلك الدراسات بفتاوى تكفيرية من قبل رجال دين مسلمين حصرا، تقطع كل الإمكانيات التي تتحرى عن حقيقة تلك الديانة بحد السيف، وتلغي كل الإمكانيات في التحاور والجدل للتوصل الى المشترك في الحياة، ما يجعل الحقيقة غائبة والتحليل العلمي مغيبا، وبالتالي فأن الأحكام المسبقة التي تصدر بحق الأيزيدية تأتي دون تمحيص ودون أسانيد، ودون أدلة تستند على الكتابات التاريخية التي كتبت في أزمان متفاوتة، فيترسخ الظلم وتندحر الحقيقة.
بقيت تلك العقول مشغولة فترة طويلة بتسفيه الأفكار الدينية، ومنسجمة مع السلاطين ووعاظهم، دون أن يتمكن احد منهم التمرد على الخط العام الذي التزم بشطب الاسم والفلسفة من ذاكرة التاريخ الرسمي العربي المدون، وبهذا غابت عنا حقائق يمكن لها أن تكون مدار بحث ونقاش وتمحيص وتقليب حول الركائز التي استندت اليها تلك الديانة، وحقائق بروزها الأول في الزمن الغابر، وعلاقتها بالحضارات التي سادت ثم بادت في أرض الرافدين، أو على الأقل البحث عن أسباب انتشارها بين كوردستان العراق وسوريا وتركيا ثم أرمينيا؟
ومع أن الأساطير مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الإلوهية عند الشعوب، ويمكن للباحث أن يعتمدها كمادة خصبة للبحث، فلم ينتبه احد الى تلك الأساطير التي تكتنف الديانة الايزيدية، واستنباط الأحكام وتطابق النصوص معها.
يقول الدكتور جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ((تختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإلَه" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة God في الانكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عن سكنة الجبال والهضاب،ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند للشعوب الآرية، لأسباب عديدة يذكرها علماء تاًريخ الأديان. )) ص 895 الجزء الثاني.
ولم تزل الأيزيدية متمسكة بتسمية أحد الملائكة المقربين من الإلـــــه الخالق بلفظة ( طاؤوس ) وهي متطابقة مع اللفظ اليوناني، أو كلمة (قوال) المأخوذة من كلمة (كالو Kalo) السومرية، وتعني (كالو Kalo) بتلك اللغة: الكاهن، الرجل المتدين، كبير السن، والتي يطلقها الأيزيدية حتى اليوم على رجل الدين المكلف بحفظ التواشيح والأدعية والمشاركة بالطقوس وحفظ التراث الأيزيدي، وهي طبقة دينية محترمة من طبقات الأيزيدية.
كل هذه الأمور وغيرها لم تدفع بالمؤرخ العربي ولا بالمهتم بالأديان والملل والمذاهب أن يحلل ويستنتج ويبدي رأيه، ولهذا فقد اسقط الإهمال على الأيزيدية نوعا من الضبابية التي مكنت كل التقولات الظالمة والآراء المجحفة بحقهم أن تطرح نفسها لتجد كل التقبل والانسجام في العقل العربي، ولهذا فقد تكدست الدراسات العربية تنبش في كل مجاهل البلاد، ليؤرخ العديد من المؤرخين تفاصيل الحياة والسياسة والحروب، وأديان الجاهلية والإسلام وحركات الردة والانفصال التي حدثت، ثم التحليل الاجتماعي للعديد من القوميات، غير أن الأيزيدية كانت غائبة عن كل عصور التاريخ القديم والحديث إلا ما كتب عن غير حقيقتهم ولغرض الإساءة إليهم.
أن اليهودية باتت من الأديان التي لايتحمل المؤرخ أن يذكرها بحيادية انسجاما مع الخط العام للمجتمع، ومهما زعم بعض أو ادعى آخر أن العداء للصهيونية وليس لليهودية، إلا أن الحقيقة التاريخية وواقع الحال يخالف ذلك، فاليهودي اليوم يعيش في بلادنا المسلمة تحت وطأة الرعب والتقوقع والانعزال والاتهام، فثمة إشكالية طغت على التدوين التاريخي، من خلال طغيان المواقف الدينية والسياسية، ونلاحظ اليوم أن جميع ضحايا الإرهاب في بلداننا هم شهداء، غير أن ضحايا الإرهاب من أبناء الأيزيدية هم قتلى أو ضحايا، ولم تجرؤ مؤسسة إعلامية عربية أن تطلق لفظة الشهادة عليهم مهما بلغت حجمها.
