الاسس الدستورية لتوزيع الاختصاصات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الاسس الدستورية لتوزيع الاختصاصات في مجال الضرائب بين مجلسي برلمان الدولة الفيدرالية
بعد فترة وجيزة،بحساب الزمن السياسي، سيدخل قانون انشاء الاقاليم في العراق حيّز التنفيذ. الامر الذي سيبرز الى السطح جملة من المعضلات، التي يتطلب حلها قاعدة متينة من التشريعات، واجراءات تمهيدية هائلة، تفيد تجربة اكثر البلدان الفيدرالية عراقة واكثرها استقرارا، انها بذلت المزيد من الوقت والجهد لانجازها. واذا كانت تلك البلدان قد استندت في التأسيس لاقامة الفيدرالية الى دستور واقعي و (او) عقود فيدرالية واضحة، فان الدستور العراقي، والذي اريد له ان يكون حلاً فاصبح مشكلة بحد ذاته، ليس بمقدوره، بصيغته الحالية، التاسيس للفيدرالية كشكل جديد للدولة العراقية. على ان واحدة من اكثر المسائل خطورة وتعقيدا في الحالة العراقية الراهنة، هو الخلاف حول توزيع الثرة وكيفية استثمار الموارد الطبيعية والذي تبدو مقدماته واضحة في (السجال) بين السلطات المركزية وسلطات اقليم كردستان، حول كيفية استثمار النفط العراقي في تلك المنطقة. بالاضافة الى النزاع المحتدم، الظاهر حينا والمستتر احيانا اخرى، حول ثروات اقليم الجنوب المرتقب، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج مأساوية. من هنا الضرورة القصوى لدراسة الموروث الايجابي للبلدان الفيدرالية في مجال ترتيب العلاقة بين السلطات الفيدرالية (الاتحادية) وسلطات الاقاليم.
تمتلك الدولة، وبغض النظر عن شكلها المساحاتي (بسيط،اقاليمي، فيدرالي)، حزمة من المبادئ الدستورية التي على اساسها يتم تحديد اطر نشاط جهازها التشريعي الاهم (البرلمان). بالاضافة الى ذلك فان ممارسة البرلمان الوظيفة التشريعية في مجال سن واصدار التشريعات المنظمة لسياسة الدولة المالية، وخصوصا في مجال الضرائب، تخضع لجملة من القواعد القانونية التي قامت التجربة الدستورية للشعوب المختلفة بصياغة مبادئها العامة، ورسمت اطرها الاساسية. وربما كان مبدأ (لا ضريبة بدون نص قانوني) واحدا من الاساليب التي تهدف الى الحيلولة دون تعسف السلطة التنفيذية في واحد من اهم المجالات بالنسبة للمواطن.
ان وجود سمات مشتركة لنشاط اجهزة الدولة التمثيلية (البرلمانات) لا يلغي العلامات المميزة التي عادة ما تلازم آليات تنفيذ السياسة الضرائبية للدولة الفيدرالية. فوجود منظومة معقدة وشائكة من اجهزة الدولة، واختلاف تلك الاجهزة، وتشابك العلاقة فيما بينها لابد وان يجعل من تلك الاجهزة اكثر تعقيدا، فتوزيع الاختصاصات هنا يتم ليس فقط بشكل افقي، بحيث يقتصر تاثيره على العلاقة بين مجلسي برلمان الدولة الفيدرالية فقط، وانما بشكل عمودي، حيث العلاقة بين الجهاز التشريعي الاتحادي والاجهزة التشريعية لاقاليم الدولة لها خصوصياتها ايضا. وهنا بالذات يمكننا تلمس جملة من العناصر التي تميّز العملية التشريعية في مجال الضرائب بالذات، ابتداءا من اقتراح مشاريع القوانين، وانتهاءا باقرارها واكتسابها القوة القانونية.
ان خصوصية مسئوليات برلمان الدولة الاتحادي تتجلى في جملة من العناصر هي:
اولا ــ تركيبة الجهاز التشريعي. فمن بين خمس وعشرين دولة فيدرالية موجودة حاليا، تفتقر اربع دوّل فقط الى برلمان المجلسين وهي تنزانيا وجزر القمر والامارات العربية المتحدة و (العراق). ان وجود مجلس ثان خاص بتمثيل الاقاليم،في اغلب الاحيان، يجعل من امكانية التأثير على ارادة المشرع في المجلس الاخر (مجلس النواب) امرا واردا، وخصوصا اذا ما تعلق الامر بتوزيع الثروات بين اقاليم الدولة.