كما يمكن للنظرة الشوفينية التي تسيطر على عقلية عدد من كتبة التاريخ تجاه الأمة الكوردية، والإقرار بحقوقها الإنسانية من عدمه، أن تسحب تلك النظرة على الايزيدية التي يمكن أن تستعيد ارتباطها القومي، من خلال محاولات إعادة ترميم حالة التمزق التي حصلت، ولم تزل تلك العقليات تصدر أحكامها الظالمة والمجحفة بحق الأيزيديون خصوصا والكورد عموما.
وعودة للمدونات التاريخية التي كتب العديد منها وفقا للاعتبارات السياسية والدينية التي تحكم المجتمع، ولايمكن لمدون أو مؤرخ تحت ظل سلطة الخليفة أن يدون غير ما تريده الخلافة ( السلطة )، وإلا عد ملحدا أو مرتدا أو خائنا وأستحق الموت، مع إننا لانسحب هذا الحكم على العديد من المدونات التاريخية الأخرى، التي اتسمت بالجدية والمضمون الايجابي، غير أنها ابتعدت عن ما يثير لها الإشكاليات والمشاكل.
وثمة حقيقة لابد من ذكرها، وهي وجود أديان متعددة في منطقة كوردستان العراق، وحين زحفت جيوش المسلمين، فأنها نشرت الإسلام على المناطق التي فتحتها، غير أن تلك الجيوش لم تستطع أن تصعد الى الجبال، فبقيت الأديرة والكنائس والمعابد التي كان غير المسلمين يمارسون بها طقوسهم باقية، وحين توقفت تلك الجيوش عند الأماكن التي وصلتها، بقيت فترة أخرى حتى تمكنت من إيصال الإسلام الى المناطق الجبلية العصية، حيث آمن بالدين الجديد العدد الكبير من أبناء تلك الديانات، ليس فقط تخلصا من السلطات الفارسية إنما أيمانا بتلك الديانة الجديدة أيضا، ويقول المؤرخ محمد أمين زكي في كتابه خلاصة تاريخ كرد وكردستان ص 123: (( أن الكورد وجدوا تشابها بين ماكانوا يعتقدونه والدين الجديد فآمنوا به ))، في حين بقي عدد كبير أيضا على ديانتهم، متمسكين بأديرتهم وكنائسهم وأماكنهم المقدسة، بسبب اختلاف اللغة، والتعصب القومي، والاختلاف الثقافي بالإضافة الى ظرف المكان الذي يساعد على الاحتماء.
غير أن كتبة التاريخ أغفلوا أيضا ذلك الصراع القائم بين الزرادشتية وبين الأيزيدية، ومن حقائق هذا الأمر أن الزرادشتية كانت قبل الإسلام، وحاربت الأيزيدية حيث نعتهم زرادشت بأنهم ( عبدة العفريت )، وكانت منطقة كوردستان من ضمن المناطق التي تؤمن بالزرادشتية، وكذلك بلاد فارس، وبعد انتشار الإسلام، تقهقرت الزرادشتية، واعتنق أهلها الدين الإسلامي، في حين بقيت تلك المجموعة البشرية التي تؤمن بالأيزيدية صامدة، ولعل هذا الإغفال يتعارض مع اعتقادهم بارتداد الأيزيدية عن الإسلام.
بقيت قيم الدين مسيطرة بشكل واضح وقوي على الكتابة التاريخية، وتطورت الى السطوة والهيمنة، حيث بات سيف السلطة بعد أن صار الخليفة أميرا للمؤمنين، الحاكم الديني والسياسي للأمة، وظفت المؤرخ كتاباته بما لايتعارض مع تلك السطوة والهيمنة، ولهذا تأتي العديد من الحوادث التاريخية في سياق غير سياقها الحقيقي.
زهير كاظم عبود