ثانيا ــ العنصر الثاني الذي يجسد خصوصية برلمان الدولة الفيدرالية في مجال تحديد الاختصاصات، هو طبيعة مجلس النواب (المجلس الاسفل كما هو متعارف في بعض الادبيات القانونية). فتشكيل هذا المجلس عن طريق الاقتراع يمنحه صفة الحامل لسيادة الشعب والمجسد لها. وهذا ما يمنحه تخويلا حصريا بتشريع القوانين ومراقبة تنفيذها، وخصوصا في مجال السياسة المالية للدولة، على انه لابد من الاشارة هنا الى ان هذه المسألة تكتسب اهمية استثنائية في البلدان التي تتمتع بمصادر الثروة الحيوية والاستراتيجية (النفط والغاز والفحم والمعادن...الخ). ويكون الامر اكثر تعقيدا بالنسبة للبلدان التي تعيش ظروف المرحلة الانتقالية، والتي تفتقر الى عناصرالدولة الكاملة (العراق مثالا). وربما يكون من المفيد التذكير هنا بان تفعيل مبدأ حصر الدور التشريعي والرقابي،في الامور المالية تحديدا، بمجلس النواب لم ينشأ بدولة فيدرالية، وانما في بلد البرلمانية الاول (المملكة المتحدة). وفي جميع الاحوال، وبغض النظر عن شكل الدولة، فان المعالجة الدستورية للشؤون المالية (بما في ذلك في مجال الضرائب) تستند الى هذا المبدأ بالذات. اي ان مجلس الدولة التشريعي (التمثيلي) المنتخب يمتلك حقا حصريا في تحديد طرق وكيفية دخول الاموال الى خزينة الدولة ومراقبة السلطة التنفيذية اثناء تصرفها بتلك الموارد (كيفية صرف الميزانية، على سبيل المثال).
ثالثا ــ العنصر الثالث الذي يؤثر على توزيع الاختصاصات بين مجلسي برلمان الدولة الفيدرالية هو الاسس والمبادئ التي تحدد الوضع القانوني لكل منهما. فمجلسا البرلمان يتمتعان بحقوق دستورية متساوية، ما يفترض،من الناحية الشكلية، توزيع الاختصاصات بينهما بشكل متكافئ. غير ان التجربة البرلمانية لمختلف البلدان تشير الى ان مبدأ المساواة هذا قلما يفعّل بشكل كامل، وخصوصا في مجال الاختصاصات المالية. وربما شكلت تجربة الولايات المتحدة مثالا صارخا على خرق مبدأ المساواة هذا. فمجلسا الكونغرس الامريكي، مع انهما متساويان في مجال الوظيفة التشريعية، حيث يمكن التقدم بمشارع القوانين لاي من المجلسين، فان كل مجلس يتمتع بما يمكن ان نطلق عليه الصلاحيات الخاصة. حيث تدخل الصلاحيات في المجال المالي ضمن الاختصاصات الحصرية لمجلس النواب. فالفصل السابع من المادة الاولى لدستور الولايات المتحدة تحصر مهمة مناقشة واقرار مشاريع القوانين في المجال المالي بمجلس النواب فقط،، تاركا لمجلس الشيوخ امكانية اقتراح التعديلات او الموافقة على مناقشتها كبقية المشاريع الاخرى (غير المالية). وبذلك يكون المشرع الامريكي قد منح مجلس النواب الدور المحوري في هذه العملية، فيما حصر مهمة مجلس الشيوخ باقتراح التعديلات فقط. واذا كانت بعض بلدان امريكا اللاتينية التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة، قد تاثرت بالنموذج الامريكي في مسألة توزيع الاختصاصات بين مجلسي البرلمان، فان دساتيرها نصت صراحة على اولوية مجلس النواب في سن التشريعات في مجال الاختصاصات المالية (الارجنتين والبرازيل مثالا). وتبدو اختصاصات مجلس البرلمان الاعلى (مجلس الشيوخ، مجلس الاعيان، مجلس الاتحاد...الخ) في المجال المالي لكثير من برلمانات البلدان الفيدرالية اقل بكثير من تلك التي يتمتع بها مجلسه الادنى (مجالس النواب). ففي استراليا، على سبيل المثال، حيث يتمتع مجلسا البرلمان باختصاصات متساوية وفق الدستور ايضا، تمثل صلاحيات البرلمان المالية شذوذا عن القاعدة. اذ لا يمكن التقدم بمشاريع القوانين الخاصة بفرض الضرائب الى مجلس الشيوخ (المادة 53)، وليس بمقدور المجلس المذكور اقتراح تعديلات تهدف الى زيادة الضرائب. وهنا اجد لزاما الاشارة الى ان المشرع الاسترالي اعطى لخرق التوازن في توزيع الاختصاصات بين مجلسي برلمان الدولة بعدا دستوريا حين اورد عبارة " ما عدا الحالات المقرة دستوريا" (التوكيد لنا)، فان مجلس الشيوخ يتمتع بحقوق متساوية مع مجلس الشيوخ (المادة 55). ولم يختلف الدستور الكندي في تثبيت مبدأ المساواة بين مجلسي برلمان الدولة، لكنه ذهب، شأن دساتير الدول الفيدرالية الاخرى، الى منح مجلس النواب حقوق حصرية في مجال التشريعات المالية، مشترطا في ذات الوقت ان يكون اقتراح مشاريع القوانين (او تعديلها) من قبل مجلس الشيوخ مرتبطا بتخفيض الضرائب فقط. وربما كان ذلك لحماية المواطن الكندي اقتصاديا.
ويبدو التفاوت في تحديد اختصاصات مجلسي برلمان الدولة الفيدرالية في مجال التشريعات المالية جليا ايضا خلال مناقشة واقرار ميزانية الدولة. ففي الهند،مثلا، مع ان مشروع الميزانية السنوية يقدم الى مجلسي البر لمان في آن واحد، لا تحمل اقتراحات وتوجيهات مجلس الولايات صفة الالزام بالنسبة لمجلس النواب. على انه لابد من الاشارة هنا الى ان المشرع الهندي حدد فترة اسبوعين لتقديم مجلس الولايات لمقترحاته وتوجيهاته بصدد الميزانية، لكن القانون المالي الاهم يعتبر مقرا من قبل مجلس النواب، سواءا تم الاخذ بتلك الملاحظات والاقتراحات او لم او لم يؤخذ بها. اما في المانيا فقد منحت التشريعات مجلس البرلمان الاعلى ( البندوسرات) حق مناقشة الميزانية السنوية، غير انها (التشريعات) ادرجت مشروع قانون الميزانية ضمن مشاريع القوانين التي لا يتطلب اقرارها مصادقة البندوسرات.
عند الحديث عن توزيع الاختصاصات بين مجلسي البرلمان في الدولة الفيدرالية لابد من تناول التجربة الدستورية لواحدة من اكبر الدول الفيدرالية واكثرها تعقيدا. فقد ذهب الدستور الروسي لعام 1993 الى حصر عملية تقديم مشاريع القوانين الى مجلس البرلمان الادنى (مجلس الدوما)، حين اشارت المادة(104) الى ان " كافة مشاريع القوانين تقدم الى مجلس الدوما"، حيث يقوم الاخير بمناقشة تلك المشاريع واقرارها، وتوكل اليه ايضا مهمة معالجة اعتراضات مجلس الاتحاد ورئيس الدولة على القوانين المصوّت عليها في مجلس الدوما، وبامكان الاخير ازالة الطعن من خلال التصويت مجددا باغلبية الثلثين على القوانين المطعون بها. لكن ذلك لا يلغي مساهمة مجلس الاتحاد في العملية التشريعية ذلك ان القوانين الفيدرالية المصوّت عليها في مجلس الدوما تحال خلال خمسة ايام الى مجلس الاتحاد للمصادقة عليها. بالاضافة الى ذلك فان ثمة خصوصيات تتميز بها التشريعات المالية في روسيا الفيدرالية، فالمادة (106) من الدستور تنظر في الزامية مناقشة مجلس الاتحاد للتشريعات الخاصة بالميزانية ومنها: الضرائب والمكوس، والعملة الصعبة، والقروض بانواعها، والجمارك...الخ. وهنا ارى ضروريا الاشارة الى واحدة من النقاط الاكثر اهمية فيما يخص العملية التشريعية بالنسبة للسياسة الضريبية في روسيا، والتي وجدت انعكاسها في الدستور، حيث ذهبت الفقرة الثالثة من المادة (104) الى " ان كافة مشاريع القوانين الخاصة بزيادة الضرائب او الغائها، وكذلك فرض ضرائب جديدة، ومشاريع القوانين التي يتطلب تنفيذها تخصيص اموال من ميزانية الدولة، يجب ان ترفق بتقرير مفصل من الحكومة".
عند تحليل القواعد الدستورية الخاصة بتنظيم اختصاصات مجلسي برلمان الدولة الفيدرالية لا ينبغي، باي حال، التقليل من دور مجلس البرلمان الثاني في مجال رسم وتنفيذ السياسة المالية والضرائبية للدولة. فكونه ممثلا لاقاليم الدولة الفيدرالية، يقوم مجلس البرلمان (الاعلى) بلعب دور كبير، وخصوصا عندما يتعلق الامر بوضع الضرائب وتحديد حجم الايرادات والمصروفات، وحصة الاقاليم المخصصة في الميزانية السنوية للدولة...الخ. وبذلك يكون قد ساهم في تامين مشاركة الاقاليم في رسم وتفعيل السياسة الضرائبية للدولة، بالاضافة الى توزيع الثروات بين الدولة الفيدرالية (المركز) واقاليمها.
انني ارى ان استكمال بناء اجهزة الدولة الاتحادية، وتعزيز صلاحياتها، والحيلولة دون اشاعة الفهم الخاطئ لمبدأ اللامركزية، بالاضافة الى العمل على اقرار تشريعات واضحة وغير قابلة للتنازع، سيكون له بالغ الاثر ليس في الحفاظ على وحدة العرق فقط، وانما في تنمية اقاليمه ايضا.
د. فلاح اسماعيل حاجم
ستاذ جامعي
موسكو / روسيا